إن للتراجم أثراً كبيراً جداً في السلوك الإنساني، وتحدث تغييراً كبيراً في إيمان الشخص وسلوكه وأخلاقه، وتردعه - في كثير من الأحيان- عن سيء الأعمال والأقوال، هذا إن قرأها بقلب مقبل وعقل واعٍ ، ورغبة في الاستفادة والتغيير.
وأوجز أثرها في التالي :
أولاً: نصب القدوات للأجيال : إن أكثر ما يعاني منه أهل الإسلام اليوم هو غياب القدوة الصالحة للتأثير القويّ في المقابل، وإن وُجدت فأين هي؟ وكيف يوصل إليها؟ وكيف تترك أثرها في الناس ولا يُمَكَنون من ذلك غالباً لا في وسائل الإعلام ولا في منابر التأثير الأخرى المهمة.
ثم إن وجد بعض القدوات فإنهم عدد قليل مبثوثون بين مئات الملايين من المسلمين، وأثرهم فيهم محدود جداً.
والناظر لأكثر مَن يوصفون بأنهم قدوات اليوم يرى أنه يصدق فيهم قول الحافظ السخاوي -رحمه الله تعالى- حين وصف علماء ومشايخ عصره من أهل القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي فقال : "الكثير بل الأكثر من أوساط هذا القرن وهلم جَرّا إلى آخر الأوقات إنما مشاركتهم في مسمى العلم والحفظ ومشيخة الإسلام ونحوها من مجاز العبارات والاستعارات، وعند تحقيق المناط هم فضلاء متفاوتون في الفهم والديانات، ولذا ورد الشرع بإنزال كلٍّ منـزلتَه بشروطه المعتبرات"فإذا كان السخاوي -رحمه الله تعالى- يقول هذا عن علماء ومشايخ القرن التاسع فماذا نقول نحن اليوم عن علماء ومشايخ وقدوات عصرنا ؟!
والحل -عندي- في هذه المعضلة، والله تعالى أعلم، هو أن يستعيض المرء في جوانب عديدة عن قدوات العصر بقدوات الدهر، الذين سُطرت حياتهم على وجه من التفصيل دقيق ومفيد في غرس المعاني الإيمانية والتربوية الرائعة التي قد لا يستفيدها المريد للاقتداء من قدوات العصر، ففي كتب التراجم عدة مئات من سِيَر حياة كبراء وعظماء وأجلاّء تصلح للاقتداء بها والاتِّساء، وقد بينت ذلك في مواضعَ من هذه الحلقات لكني إنما أريد هنا التنبيه على أن من يريد الاقتداء بعظيم أو جليل فلم يجده في زمانه ومكانه فليرجع إلى كتب التراجم فسيجد بُغيته، إن شاء الله تعالى، وهذا كمن صنف كتاب: "من لم يحضره الفقيه" فلتكن كتب التراجم إذن مفيدة لمن "لمن يحضره القدوة"!!
ثانياً: الاستعانة بها على إحسان الصلة بالله - تعالى : وهذه أمنية الصالحين والمصلحين في كل زمان ومكان، وقد كان جماعات من السلف والخلف قد حققوا من حب الله وطلب رضاه وتقواه، والخوف منه والخشية، والرضى والانكسار أمراً مدهشاً، فإذا اطلع عليها أهل العصر بقلوب مقبلة ونية صادقة في الاقتداء فإن ذلك يفيدهم أيما فائدة في باب الإحسان.
وإليكم هذا المثال الموضح لما أريد : كان السلطان العظيم نور الدين محمود زنكي حسن الصلة بالله تعالى -نحسبه كذلك والله تعالى حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحداً- ويكفيه قول ابن الأثير، رحمه الله تعالى:
"هذا مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة مَن سلف منهم في حسن سمتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم حتى رَوى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسمعه - وكان قد استُجيز له ممن سمعه وجمعه- حرصاً منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث.
يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظنه فيهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم، ومتى تكرّرت الشكاية إليه من أحد من ولاته أمره بالكف عن أذى مَن تظلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل قابله بإسقاط المنـزلة والعزل، فلِما جمع الله له من شريف الخصال تيسر له جميع ما يقصده من الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومكّن له في البلدان والبقاع.
