داهمنا جميعًا خبرُ إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في عدد كبير من صحف الدنمارك، في اتفاق غريب للإغاظة والاستفزاز، إنها نكاية وليست حرية تعبير هذه؛ وقد وقعوا في فخ أخلاقي إذ جاء ذلك ردًّا منهم على محاولة اغتيال الرسام، فتحول العمل الأخرق (نشر رسوم مسيئة) من عمل بشع حاولوا تسويغه بميراثهم الفكري (حرية التعبير)، إلى عمل بشع خارج من تسويغهم القديم الذي لم نقبله، إلى فضاء من الروحية الثأرية.
وقد أعادونا مرة أخرى إلى داخل الحلبة التي كرهناها؛ كرهناها لأنها ارتبطت بتلك الصدمة الأولى للجمهور المسلم من تعدي الآخر على نبينا العظيم -صلى الله عليه وسلم– دون أدنى مراعاة منه لمشاعر 1.3 مليار مسلم يسكنون جميع أنحاء الأرض. وقد دخلنا الحلبة بناء على هذا الاستدعاء السخيف المتطاول، أو لنقل إن عربة (النُصرة) تحركت في الطريق نفسه الذي داهمنا فيه جَمَلُ كاريكاتير غربي سائب، وهذا أقل وصف ممكن للعبثية والصدمة والفوضى التي شعرنا بها، وأقل وصف ممكن لقوة الارتطام.
ومن الملاحظ هذه المرّة –وبكل أسف– على نطاق واسع، ذاك (التنسيم) المخزي في إطار عربة (النُصرة)، مع أن العربة هي العربة، والركّاب هم الركّاب، والطريق هو الطريق، والجمل هو الجمل (إذ إن النشر هو إعادة نشر للرسوم القديمة)، فما الذي تغير؟!
ما الذي تغيّر للدرجة التي تدفعني إلى استحضار مقولة عربية شهيرة استدعيناها مع الحملة الشرسة الأولى، ولكن بشيء من (التصرف والزيادة):
((الكلاب تنبح والقافلة تسير.. ببطء)).
ردة الفعل هذه المرّة كانت ضعيفة جدًّا حقيقة، بدرجة كافية لطرح سؤال عن الأسباب الكامنة وراء هذا (التنسيم)؛ علينا أن نفهم محركات هذا الجمهور الواسع من المسلمين، ومتى تتراجع قضاياه الكبرى، ومتى تقفز للأمام، ومتى تُنسى تماما. وأخشى ما أخشاه أن يحدث لدينا شيئًا فشيئا نوعٌ من (التطبيع) مع الإساءة للرسول -صلى الله عليه وسلم– إذا ما حدث –لا قدّر الله– ارتطام آخر على الطريق نفسه.
وأنا لست من دعاة تهييج الشارع الإسلامي بطريقة غير منضبطة، وضد أي مظهر عفوي أو فردي قد يؤدي لإمعان الغرب في إغاظتنا بنشر المزيد، وإنما أنا من دعاة الغضب المنتِج، ومن دعاة صنع شيء جيد من الأشياء السيئة.
وبحثي عن أسباب (التنسيم) يدفعني للتعبير عن عدم ارتياحي لبعض ما ينشر على الشبكة العنكبوتية، إذ نرى أنماطًا متباينة من أنواع التفكير الإسلامي القائمة.
ومنها: أن ثمة من يدعو لحصر النصرة والمقاطعة في الملتزمين، نعم. وبصرف النظر عن مناقشة منطقه، فأنا لا أعرف الآلية التي سينفذ بها فكرته. ومنها أيضًا من يدعو لحصر (النُصرة) تحت مظلة مذهبية، نعم. وبدون مناقشة منطقه أيضًا، لا نعرف الآلية المناسبة لمنع المظلات الأخرى من المشاركة في المقاطعة.
ونلحظ في الطرحين، وغيرهما كثير، أن صاحب الطرح لا يتفهَّم أساسًا كون المقاطعة فعلا كميًّا، يحتاج لعدد مشارِك، وليس لنوع المشارِك. كما أن أصحاب مثل هذه الأطروحات يتناسون أن الجمهور العادي لا يحب أن يرى مشاجرة تحت لافتة (النُصرة)، وليس لديه رغبة في تفاصيل جانبية ليست من صلب الموضوع، الجمهور العادي يتبلبل بسرعة، وينسحب بسرعة.
