مِن ضِمن الأسئلة التي يجب طرحُها في مقاربتنا للعلم والتقنية: السؤالُ عن الطريقة التي يتمكن الإنسانُ المستقبلي بها من التعامل مع موجات مذهلة وانقلابية وجريئة إلى حد الوقاحة من تطبيقات العلوم.
ويأخذ الأمر طابعَ السؤال الجدي في الذهنية المتدينة، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، حتى لو كنا أخفقنا حتى الآن في قراءة الحاضر، بل والماضي نفسه؛ فعدم القدرة على قراءة المستقبل قد تكلفنا الكثير في مجال المحافظة على الحد الأدنى من ثوابت الشخصية المسلمة. علينا أن نهتم بالأمر حتى لو لم نكن منتجين للتقنية الحديثة، وعلينا أن نتباحث كمسلمين مع من يشاطرنا القلق بشأن أخلاقيات العلم، نتباحث معه مهما اختلفنا معه في المنطلقات.
قد نعلم أن الاتجاهات والأيديولوجيات (العُقد) والثقافات لها تأثيرها في مجال التقنية، فعلى سبيل المثال: فكرة التفوق الأمريكي عند الشعب وعند القيادات السياسية ساعدت مساعدة ملحوظة ومتسارعة في تطوير برنامج الفضاء الأمريكي للهبوط على سطح القمر، فهنا التقنية ترجمت إلى نزعة وشعور. كما أن فكرة الخلود وأهمية حفظ الجسد لصالح الحياة الأخرى وسيطرة تلك الأفكار على عقائد الفراعنة مكنتهم من الحصول على وسيلة ممتازة للتحنيط.
أما ما أحب أن أوضحه ابتداءً قبل الخوض في تفاصيل الهاجس الأخلاقي والإسلامي من التطور العلمي الحرون، فيتعلق -على عكس الهبوط على سطح القمر- بتأثير التقنية والاختراعات والأجهزة الحديثة على الاتجاهات والأفكار والنزعات تأثيرًا مدهشًا.
فعلى سبيل المثال: كان لظهور (الجينز) تأثيرٌ واضحٌ على سلوك الشباب، فظهر الرجل الخشن العملي بدلا من الرجل الصقيل الكلاسيكي. واختراع (الووكمان) أدى إلى ظهور نمط الرجل المنطوي المكتفي بذاته المقتصد في الاتصال البشري كنمط عصري.
أما من الناحية الأخلاقية، فإن ظهور حبوب منع الحمل كان له تأثيرٌ ما على فداحة وتداعيات العلاقة الجنسية غير الشرعية، لا شك في ذلك.
وكتاب (قاسم أمين) عن تحرير المرأة لم يصنع شيئًا ذا بال في مسألة خروج المرأة للعمل، وربما كان لصانع الغسالة الأتوماتيكية أثرٌ أعظم في هذا المضمار، فقد اختصر بماكينته وقت الغسيل الذي كان يستغرق من الجدات ساعات طوال، إلى وقت قليل جدًّا بلا مجهود يذكر، فامتلكت الحفيدات وقتًا للخروج إلى العمل.
يمكن مثلا حاليا أن نصف تأثيرًا ما للتطبيقات العلمية، مثلا في مجال الاتصال عن طريق الهواتف المحمولة، بأنه ولد شعورًا مستحدثًا بالإعاقة، فهو تحوَّل من ميزة خاصة إبَّان ظهوره إلى عكاز، أو جهاز تعويضي. يمكن أن تشعر بارتباك شديد وإحباط وعجز كالذي يشعر به المعوَّق عندما يفتقد كرسيه المتحرك أو عكازه أو ساقه الصناعية، وذلك عندما يضيع جوالُك.
لذا فقد يستغني كثيرٌ من الآباء عن حمل أطفالهم، لكنهم لا يستغنون عن حمل جوالاتِهم، وجوالاتُهم هي التي تحملهم في حقيقة الأمر.
فإذا كان ما سبق مقدمة ضرورية لإثبات أن التطبيقات العلمية لها فعلها في مجال السلوك والقيم المجتمعية، وإذا ما أخذنا في الاعتبار فارق (الاستيعاب) الحاصل بين مخترع التقنية في العصر الحديث ومستخدمها موازنة بمثيليهما في عصور قديمة، وهو ما يؤدي إلى نوع من استسلام ورهبة، فالفارق بين مخترع آلة الحرث العادية أو آلة عصر الزيتون ومستخدم المحراث أو صاحب معصرة الزيتون في العصور القديمة من ناحية (الاستيعاب) هو فارق يسير جدًّا، ففي الحالتين قد ألَمّ المستخدم بالنظرية التي بنى عليها المخترعُ الأول اختراعَه.
لكن هذا ليس حال معظم المتعلمين منا الآن مع جهاز الفاكس، الرابض على المكاتب، فمع كل ما قيل، فقليلون هم من يفهمون كيف تمر صورة طبق الأصل لورقة من مكان لآخر، لذا فالهوة واسعة جدًّا بين هذا الذي اخترع الفاكس -أو لنقل من يصنع الفاكس الآن- وبين من يستخدمه، وهذا هو الحال مع معظم الأجهزة، ومنها الجوالات والحواسب.