ثم قال - بعد كلام كثير : "ومناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة".
وقد نقل الإمام أبو شامة من سيرته حادثة ضخمة تدل على حسن صلته بالله -تعالى- وذلك حين قاتل الصليبيين في حارم، بلدة شمال حلب، وكان نور الدين آنذاك في قلة من جيشه فقد أرسل طائفة منه للرباط في مصر، فقال أبو شامة : "كسر نور الدين الروم والأرمن والفِرَنج على حارم، وكان عدّتهم ثلاثين ألفاً، قال: ووقع بيمَند في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
قلت: وبلغني أن نور الدين -رحمه الله- لما التقى الجمعان أو قُبَيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه - عز وجل- ومرّغ وجهه وتضرّع وقال: يا رب: هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أوليائك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر.
وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر، وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط بعد نزولهم عليها، وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر".
وهذا المنام الذي ذكره أبو شامة هنا عَرَضاً أورده في مكان آخر فقال لما أخذ الصليبيون دمياط في صفر سنة 565 : "لما وصل الخبر إلى نور الدين بوصولهم واجتماعهم على دمياط ونزولهم اغتم واهتم ، وأنهض من عنده عسكراً ثقيلاً.
قلت: وبلغني من شدّة اهتمام نور الدين -رحمه الله- بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قُرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم ، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عُرف من عادة أهل الحديث فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله -تعالى- أن يراني متبسماً والمسلمون محاصَرون بالفرنج.
وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة.
فقال: يا رسول الله: ربما لا يصدقني، فاذكر لي علامة يعرفها.
فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر؟
قال: فانتبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينـزل إليه بَغَلس ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال: فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: اذكر العلامة كلها وألحّ عليّ في ذلك، فقلتها، فبكى -رحمه الله- وصدق الرؤيا.
فأرّخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة.
وهذا يدل على حسن صلته بالله تعالى، وقوة يقينه، رحمه الله وأعلى درجته في عليين.
وإنما ذكرت نور الدين مثالاً على حسن الصلة بالله -تعالى- لأخالف ما جرت به العادة من ذكر أمثلة صالحي القرون الثلاثة الأولى، فكأني بهذا المثال أريد أن أقول لقارئه: إذا كان نور الدين هكذا فكيف بالعظماء الكبار من أهل القرون الأولى؟
وحَرِيٌ بمن قرأ هذا الخبر بقلب مقبل أن يتأثر به وأن يتعلم عبادة الانكسار لله الواحد القهار.
ثالثاً: الاستعانة بهذه التراجم في معالجة جوانب النقص في السلوك والخلق : وهذا من أهم الأمور التي تورثها قراءة التراجم، التي كانت كثير منها قد بلغت إلى مستويات مدهشة من العلم والعمل، وإليكم هذه الأمثلة الموضحة لما أريد:
1. في باب الهمة : لابد من قراءة الخبر المذهل الوارد في ترجمة الإمام النووي- رحمه الله تعالى-
قال النووي رحمه الله تعالى وهو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض.
حكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه.
وقال البدر : وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه.
فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها.
فهذا الخبر جليل جداً، ولابد لقارئ هذا الخبر بنية الاستفادة أن يتأثر به جداً، فمن كان يخطر بباله أو يدور في خَلَده أن بشراً يستطيع ألا يتمدد للنوم سنتين كاملتين ويصبر على هذا، ولا يُخِلُّ به أبداً ولا في يوم واحد، إن هذا لشيء عجيب.
هذا وقد قال فيه تلميذه الإمام أبو الحسن العطار : "ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يُضيع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
قلت : مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الورع ، والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها".
