[align=justify]أُحِبُأن أنقل هذا الموضوع لكم
إلى كل من يحب القراءة
من جللة القافلة
بيكاسو المسرح جوهر لفن الرسم… وما الحياة نفسها سوى مسرح كبير
28 أكتوبر 2009 -- إبراهيم العريس -- 1710 كلمة
“كان واحد من أحلامي في ذلك الحين ان اصغي الى قيثارات بيكاسو وهي تعزف موسيقاها”…قائل هذا الكلام كان جان كوكتو وهو قاله ذات يوم حين سئل عن علاقته بانصراف الرسام الأسباني الكبير الى فن المسرح اواسط العشرية الثانية من القرن العشرين، بعدما كان بيكاسو قد بلغ من الشهرة مبلغا كبيرا وبدأ يغزو الحياة الفنية الباريسية من حيث لم يكن احد يتوقع. ونعرف من خلال سيرة بيكاسو ان كوكتو قد حقق ذلك الحلم، ولكن بشكل موارب: من طريق سيرغاي دياغيليف، المسرحي والاداري الذي غزا - بدوره – اوروبا حين استقدم مجموعة كبيرة من فناني الباليه الروس، في ذلك الحين لتقديم ما عرف ب “الباليهات الروسية” مجددا- في الآن عينه – في فنون الرقص والموسيقى والازياء والديكور. ولعل في وسعنا ان نقول الأن ان التجديد في هذا المضمار الأخير حمل توقيع بابلو بيكاسو.
والحقيقة انه حين اتصل ديا غيليف، في ربيع العام 1917، بالشاعر الشاب جان كوكتو مكلفا اياه بكتابة نص لعرض باليه تقدمه فرقته في روما لم يكن يعرف ان ذلك الاتصال سوف يضع بيكاسو نفسه في قلب حلم له هو الأخر. ذلك ان كوكتو حين اتصل بدوره- بصديقه الرسام الشاب ليكلفه برسم ستارة العرض وازيائه وديكوراته، لم يفعل هذا لمجرد ان بيكاسو صديقه، او لمجرد انه رسام، أو غارق في الحداثة حتى اذنيه، بل تحديداً لأنه كان قد لاحظ أن الرسام ومنذ وصوله باريس، وعبر خوضه مرحلة رسمه الزهرية ثم الزرقاء وصولا الى مشاركته في ابتكار الفن التكعيبي، انما كان يفرد للمشاهد المسرحية مكانة خاصة. وليس فقط عبر تنظيمه اللوحات بشكل مسرحي استعراضي، بل ايضاً وخاصة عبر رسمه مختلف الشخصيات المسرحية الأتية من عالم “الكوميديا ديل أرتي” ( الهزل المسرحي الايطالي العريق) او شخصيات السيرك، او حتى مصارعة الثيران، مصورا هذا كله ببعد استعراضي اكيد يقول الكثير عن توق بيكاسو الى ان يكون هو نفسه بذهنيته والوانه ومواضيعه، جزءاً من الاستعراض المسرحي.
في الوقت نفسه اذاً، كان بيكاسو، بالتناقض مع رفاقه الرسامين الذين شاركوه اختراع “التكعيبية” واعتادوا الاجتماع اسبوعياً في مقهى “لاروتوند” في حي مونبارناس، كان يريد أن يضاهي في خوضه المسرح، رسامين سابقين له، جعلوا من المسرح موضوعا لهم: (ديلا كروا ولوتريك، كذلك دومييه وديغا أما مضاهاتهم فكانت تكمن بالنسبة اليه، في أن يكون هو، منفرداً بينهم، داخل المسرح وجزءاً من اللعبة، لا مجرد متفرج من الخارج. لقد كان تولوز لوتريك اقرب الجميع الى الوجود داخل اللعبة الاستعراضية، لكنه حدّ نفسه بالكاباريه…اما بيكاسو فانه سيحلق مسرحياً ذاهبا ابعد بكثير. وهذا الأمر اتاحته له دعوة جان كوكتو.