هذا بخلاف التشكك أو التخوين الموجهين ضد تيار يدعو لتقديم رسائل تجمع بين الاحتجاج وشرح شيء من خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم– وتعاليم الإسلام لهذا الآخر الذي لا يعرفنا. هذا مع أن هذا الجهد على الإنترنت يتماشى مع جهد قد دعمته جهات محترمة، تأسست على أرضيته مسابقات تُعنى بالنشر العلمي بلغات الآخر، ومنها جهد رابطة العالم الإسلامي، وجهد موقع نبي الرحمة بتمويل من مؤسسة الشربتلي، وجهد د. خالد الجريسي من موقع الألوكة، ولا ننسى جائزة الأمير نايف التي جعلت أحد موضوعاتها في الدورة الرابعة محمد رسول الله المبعوث رحمة للعالمين (باللغة الإنجليزية).
هذا التيار الذي آمن بجدية المجهود الدعوي كوسيلة أساسية من وسائل النصرة، والذي يستنير بجهد شخوص وهيئات محترمة، لا يعمل على إعطاب مقاطعة، بل يعمل على موازاتها بجهد دعوي وإعلامي مأمول وشبه غائب.
لذا علينا أن نحترس كثيرًا في المزايدات التي تنطلق من هنا وهناك من خلف (معرّفات)، وقد شاركت بطريقة ما في تشتيت متصفِّح الإنترنت الذي لا يحب (الشجار الداخلي).
وكلا الفريقين نزيهان لا ريب في ذلك، و(إذهاب الريح) لم يكن ممن عملوا على جهد إعلامي دعوي، ولم يكن أيضا من الغيورين المرتابين، ولكن تلك المزايدة عبر الإنترنت شاركت بطريقة ما في جعل الحليم من المتابعين حيرانًا.
والحق أن هذا ليس السبب الأول أيضًا من وجهة نظري، فالعربة بدت متهالكة منذ انطلاقها من محطتها؛ وفي حال كهذه لا تفتش عن شيء ما في الطريق أعطبها، بل فتِّش داخلها.
المخيف في الأمر أنه يمكنك أن تنظر للنصرة في هذه الأوقات العصيبة باعتبارها مؤشرًا لصحة الأمة؛ فردة الفعل مختلفة تمامًا عن مثيلتها في الأزمة الأولى، وكلما بدا أن ردة الفعل أضعف فعليك أن تبحث عن الأسباب الباطنة في جسد الأمة الإسلامية، تبحث عن أسباب تدهور مريب حدث في شهور قليلة.
فإذا قلنا إن العربة هي العربة، والطريق هو الطريق، والجمل هو الجمل، فإن عليك أن تدقِّق في الركاب؛ مع أنهم يحملون الوجوه والسمات نفسها، إلا أن شيئا ما تغيَّر داخلهم.
والإجابة معتمدة على تحليلات عدة تتعلق بالتضخم وارتفاع الأسعار، وثورة الفضائيات الغنائية، وحمى الكرة، وحمى الشعر، حتى الوصول إلى الإنهاك النفسي للإنسان المسلم من كثرة المصائب الخارجية وتتابعها عليه، وخاصة في فلسطين، مما أفقده القدرة على التفاعل الطبيعي.
وبعد هذا العرض أقول: إن الصيانة الكاملة للعربة - عربة (النصرة)- ضرورة ملحَّة ولا شك، ولكنها من قضايا النَّفَس الطويل، ولأسباب تتعلق بأهمية وجود ردة فعل أفضل مما مضى، حتى لا تصل للغرب أسوأ رسالة، مفادها أننا على وشك (التطبيع) مع الإساءة، وكذلك تفهّمًا لنوعية الركّاب، من نيام لا يدرون، وأيقاظ يتبادلون الشكوك والمزايدات، فإنَّ هناك استبصارًا لذكاء ومواءمة إصلاح سريع وعملي؛ فنحن لا نمتلك الوقت حاليا لتغيير الإطار.
مواقع النشر