2. العزيمـة : يعاني أكثر الناس من ضعف عزائمهم، وقلة صبرهم، وخَوَر طبائعهم عن الاستمرار في العمل الصالح بلا فتور أو انقطاع مدة طويلة فإليكم هذا الخبر:
وعن محمد بن القاسم بن بشر : سمعت محمد بن يزيد الفسوي العطار , سمعت يعقوب بن سفيان يقول : كنت في رحلتي في طلب الحديث , فدخلت إلى بعض المدن , فصادفت بها شيخا , احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار عنه , وقلت نفقتي , وبعدت عن بلدي , فكنت أدمن الكتابة ليلا , وأقرأ عليه نهارا , فلما كان ذات ليلة , كنت جالسا أنسخ , وقد تصرم الليل , فنزل الماء في عيني , فلم أبصر السراج ولا البيت , فبكيت على انقطاعي , وعلى ما يفوتني من العلم , فاشتد بكائي حتى اتكأت على جنبي , فنمت , فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم , فناداني : يا يعقوب بن سفيان! لِم أنت بكيت ؟ فقلت : يا رسول الله ! ذهب بصري , فتحسرت على ما فاتني من كتب سنتك , وعلى الانقطاع عن بلدي . فقال : ادن مني . فدنوت منه , فأمَرّ يده على عيني , كأنه يقرأ عليهما . قال : ثم استيقظت فأبصرت , وأخذت نسخي وقعدت في السراج أكتب .
"وأما الإمام أبو القاسم بن عساكر فقد قال عنه أبو المواهب بن صَصْرى:
لم أرَ مثله، ولا مَن اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عُرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم".
وهذا الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهنديّ، كان "من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل ويتهجد، ويقرأ سبعة أجزاء من القرآن في الصلاة، ثم يدعو بالأدعية المأثورة، ثم يذكر الله سبحانه، ثم يصلي الفجر، ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق، ثم يصلي ويجلس للدرس والإفادة فيُدَرِّس إلى زوال الشمس، ثم يتغدّى ومعه جماعة من المحصلين عليه، ثم يقيل ساعة، ثم يصلي الظهر، ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر، ثم يصلي، ثم يشتغل به، ثم يصلي ويُقبل على أصحابه، فيتحدث معهم إلى العشاء، ثم يدخل في حجرته ويشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل، ثم يدخل في المنزل، وكان من الخامسة عشرة من سنه إلى أربع وخمسين صرف عمره على هذا الطريق".
وقال أبو العباس ثعلب : ما فقدت إبراهيم الحربيّ من مجلس لغة ولا نحو من خمسين سنة".
وقال عيسى بن موسى الهاشمي رحمه الله تعالى:
مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريس السوق فلا أقدر على ذلك لأجل البكور إلى سماع الحديث.
فهل سمعتم برجل يدفع شهوة الطعام عن نفسه ثلاثين سنة، إنّا اليوم لو أخرناها ثلاثين يوماً لظننا أنا قد صنعنا شيئاً عظيماً، فياحسرةً علينا وعلى تقصيرنا.
قال ابنُ طاهر : "لما عزم سعدٌ على المجاورة، عزّم على نَيِّفٍ وعشرين عزيمة أن يُلزمها نفسَه من المجاهدات والعبادات، فبقي به أربعين سنة لم يُخِلَّ بعزيمةٍ منها".
وقد عرف منه أهل عصره في مكة ذلك فكان إذا خرج إلى الحرم يخلو المطاف، ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود!!
فلله دَرُّ هؤلاء الرجال العظماء، ولله دَرُّ هذه العزيمة الذهبية، والإرادة الرائعة، فإذا قرأ المقصر منا والفاتر والضعيف مثل هذه الأخبار بنية صادقة في إصلاح نفسه وتهذيب سلوكه فلا أرى إلا أنه سيؤثر فيه أيما تأثير بإذن الله تعالى.
3. التوازن : وقد سبق الحديث عنه في الحلقة السابقة لكني أقول هاهنا إن التوازن هو غاية الدعاة والعاملين الذين تتكاثر عليهم الأعمال، وتتزاحم فيهم الواجبات والمندوبات، فلا يدرون ماذا يصنعون، فإلى هؤلاء أرغب في قراءة سيرة الإمام الكبير عبدالله بن المبارك ؛ فقد كان:
محدثاً بل أمير المؤمنين في الحديث.
وكان فقيهاً تتلمذ على أبي حنيفة، رحمهما الله تعالى.
وكان زاهداً كأحسن ما يكون الزهد، وهو صاحب كتاب مشهور فيه.
