أمين الحزمي (الإسلام اليوم) : أرسل لكم بحثاً مصغراً وبلغة علمية بسيطة عن الحساب الفلكي والاخذ به شرعاً ، وخاصة في الغرب حيث الاقليات ، ويتزامن مع مؤتمر توحيد التقويم المنعقد في استانبول ولعل في اقتراب رمضان وانعقاد هذا المؤتمر مناسبة لنشر مثل هذه المقالات التي تمثل احدى وجهات النظر حول الموضوع
اتمنى نشره ،،،ان رأيتموه مناسباً ولا يخالف سياسات النشر،، ولكم خالص الشكر والعرفان
اخوكم: أمين الحزمي، عضو المجلس الاوروبي للافتاء والبحوث، رئيس لجنة الفتوى والبحث العلمي - الجمعية الاسلامية الايطالية للأئمة والمرشدين،، واترككم مع المقال ،،،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فبعد تَبَنِّي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث العمل بالحساب الفلكي في إثبات الشهور، ومن ثم قيام الجمعية الإسلامية الإيطالية للأئمة والمرشدين، وكثير من المؤسسات الإسلامية في إيطاليا وعموم أوروبا بتبني ما ينشر من بيانات المجلس في تحديد بداية رمضان والعيد - يتساءل عدد من المسلمين في أوروبا: لماذا تعتمدون الحساب الفلكي في إثبات الشهور، ولا تعتمدون الرؤية البصرية التي سار عليها المسلمون عبر العصور، وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..)؟
أولاً- نصوص القرآن الكريم لم تُحَدِّدْ صراحةً وسيلةً بعينها لإثبات الشهور، بل تركت الباب حمّالاً لأوجه؛ ليظل باب الاجتهاد في تحديد الوسائل مفتوحاً .
من ذلك قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، ومن معاني شَهِدَ "حَضَرَ" و"عَلِمَ" كما قال ابنُ عاشور في التحرير والتنوير.
والعلم بالشهر كما يحصل برؤيةِ الهلال يحصل بعلم الحساب الدقيق.
بل يمكن أن يُفْهَمَ من نصوص القرآن إشاراتٌ إلى مسألة الحساب الفلكي، كقوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) أي: بحسابٍ مُتْقَنٍ دقيقٍ، لا يضطرب ولا يتغير.
فإذا كان القرآن قد أشار إلى الحساب الدقيق في حركة الشمس والقمر، وظهرت دقة ذلك الحساب مع ثورة الاكتشافات العلمية ووصول الإنسان إلى القمر، كحال بقية الآيات العلمية التي تتضح معانيها مع تقدم العلوم تحقيقاً لقول الله تعالى: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) حتى أصبحت مراكز الفلك ترصد حركة الشمس والقمر المتوقعة لآلاف السنين القادمة، بل وتحدد - على سبيل المثال - لحظةَ الخسوف ابتداءً وانتهاءً بالثانية. فلماذا - والحال هكذا - لا يُسْتَفَادُ من هذه المعرفةِ الجديدة تطبيقاً للقرآن وإعمالاً لعلومه ومعارفه؟؟
وهنا نلحظ الربط بين "منازل القمر" و"مَعْرِفة السنين والحساب"، والسنين هي مجموعة أشهر، فإذا ضبطت بناء على معرفة تلك المنازل ومعرفة "الحسبان" الدقيق الذي أشارت إليه الآية السابقة، تَحَقَّقَ مقتضى قوله تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ).
ثانياً- السنة النبوية المطهرة جاءت لتحدد الوسائل السهلة الممكنة في الزمان الذي تنزل فيه الوحي وهي:
1- رؤية الهلال.
2- إكمال العدة: وذلك عند تعذر الرؤية لغيم ونحوه.
3- التقدير: وذلك عند تعذر الرؤية بسبب الغيم أيضاً. و"التقدير" يأتي:
بمعنى "الإكمال" كما ذهب إليه الجمهور.
وبمعنى "التضييق" وهو عكس الإكمال، وإليه ذهب أحمد وجماعة.( المنهاج شرح صحيح مسلم 7/266)
وبمعنى "الحساب" كما في حديث الدجال آخر الزمان وفيه: قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما لَبْثُهُ في الأرض؟ قال: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُم)، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الذي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فيه صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قال: (لَا.. اُقْدُرُوا له قَدْرَهُ..) أي: "احسبُوا له"، وإلى هذا التفسير ذهب ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وبن قتيبة وآخرون ، ومالَ إليه مُحَدِّثُ المغرب الحافظ أحمد الْغُمَارِي رحمه الله( انظر توجيه الأنظار لتوحيد المسلمين في الصوم والإفطار ص52).