يا للفضيحة
انطلاقا من تلك الدعوة اذاً، ولأن دياغيليف، كان يقدم عروضه ذلك الحين في روما، توجه كوكتو وبيكاسو معا الى العاصمة الأيطالية ليصيغا العرض الاول لفرقة “الباليهات الروسية ” على إيقاع موسيقى لا تقل جنونا عن عملهما، كتبها اريك ساتي، الذي تلاقت نظرته الى فن خال من العواطف مع “شعر” جان كوكتو الذي كان في اساس العرض، مع تكعيبية تزيينية صاغها بيكاسو، ستارة وديكوراً وازياءاً. ولقد حمل ذلك العرض عنوانا ولا ابسط هو “العرض” Parade انما بالمعنى القاموسي للكلمة: اي الاستعراض الساخر الذي يقوم به قوم بائسون. ونعرف ان هذا النوع من القوم كان قد ملأ لوحات سابقة لبيكاسو، ومن هنا لم يكن صعبا عليه ان يضع الرسوم، لنص من كوكتو، يقوم على وجود ثلاثة اشخاص عند باب مسرح يدعون المارة الى الدخول والفرجة مقدمين عند الباب اجزاء من المشاهد الموعودة في الداخل.
اشتغل ساتي وبيكاسو وكوكتو يومها مع دياغيليف وفرقته بكل نشاط وايمان بما يفعلونه..ولكن حين ُقدّم العرض في ليلته الاولى لم يكن النجاح في الانتظار. ولم يكن جمهور الحاضرين العرض الوحيد الذي صخب احتجاجاً، بل ان النقاد والصحافة صرخوا معا في صبيحة اليوم التالي: يا للفضيحة!
فشل العرض، لكن بيكاسو لم يكن خاسراً فهو استثني من الشتائم النقدية بعد ان كان الجمهور صفق لاسهامه التكعيبي في الستارة والأزياء. لكن هذا لم يكن مكسبه الوحيد، اذ كانت هناك ايضا الراقصة الحسناء، اولغا كوكلوفا، الذي وجد بيكاسو نفسه يغرم بها، فيصادقها ثم يتزوجها ليبقيا معا نحو ثماني سنوات، تركته بعدها الى غير رجعة اذ اكتشفت ان له خليلة ثانية. وقد لا نكون هنا في حاجة لأن نشير الى ان السنوات التي امضاها بيكاسو مع اولغا، تزامنت مع سنوات عمله في ديكورات وملابس وستارات – واحيانا مساهمته في النصوص – والموسيقى التي قدمت من خلال فرقة دياغيليف، انما من دون كوكتو هذه المرة – حتى وإن كان بيكاسو سيعود الى التشارك مع صديقه الشاعر والمخرج الفرنسي في غير عمل لاحقاُ. خارج اطار فرقة الباليهات الروسية – وكأن بيكاسو انكبّ على عمله مع دياغيليف كرمى لعيني أولغا. وعلى هذا النحو تتالت الأعمال المسرحية : ففي عام 1919 وانطلاقا من موسيقى ايمانويل دي فاليا، مواطن بيكاسو، كان هناك عرض “ثلاثي القرن”. وفي العام الذي يليه، اقتبس ليونيد ماسين، على وقع موسيقى رائعة لايغور سترافنسكي استعراض “بوليتشينيلا ” من مسرح “الكوميديا ديل آرتي” الذي رسم ستارته وازياءه وديكوراته بيكاسو، مستوحيا مشاهد الهزل القديمة التي كان شاهدها في روما يوم زارها مع كوكتو ايام “العرض” وظلت مؤثرة فيه، رسما ونحتا وديكورات حتى نهاية حياته.