وكان أديباً شاعراً من جِلّة الشعراء.
وكان فارساً بطلاً مغواراً لا يشق له غبار، كثير الغزو.
وكان صاحب خلق كريم ومروءة ليست لأكثر الناس.
وكان تاجراً ثرياً.
فقراءة مثل هذه السيرة تشجع العاملين على المُضيّ في عملهم بتوازن.
وكذلك فلينظر العاملون والمصلحون في سيرة بقي بن مخلدَ الأندلسي، فقد:
"كان بَقيّ يختم القرآن كل ليلة، في ثلاثَ عشرةَ ركعة، وكان يصلي بالنَّهار مئة ركعة، ويصوم الدهر، وكان كثيرَ الجهاد، فاضلاً، يٌذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غَزْوة.
ونقل بعض العلماء من كتاب لحفيد بَقيٍّ عبدالرحمن بن أحمد :
كان جدِّي قد قسَّم أيامَه على أعمال البرِّ: فكان إذا صلى الصُّبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سُدسَ القرآن، وكان أيضاً يَخْتم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويَخْرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قُرب انصداع الفجر، وكان يُصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره - وقد اجتمع في مسجده الطلبة- فيجدِّد الوضوء، ويخرج إليه، فإذا انقضت الدُّوَل صار إلى صومعة المسجد، فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يُسمعُ إلى العصر، ويصلي ويُسمع، وربما خرج بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده، ثم يصلي، ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسردُ الصومَ إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد، فيخرُج إلى جيرانه، فيتكلَّم معهم في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء، ويدخل بيته، فيحدِّث أهله، ثم ينام نومة قد أخذتْها نفسُه ، ثم يقوم.
هذا دَأبُه إلى أن توفي، وكان جَلْداً، قويّاً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مَظْلَمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيْرة، ومع امرأة ضعيفة إلى جَيَّان.
هذه هي سيرة الإمام بَقيّ بن مخلد، يراها كثير من الناس من ضروب الخيال، ويراها الصالحون العاملون فيعلمون أنها كالمثل لحياة بعضهم ولأشواق كثير منهم.
فهو -رحمه الله- قد عبد الله أحسن ما تكون العبادة.
ولم ينس تلاميذه وأصحابه، فكان يعلمهم ويرشدهم ويوجههم.
ولم يُغفل جيرانه، فقد كان يتعهدهم بالنصح والإرشاد.
وكان يتعهد أهله ويحدثهم ويؤانسهم.
ولم يمنعه ذلك كله من الانتصار للمظلومين والسفر من أجلهم، حتى لو كان ذلك المظلوم امرأة ضعيفة.
وقد توّج أعماله الصالحة بالجهاد، فقد "كان كثير الجهاد، رابط اثنتين وسبعين غزوة".
ثمّ إنه قد فهم الشرط الأساسي والمهم لكل تلك الأعمال الصالحة حتى تدخل سجلات الخالدين ألا وهو الدوام والدأَب
.
رحمه الله تعالى، فقد كانت شخصيته المثال المطلوب المفقود.
وبهذا المثل - وهناك عشرات غيره في التاريخ الإسلامي، وإنما ضربته مثالاً لقلة من يعرفه في عصرنا- نتبين، أن هذا الأمر - أمر التوازن- قد حدث في عصور سلفنا رحمهم الله، فحدوثه في هذا الزمان ممكن، وليس بمستغرب.
وكذلك في سيرة الشيخ أبي عمر المقدسي وهو من آل قدامة المقادسة الدمشقيين نجد التوازن واضحاً فقد كان يصلي بالناس مائة ركعة وهو مسن، ولا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته، وإذا رافق ناساً في السفر ناموا وحرسهم يصلي، وكان كثير الأوراد والذكر، وكان ربما تهجد فإن نعس ضرب على رجليه بقضيب حتى يطير النعاس.
وكان يكثر الصيام.
ولا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها، ولا مريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه.
ويتلو كل ليلة سُبعاً مرتلاً في الصلاة، وفي النهار سبعاً بين الصلاتين، وإذا صلى الفجر تلا آيات الحرس ويس والواقعة وتبارك.