ثالثاً- حال الحساب الفلكي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وقروناً بعده كان على النحو الآتي:
1- كان مختلطاً بالتنجيم المحَرَّمِ شرعاً (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ).[أبو داود وحسَّنه الألباني]. أما اليوم فقد انْفَصَلَ عِلْمُ الحساب عن علم التنجيم والكهانة، وأصبح عِلْماً قائماً بذاتِهِ على أصولٍ مَنْهَجِيَّةٍ بَعِيدةٍ كل البعد عن التنجيم والخرافة.
2- كان ظَنِّيّاً غير منضبط وقائماً على التخمين والحَدْسِ، أما اليوم فقد أصبحت نتائجه يقينية حيث صار من المقرر المعروف عالميًا اليوم: أن احتمال الخــطأ في التقـديرات العلمـية الفلكـية هو نســبة 1 - 000001 في الثانية!!.
للسبَبَيْنِ السابِقَيْنِ شدَّدَ كثيرٌ من العلماء المتقدمين وحذَّرُوا منَ الاعتمادِ على الحساب الفلكي في إثبات الشهور، بل نَقَلَ عَدَدٌ منهم الإجماعَ على عدم مشروعية الاعتمادِ عليه، ومنهم ابن تيمية. ونصُّوا - عند نقلهم الإجماع - على هذه العللِ، مِنْ كونه تنجيماً وظنّاً وتخميناً، (انظر مجموع الفتاوى 25/108-109 وانظر فتح الباري ج4، ص127وغيرها ) وعليه فهو إجماعٌ - إن صَحَّ - مُعَلَّلٌ بهذه الأسباب، فحيث وُجِدَتْ امتنع العمل به، وحيث انتفت لم يَعُدِ الإجماع قائماً، وسقطت معه مبرراتُ أكثرِ المتقدمين من العلماء.
رابعاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هكذا وهكذا، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث - كما ذكر كُلٌّ من العلامة محمد رشيد رضا والعلامة المحدث أحمد شاكر - إشارةٌ إلى أن الأمر بالرؤيةِ مُعَلَّلٌ بكون الأمة في زمنه لا تَكْتُبُ ولا تَحْسُبُ (أيْ ليس عندها عِلْمُ الحساب). وهذا واضح الدلالة في أن سبب عدم الاعتماد على الحساب هو غيابه عند الأمة، بما يعني أنه حين يوجد فلا بأس من الاعتماد عليه.( انظر تفسير المنار الطبعة الثانية 1366-1947 دار المنار جزء 2/186)، وانظر رسالة (أوائل الشهور القمرية لأحمد شاكر)
خامساً- من الناحية العملية فإننا نعتمد على الحساب الفلكي في صلاتنا وهي الركن الذي يسبق الصوم، ونعتمد عليه في إمساكنا فجراً وإفطارنا مغرباً، فلم يبق سوى دخول الشهر وخروجه!!
وكما تردد العلماء في السابق في الأخذ بالحساب في مواقيت الصلاة ثم عملوا به في أنحاء العالم، فإنه ومع زيادة المؤيدين للأخذ بالحساب من العلماء المتأخرين، سيأتي اليوم الذي يكون أكثر قبولاً في العالم الإسلامي.
سادساً- العلم الذي يفيدُهُ الحسابُ أقربَ إلى اليقين من العلم الذي نستفيده من شهادة الشهاد أو الشاهدين برؤية الهلال، مهما بلغَا من التقوى والأمانة إذِ احتمالية الخطأ في الرؤية واردة، وقد حصل هذا كثيراً ، خاصة مع امتلاء الأفق بالْمَرْكَبَاتِ الفضائية المختلفة، وقد عُرِفَ في شريعتنا الغراء توجهها إلى البناء على اليقين ما أمكن وتقديمه على الظن.
سابعاً- حتى على القول بالرؤية فإن هذا لا يعني رفع الخلاف وحسمه كما يتصور البعض، فإذا قلنا بالرؤية هل تكفي رؤية شاهد عدل!! أم عدلين!! أم لا بد من استفاضة الشهود!!
وهل يعتد باختلاف المطالع بحيث يصير لكل بلد مطلعه ورؤيته!! أم يكفي رؤية أي بلد مسلم!! وقد قال بكل واحدة من هذه الأقوال أئمة ومذاهب، ثم هل يشترط رؤية العين المجردة أم يجزئ عنها وسائل الرصد الحديثة!
وهذا مع الأسف جزء من أسباب تفرق البلدان الإسلامية حول الموضوع؛ لأن لكل بلد معياراً مختلفاً.