وفي العام 1922، اشتغل دياغيليف مع بيكاسو وفاسلاف نيجنسكي (الذي كان يعتبر اعظم راقص باليه في القرن العشرين في ذلك الحين) لتقديم “بعد ظهر حيوان” على وقع موسيقى كلود ديبوسي، وذلك بعد تجربة اندلسية حالمة على وقع تتابع موسيقى من تلك المنطقة قد تم قبل عام من ذلك. وفي العام 1922 ايضا، كان بيكاسو قد عاد الى التعاون مع كوكتو، في مسرح ” الاتيليه” الباريسي، ولكن ليس في عرض باليه هذه المرة بل في عرض مسرحي تراجيدي مأخوذ من سوفوكس (انطيغونا) من اخراج شارل دولان. والحقيقة ان الهام بيكاسو التزييني (ديكور وملابس ) في هذه المسرحية جعل كثراً يتحدثون عن مؤثرات اغريقية ورومانية في فنه. وبعد عامين من ذلك، عاد بيكاسو الى موسيقى اريك ساتي، ليرسم ديكور وازياء وستارة عمل باليه ضخم عنوانه “مركور” اخرجه ليونيد ماسين. وهكذا اذا، كان بيكاسو قد بدأ يغيب عن نشاطات فرقة دياغيليف تزامنا مع بدء مشاكله مع اولغا. ولكن في اواخر ذلك العام عادت الظروف تجمع مرة اخرى بين بيكاسو وجان كوكتو ونيجنسكي ودياغيليف، لكن هذه المرة في عمل موسيقى من داريوس ميلو، في عرض سيكون اشبه بأغنية البجعة، أي باليه الوداع، للتعاون بين كل هذا العالم الجميل – عنوانه “القطار الأزرق” المستوحى من خط قطار باريس – تولوز الذي كان بدعة تقنية في ذلك الحين.
نهاية غرام
بعد “القطار الأزرق وبعد الانفصال بين بيكاسو واولغا، انتهى عمل بيكاسو مع فرقة الباليهات الروسية بشكل نهائي. لكن علاقة بيكاسو بالمسرح لم تنته، حتى وان كان سيغيب سنوات وسنوات عن النشاط المسرحي المباشر. فاذا كنا لن نلتقي بيكاسو مسرحيا، الأ بشكل نادر خلال السنوات الخمسين الاخيرة التي عاشها حتى رحيله عام 1973، وفي نشاطات جزئية (تصميم صولجان لمسرحية “اندرماك” يحمله جان ماري – ( 1944) وقبله ستارة لمسرحية عنوانها “14 يوليو” ( 1936 ) او ستارة أخرى لمسرحية راقصة لجاك بريفير ورولان بيتي عنوانها “موعد” ( 1945 ) مع استثناءات قليلة تمثلت في تصميمه ديكورات مسرحية ” اوديب ملكا 1947 – او مسرحية “نشيد جنائزي” – 1945 من قصيدة لفدريكو غارسيا لوركا مع عودة الى “بعد ظهر حيوان” في اوبرا باريس هذه المرة (1960)، فاننا نعرف ان بيكاسو لم يكن، منذ العشرينات، في حاجة الى العروض المسرحية نفسها كي يؤكد اهتماماته بالفنون المسرحية وغوصه فيها. إذ هذا الفنان الكبير، الأسباني الأصل والذي ملأ القرن العشرين طولا وعرضا ورسم مئات اللوحات الرائعة وحقق اعمالا لا تضاهى في النحت وفنون الخزف، كما كتب نصوصا ولا أجمل، حرص خلال العقود المتبقية من حياته، على ان يصنع فنه كله تقريباً، تحت شعار المشهد المسرحي. بكلمات اخرى صار هذا الشهد ليس فقط جزءاً مكوناً من معظم المشاهد الذي يرسمها، بل جزءا من روح فنه. ولعله في هذا قد اعاد لهذا الفن مسرحيته الداخلية، التي كانت له قبل ان ينخرط في اللعبة المسرحية الاستعراضية بشكل مباشر. وعلى هذا النحو عاد دائما لللاهتمام برسم شخصيات السيرك، في عملها كما في بؤسها وبالشخصيات المستقاة من الكوميديا ديل آرتي : اركان وبيارو. عاد الى رسم المهرجين لكنه في الوقت نفسه، جعل من كل لوحة من لوحاته نوعا من الميزانسين اذ حتى حين يرسم بورتريه لأبنه ولأمرأة من نسائه، او لأفراد عائلته، يحرص على ان تكون الوقفة والجوهر مسرحيين.