ثم يُقرئ ويُلقِّن إلى ارتفاع النهار، ثم يصلي الضحى فيُطيل، ويصلي طويلاً بين العشاءين، وكانت نوافله في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة، وله أذكار طويلة، وله أوراد عند النوم واليقظة وتسابيح، وكان يخدم بالجامع المظفري ويُبكي الناس، وكان إذا سمع بمنكر اجتهد في إزالته.
4. اكتساب الخبرة ومضاعفة الأعمار:
إن القارئ للتراجم إنما يكتسب خبرات كثيرة، ويضيف أعماراً إلى أعماره، فيستفيد من ذلك أيما فائدة، فلو قرأ الشخص ترجمة تبلغ خمسين صفحة كل ليلتين أو ثلاث أو كل أسبوع فإنه سيضيف لعمره عمرَ صاحب الترجمة، وذلك أن صاحب الترجمة لو عاش ستين سنة مثلاً فقراءة حياته تعني أن القارئ اكتسب خبرة مَن عاش ستين سنة وأضافها إلى خبراته، وكأنه أضاف عمره إلى عمره، فكيف لو قرأ 100 ترجمة؟ وكيف لو قرأ ألف ترجمة؟ وهكذا ...
ولابد من ذكر أن هذا لا يكون إلا في التراجم الغنية بفوائدها، الكثيرة في صفحاتها، ولا يصلح أن يكون في التراجم المقتضبة التي لا تحوي تفاصيل حياة صاحبها.
وأزعم أن هنالك أكثر من ألف من هذه التراجم في بطون الكتب يمكن الاستفادة منها على هذا النحو الذي ذكرته، والله أعلم.
ويثور - هاهنا- تساؤل طالما سُئلته ألا وهو:
كيف نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العظماء من السلف والخلف، وحالنا على ما هو عليه من الانشغال، وبعض الإخوة يشكو من بعض يأس يداخله في أن يبلغ ما بلغ أولئك العظماء؟
وأقول: إن هذه التراجم الجليلة الواردة في بطون الكتب قد وُضعت لأسباب منها الاقتداء والاتِّساء والاستفادة مما فيها لتغيير أحوال المطلعين عليها، أما أن يبلغ المطلع عليها مبلغ أصحابها فهذا دونه خرط القتاد بل هو -عندي- مستحيل في زماننا هذا، وإنما قلت هذا لقطع طمع أهل العصر من بلوغ مراتب العظماء أمثال سفيان الثوري وعبدالله بن المبارك ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبي حنيفة والبخاري والنووي وابن تيمية والعز بن عبدالسلام، وإنما قطعت باستحالة هذا بالنظر إلى أمور خمسة:
الأمر الأول: اختلاف أحوالهم عن أحوالنا، وزمانهم عن زماننا :
فما كان متيسراً لهم من العبادة والتطويل فيها لا يتسير لنا في زماننا الصعب هذا، فطرائق الدراسة والعمل الوظيفي والخاص اختلفت تماماً، كما هو معلوم، وترتب على هذا الاختلاف قلة الأوقات المتبقية لنا مقارنة بما كان لهم، دع عنك قلة البركة وكثرة الهموم.
الأمر الثاني: ما كان مسموحاً لهم به في زمانهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمشاركة القوية في الشأن العام لا يُسمح به قطعاً في زماننا، والشواهد كثيرة جداً.
الأمر الثالث: اختلاف المطلوب منا ومنهم:
فالمطلوب منا اليوم بذل الجهد في الدعوة، وتحصيل أسباب الرقي الماديّ لننافس الكفار في المنتجات والمخترعات ونتخلص من التبعية والهوان، والمطلوب منا -أيضاً- القراءة المطولة في مكائد الكفار والفجار لمعرفتها ومقارعتها، والمطلوب منا اليوم تخليص أراضي المسلمين من مغتصبيها إلى آخر ما هو مطلوب وهو قائمة طويلة، بينما لم يكن أكثر ذلك مطلوباً من أولئك الذين كانوا يعيشون زمن العز والسيادة.