أنت في معظم الأحوال تستخدِم، ولا تفهم كنه ولا طبيعة ولا نظرية عمل ما تستخدِم، وهذا يجعلك تشعر بالرهبة من العلم وبالاستسلام أيضًا، وكلما زادت الهوة بين العلم ومستخدميه مستقبلا سيكون أحفادنا أكثر طواعية واستجابة.
وبعدما جعلنا ما سبق مقدمة، وبعد إضاءتنا لنقطة الفارق بين المخترع والمستخدِم، فإننا نشير إلى بعض المظاهر المتوقعة لموجات العلم القادمة التي ستهدد المجتمعات البشرية في ثوابتها.
فهناك تفكير في تزويد كل موانئ العالم الجوية بأجهزة أشعة، يمكنها أن تكشف أي شيء مخفي بين ملابس المسافر، كذا ستظهره عاري الجسم، في سبيل التحقق من عدم حمله لأي مواد ممنوعة قانونًا مثل المتفجرات.
ولن يجد المتدينون وأصحاب الحياء الفرصة نفسها للتقلب في البلاد كالتي ستتاح لغيرهم ممن لا يشعرون بالخزي من تصويرهم عرايا. وسيصير البقاء للأفجر، بدلا من شعار الداروينية الشهير (البقاء للأقوى)، وبعد جيل أو جيلين، ستهدأ الأمورُ، وسيرى موظفو أجهزة الأشعة الكل عرايا، يمرون في هدوء؛ لأن القليلين جدًّا هم من لديهم استعداد للاستغناء عن السفر لأسباب غير الأسباب الاقتصادية.
يعكف البعض على صناعة حبوبٍ مهمتُها تحقيقُ الاتزان النفسي للإنسان، فواحدة للبهجة، وتلك للثقة بالنفس، وهذه للشعور بالنِّدّية والعظمة. أنت لم تعد من الآن بحاجة للمكابدة والمثابرة والجري لتنجح فترضى عن نفسك، فهذا كله من الممكن صيدلانيًّا توفيرُه لك بمعزل عن الظروف المحيطة بك، بمعزل عما يجرى عليك، أنت سعيد!.
في حين يفكِّر البعض الآخر في قطاع محتلف؛ في الطريقة التي يمكن بها تزويدُ المخ البشري بوحدات ذاكرة حاسوبية فائقة المستوى، ووقتها يمكنك أن تتذكر كل شيء عن أي شيء، حتى لو لم يكن له قيمة، مثل تذكُّر لون رابطة العنق لمذيعك المفضل التي ارتداها في حلقة البرنامج في مثل هذا اليوم من العام الماضي (ولن تنبهك الدعاية إلى أنك ستتذكر أشياء مخزية ومقبضة ومؤلمة أيضًا). ملفات كثيرة في عقلك بعد إضافة وحدات الذاكرة، كم أنت متوهّج الآن ومشحون!.
هناك مستقبل جيد ينتظر أبناءَ الأغنياء في الأجيال القادمة: سيلتحقون بأفضل المعاهد والكليَّات العلمية، فثمة حقنة تنشط الذاكرة، وتحفِّز خلايا تحليل المعلومات وربطها، هذا شيء جيد ومريح، ستنهار عنده قاعدة التنافس الشريف، وسينهار ثابت من ثوابت المجتمعات، وبجانب (البقاء للأفجر) يمكنك أن تقول (البقاء للأثرى). أما عبارة مثل (مَن جَدّ وَجَد) ومثيلاتها فستُدرس أنثروبولوجيًا باعتبارها من أفكار جماعات تاريخية.
مخابراتيًّا وأمنيًّا، هناك جائزة كبرى: من خلال حقن الرجل المستجوَب العنيد بحقنة (الصراحة) سيحكي كل ما لديه بلا أي تهديد أو لكزة في الجانب، سيتكلم وحده، ولن يخفي شيئًا، العلم هنا قادر على تقديم رجل متعاون إلى أبعد حد.
أما من أجل الجيوش، فهناك من يعمل على سلاح بيولوجي كارثي، سيقصف الحصون الأخلاقية لجيوش الأعداء، فتنتابهم حالةُ سعار جنسي رهيبة، فيمارسون الشذوذ الجنسي بشكل قهري مكشوف، ولا تسأل عن كفاءتهم القتالية بعدها، ولا تسأل عن شعورهم بالكرامة. ومن يعمل في هذا المعمل يرى أن هذا أفضل من قتل الجنود!.
هذه صورة قاتمة للمستقبل التقني وتداعياته على نسق القيم العالمية، ولم يستعد لها المسلمون، ولم يستعد لها المفكرون المسلمون، والعلم قادم في شكل تسونامي رهيب، وقيمنا على المحك.
مواقع النشر