“مسرحي من نوع خاص”
وفي هذا السياق لن يكون من المغالاة القول ان بيكاسو اشتغل طوال حياته في اتجاهين متكاملين: مسرحة الحياة، لرسمها، ثم مسرحة الرسم لأضفاء، الحياة عليه. وهو من اجل هذا، لم يكتف بأن يجعل من اصحابه وابنائه واقاربه، في لوحاته موديلات مسرحية ( كأن يلبس ابنه بول ثياب المهرج ليرسمه)، ولم يكتف بأن يجعل مشاهد كثيرة لديه مجرد ميزانسين ( اخراج) لمشاهد من الحياة وكأنها تقدم على خشبة مسرح كبير. بل انه، اكثر من هذا، حين اراد أن يعيد تصوير (اي انتاج) بعض لوحات رائعة احبها لدى رسامين سابقين عليه، لم يحاكي تلك اللوحات تماما، بل انه مسرحها: استخلص ما في مشهد فيها من بعد مسرحي ليرسمه: هذا ما فعله، مثلا، مع لوحة بيلاسكويث “لامينيناس” ومع “غداء على العشب” لمانيه ومع ”3 مايو” لغويا، على سبيل المثال لا الحصر. كما ان هذا كان ما فعله مع مشاهد لم يأخذها من المسارح القديمة او من فنون اليونان والرومان، او من اسلافه الكبار، بل من الحياة نفسها. مثلاً هلا يمكننا اعتبار لوحته الشهيرة امرأتان راكضتان على الشاطىء “سوى عمل كبير مستوحى من الحركة المسرحية وحركة رقص الباليه في آن معاً، في العام 1922 أي في العام الذي كان منخرطا فيه، في العمل المباشر للمسرح مع دياغيليف؟
ثم، ولعل هذا اهم ما في هذا السياق كله: افلا يمكن اعتبار لوحته الكبرى “غرنيكا” التي رسمها مستوحياً المجزرة النازية الكبيرة التي ارتكبت عام 1937 في حق قرية اسبانية وادعة، مشهداً مسرحياً متكاملا، ليس فقط في عناصره المكونة او العلاقة بين هذه العناصر، بل في التكوين البعدي للوحة؟
ترى افلا يقول لنا هذا كله أن بيكاسو كان في المقام الاول، رجل مسرح واستعراض، انطلق من مشهد فيه مصارعة الثيران، ليصل حتى الى مسرحية كتبها وقدمها بنفسه هي “اللذة ممسوكة من ذنبها” مروراً بلوحاته وديكوراته، وقد آمن ان المسرح موجود في كل شيء. ان الحياة مسرح كبير. فلماذا لا يعيده جوهرياً الى قلب كل شيء..الى قلب كل عمل له؟
يقيناً انه اذا كان نقاد كثر ومؤرخون اكثر قد فاتهم هذا، لدى الحديث الدائم عن بابلو بيكاسو ( 1881- 1973) وفنه، فإن ثمة على الاقل كتابا حول هذا الموضوع، فريدا من نوعه اصدره الناقد دوغلاس كوبر للمرة الاولى عام 1968 ثم اعيدت طباعته مرارا بعد ذلك..كما ان معرضين على الاقل اقيما اولها عام 1960- بمساهمة من بيكاسو نفسه – ثم عام 2006 في فرانكفورت، وضعا امام أعين مندهشة مئات القطع واللوحات والوثائق التي تقول تلك البديهة التي نسيت كثيراً: بديهية مفادها ان بيكاسو بقدر ما كان رجل رسم ونحت وخزف، كان رجل مسرح ايضاً…. رجل مسرح ولكن من نوع خاص جداً.
[/align]
مواقع النشر