الأمر الرابع: لا ينبغي أن ننسى أن أهل القرون الفاضلة ليسوا كمن بعدهم، فأولئك موصوفون بالخيرية في كلام خير البرية صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم ليس مثلهم قطعاً، ويتدرج الفضل نزولاً بتدرج القرون، فمن يطمع أن يكون في الفضل والمنـزلة والعمل كأهل القرون الأولى فإنما يطمع في أمر عظيم لا أرى أن زماننا هذا يساعده على بلوغه، ولا أرى أن أحوالنا تساعد على بلوغ ما كانوا عليه، والله أعلم.
الأمر الخامس: إن هؤلاء العظماء أنفسهم كانوا في زمانهم كنجوم السماء، ينظر أهل عصرهم إليهم على أنهم في مرتبة لا يُطمع فيها، فكيف نفعل نحن إذن في زماننا هذا، وللتدليل على ما أقول فإني أُورد التالي عن سفيان الثوري رحمه الله -تعالى- الذي كان أمير المؤمنين في الورع ومحدثاً عظيماً وورعاً إلى الغاية القصوى من الورع بل كان ورعه مقياساً للأجيال بعده حتى قالوا عن ورع الإمام النووي: لقد أذكرنا ورع سفيان، وهذا يعني أن ورع سفيان مقياس ومعيار، ويعني أيضاً أن ورعه ظل يتردد صداه عبر القرون، ومع هذا كله فإن سفيان يقول عن الإمام العظيم عبدالله بن المبارك:
إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام!!
وكان الإمام ابن عون عابداً زاهداً، قليل نظراؤه ، قلّ أن يوجد مثله، وهذا أحد أصحابه يقول كلاماً يصفه فيه وصفاً يلخص ما أردت قوله:
إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه.
فإذا عرفنا هذا من مقولة سفيان -رحمه الله تعالى- وغيره ، فإنه يُعرف تميز أولئك العظام حتى بين أقرانهم الذين هم في الصلاح غاية ومنارات هداية ورشد أيضاً، وليس من المجازفة القول بأنهم قد لا يتكررون في التاريخ بعد ذلك أبداً، والله أعلم.
ولا يعني كلامي هذا القطع بعدم بلوغ منازلهم في الآخرة، فهذا أمر غيـبي لا يُعرف، وهو إلى فضل الله - تعالى- وكرمه أقرب، لكن كلامي إنما هو في بلوغ أعمالهم ومجاهداتهم ورياضاتهم، والله المستعان.
إذن إن المطلوب من قراءة التراجم الجليلة هو الاقتداء بما فيها، ومحاولة الاقتراب منها حالاً وعملاً وقولاً، فإن صنع ذلك المطلع عليها فيا فوزه، ويا سعده، أما مطابقة عمله لأعمال أولئك العظماء فليقطع الطمع في هذا تماماً ولا يفكر فيه.
وأذكر أن شيخي القدوة الصالح المصري زينة أهل العصر الشيخ عبدالستار فتح الله سعيد -حفظه الله ومَتّع به ونفعنا بعلمه- رآني وأنا أجتهد في بعض الأمور وأبذل فيها غاية ما أستطيع رجاء تحقيق ما أريد، فقال لي: هل تريد أن تكون مثل البنّا؟! اصرف النظر يا بني فقد حاولنا نحن فلم نستطع، إن ذاك رجل أتى الله – تعالى - به في زمنه لتحقيق مراد الله -تعالى- فلا تطمع في ذلك، ولم يقع كلام الشيخ في نفسي الموقع الحسن آنذاك، لكني علمت فيما بعـد أنـه كـلام حكيم، وأن الله -تعالى- يخرج بعض الناس من رحم الغيب في زمن معين لينجزوا عملاً معيناً يُغير الله به التاريخ، ولا يلزم أن يقع هذا من كل أحد، وبعبارة أخرى لا يلزم أنه يمكن تكرار ذلك لكل أحد طامع فيه، فذلك فضل الله -تعالى- يؤتيه من يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وفي هذا الفهم تطمين للقلوب وإبعاد لمرض اليأس والقنوط عنها، والله أعلم.