ثامناً- القول بالحساب الفلكي الذي يقضي بإمكانية الرؤية لا بمجرد ولادة الهلال -وهو الذي تبناه المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث- هو القول الذي يجمع بين مقاصد النصوص ولم يهمل ظواهرها، فهو لم يلغ الرؤية بالكلية ولم يكتف بمجرد الولادة. وبالمقابل لم يهمل نتائج العلم والحساب، كل ما في الأمر أنه يعتبر قول العلم بإمكانية الرؤية بمثابة شهادة مسبقة حلت محل الشهادة المباشرة بل هو أقوى منها، كتحديد الحساب لوقت غروب الشمس مسبقا قبل التحقق منه بالمشاهدة، وبهذا يكون الأقرب في نظرنا إلى الجمع بين النص ومقصد النص.
ومع كل ما سبق فإن المسألة ستظل مسألةً اجتهادية خلافية، تختلف فيها أنظار وأفهام العلماء، ولا يجوز أن يعقد عليها الولاء والبراء والخصومات، وينبغي فيها السعي لتحقيق الاجتماع ووحدة المسلمين داخل البلد الواحد على الأقل.
وبما أنها مسألة خلافية فإن للمسلمين في هكذا حالة، البحثُ واختيار القول الذي يراعي مصالحهم؛ إذ الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد ورفع الحرج عنهم.
ولهذا رأينا في (الجمعية الإسلامية الإيطالية للأئمة والمرشدين) ومعنا العديد من الهيئات والمؤسسات الإسلامية في إيطاليا – الأخذ بالحساب، ومبرراتنا الواقعية في هذا الاختيار بالإضافة إلى المبررات الشرعية السابقة:
1- هو ما أَخَذَ به أوَّلُ وأكبَرُ مجمع علمي متخصصٍ في فقه الأقليات في الغرب وهو (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) والذي يضم أكثر من 35 عالماً ينتمون إلى المذاهب الفقهية الأربعة.
2- الاعتماد على الحساب هو الأيسر للمسلمين اليوم، والأكثر تحقيقاً لمصالحهم؛ فمن خلاله يستطيعون معرفة مناسباتهم كـ"رمضان" و"الأعياد" قبل مدة كافية؛ لترتيب أمورهم لهذه المناسبات من قبيل استئجار قاعات العيد للصلاة لمن يصلونه في قاعات مؤجرة قد تصل أجرة بعضها إلى مبالغ كبيرة بالآلاف.
3- رفع الحرج الذي يجده شبابنا، وتعزيز انتمائهم لهذه المناسبات وذلك أنه عندما يسأل أبناؤنا وشبابنا في المدارس والجامعات من قِبَلِ زملائهم ومعلميهم عن أهم مناسباتهم الدينية كرمضان أو العيد من باب حب الاطلاع، فأنهم يجدون حرجاً كبيراً حين يعجزون عن تحديد الإجابة - على اعتبار أنها لن تتحدد إلا قبل ليلة - في بلد كل مناسباته معلومة ومعروفة ومحددة، مما يجعل ذلك سبباً في الطعن في الإسلام أو السخرية منه، وربطه بالتخلف. ولا شك أن لذلك تأثيراً كبيراً على أبنائنا وشبابنا، وعلى انتمائهم لهذه المناسبات وتطلعهم لها.
4- في سعينا للحصول على الاعتراف بالإسلام - إن شاء الله - فإنه من الطبيعي أن يكون مطلوباً للجهات الرسمية التحديدُ المسبق لأيام الأعياد من أجل حق المسلم في إجازة رسمية من العمل فيها؛ ليمارس شعائر وحفلة العيد مع عائلته وإخوانه المسلمين، وحتى في ظل عدم الاعتراف بالإسلام فإن المسلمين إذا عَرَفُوا سلفاً وقت مناسبة العيد، تمكنوا من أخذ إجازاتهم بسهولة، أما إذا كان العيد متردداً بين يومين فإن ذلك سيجعل أخذ الإجازة أكثر صعوبة، وهذا ما يمنع عشرات الآلاف من المسلمين من شهود العيد، ومعلوم ما للعيد بشعائره وفعالياته المختلفة من أثر وخاصة في الغرب، فهو يعد أحد مظاهر تعزيز الهوية الدينية للمسلمين.
وختاماً- فهذا ملخص لبحث طويل كتبته فصلت فيه أقوال العلماء وأدلتهم ومصالح الأخذ بالحساب الفلكي بعنوان: (الْحِسَابُ الْفَلَكِيُّ فِي إِثْبَاتِ الشُّهُورِ، مِنْ خِلالِ آراءِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهِمْ، وَالْمآلاتِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوُجُودِ الإِسْلامِيِّ في الْغَرْبِ).
أسأل الله أن يجمعنا على رمضان ابتداءً وانتهاءً، وأنْ يوفقنا إلى صيامه إيماناً واحتساباً، وأن يجعلنا فيه من المقبولين، والله الموفِّقُ والمعين.
مواقع النشر