وأوجز أثرها في التالي :
أولاً: نصب القدوات للأجيال : إن أكثر ما يعاني منه أهل الإسلام اليوم هو غياب القدوة الصالحة للتأثير القويّ في المقابل، وإن وُجدت فأين هي؟ وكيف يوصل إليها؟ وكيف تترك أثرها في الناس ولا يُمَكَنون من ذلك غالباً لا في وسائل الإعلام ولا في منابر التأثير الأخرى المهمة.
ثم إن وجد بعض القدوات فإنهم عدد قليل مبثوثون بين مئات الملايين من المسلمين، وأثرهم فيهم محدود جداً.
والناظر لأكثر مَن يوصفون بأنهم قدوات اليوم يرى أنه يصدق فيهم قول الحافظ السخاوي -رحمه الله تعالى- حين وصف علماء ومشايخ عصره من أهل القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي فقال : "الكثير بل الأكثر من أوساط هذا القرن وهلم جَرّا إلى آخر الأوقات إنما مشاركتهم في مسمى العلم والحفظ ومشيخة الإسلام ونحوها من مجاز العبارات والاستعارات، وعند تحقيق المناط هم فضلاء متفاوتون في الفهم والديانات، ولذا ورد الشرع بإنزال كلٍّ منـزلتَه بشروطه المعتبرات"فإذا كان السخاوي -رحمه الله تعالى- يقول هذا عن علماء ومشايخ القرن التاسع فماذا نقول نحن اليوم عن علماء ومشايخ وقدوات عصرنا ؟!
والحل -عندي- في هذه المعضلة، والله تعالى أعلم، هو أن يستعيض المرء في جوانب عديدة عن قدوات العصر بقدوات الدهر، الذين سُطرت حياتهم على وجه من التفصيل دقيق ومفيد في غرس المعاني الإيمانية والتربوية الرائعة التي قد لا يستفيدها المريد للاقتداء من قدوات العصر، ففي كتب التراجم عدة مئات من سِيَر حياة كبراء وعظماء وأجلاّء تصلح للاقتداء بها والاتِّساء، وقد بينت ذلك في مواضعَ من هذه الحلقات لكني إنما أريد هنا التنبيه على أن من يريد الاقتداء بعظيم أو جليل فلم يجده في زمانه ومكانه فليرجع إلى كتب التراجم فسيجد بُغيته، إن شاء الله تعالى، وهذا كمن صنف كتاب: "من لم يحضره الفقيه" فلتكن كتب التراجم إذن مفيدة لمن "لمن يحضره القدوة"!!
ثانياً: الاستعانة بها على إحسان الصلة بالله - تعالى : وهذه أمنية الصالحين والمصلحين في كل زمان ومكان، وقد كان جماعات من السلف والخلف قد حققوا من حب الله وطلب رضاه وتقواه، والخوف منه والخشية، والرضى والانكسار أمراً مدهشاً، فإذا اطلع عليها أهل العصر بقلوب مقبلة ونية صادقة في الاقتداء فإن ذلك يفيدهم أيما فائدة في باب الإحسان.
وإليكم هذا المثال الموضح لما أريد : كان السلطان العظيم نور الدين محمود زنكي حسن الصلة بالله تعالى -نحسبه كذلك والله تعالى حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحداً- ويكفيه قول ابن الأثير، رحمه الله تعالى:
"هذا مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة مَن سلف منهم في حسن سمتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم حتى رَوى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسمعه - وكان قد استُجيز له ممن سمعه وجمعه- حرصاً منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث.
يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظنه فيهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم، ومتى تكرّرت الشكاية إليه من أحد من ولاته أمره بالكف عن أذى مَن تظلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل قابله بإسقاط المنـزلة والعزل، فلِما جمع الله له من شريف الخصال تيسر له جميع ما يقصده من الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومكّن له في البلدان والبقاع.
ثم قال - بعد كلام كثير : "ومناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة".
وقد نقل الإمام أبو شامة من سيرته حادثة ضخمة تدل على حسن صلته بالله -تعالى- وذلك حين قاتل الصليبيين في حارم، بلدة شمال حلب، وكان نور الدين آنذاك في قلة من جيشه فقد أرسل طائفة منه للرباط في مصر، فقال أبو شامة : "كسر نور الدين الروم والأرمن والفِرَنج على حارم، وكان عدّتهم ثلاثين ألفاً، قال: ووقع بيمَند في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
قلت: وبلغني أن نور الدين -رحمه الله- لما التقى الجمعان أو قُبَيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه - عز وجل- ومرّغ وجهه وتضرّع وقال: يا رب: هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أوليائك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر.
وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر، وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط بعد نزولهم عليها، وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر".
وهذا المنام الذي ذكره أبو شامة هنا عَرَضاً أورده في مكان آخر فقال لما أخذ الصليبيون دمياط في صفر سنة 565 : "لما وصل الخبر إلى نور الدين بوصولهم واجتماعهم على دمياط ونزولهم اغتم واهتم ، وأنهض من عنده عسكراً ثقيلاً.
قلت: وبلغني من شدّة اهتمام نور الدين -رحمه الله- بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قُرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم ، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عُرف من عادة أهل الحديث فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله -تعالى- أن يراني متبسماً والمسلمون محاصَرون بالفرنج.
وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة.
فقال: يا رسول الله: ربما لا يصدقني، فاذكر لي علامة يعرفها.
فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر؟
قال: فانتبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينـزل إليه بَغَلس ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال: فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: اذكر العلامة كلها وألحّ عليّ في ذلك، فقلتها، فبكى -رحمه الله- وصدق الرؤيا.
فأرّخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة.
وهذا يدل على حسن صلته بالله تعالى، وقوة يقينه، رحمه الله وأعلى درجته في عليين.
وإنما ذكرت نور الدين مثالاً على حسن الصلة بالله -تعالى- لأخالف ما جرت به العادة من ذكر أمثلة صالحي القرون الثلاثة الأولى، فكأني بهذا المثال أريد أن أقول لقارئه: إذا كان نور الدين هكذا فكيف بالعظماء الكبار من أهل القرون الأولى؟
وحَرِيٌ بمن قرأ هذا الخبر بقلب مقبل أن يتأثر به وأن يتعلم عبادة الانكسار لله الواحد القهار.
ثالثاً: الاستعانة بهذه التراجم في معالجة جوانب النقص في السلوك والخلق : وهذا من أهم الأمور التي تورثها قراءة التراجم، التي كانت كثير منها قد بلغت إلى مستويات مدهشة من العلم والعمل، وإليكم هذه الأمثلة الموضحة لما أريد:
1. في باب الهمة : لابد من قراءة الخبر المذهل الوارد في ترجمة الإمام النووي- رحمه الله تعالى-
قال النووي رحمه الله تعالى وهو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض.
حكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه.
وقال البدر : وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه.
فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها.
فهذا الخبر جليل جداً، ولابد لقارئ هذا الخبر بنية الاستفادة أن يتأثر به جداً، فمن كان يخطر بباله أو يدور في خَلَده أن بشراً يستطيع ألا يتمدد للنوم سنتين كاملتين ويصبر على هذا، ولا يُخِلُّ به أبداً ولا في يوم واحد، إن هذا لشيء عجيب.
هذا وقد قال فيه تلميذه الإمام أبو الحسن العطار : "ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يُضيع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
قلت : مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الورع ، والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها".
2. العزيمـة : يعاني أكثر الناس من ضعف عزائمهم، وقلة صبرهم، وخَوَر طبائعهم عن الاستمرار في العمل الصالح بلا فتور أو انقطاع مدة طويلة فإليكم هذا الخبر:
وعن محمد بن القاسم بن بشر : سمعت محمد بن يزيد الفسوي العطار , سمعت يعقوب بن سفيان يقول : كنت في رحلتي في طلب الحديث , فدخلت إلى بعض المدن , فصادفت بها شيخا , احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار عنه , وقلت نفقتي , وبعدت عن بلدي , فكنت أدمن الكتابة ليلا , وأقرأ عليه نهارا , فلما كان ذات ليلة , كنت جالسا أنسخ , وقد تصرم الليل , فنزل الماء في عيني , فلم أبصر السراج ولا البيت , فبكيت على انقطاعي , وعلى ما يفوتني من العلم , فاشتد بكائي حتى اتكأت على جنبي , فنمت , فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم , فناداني : يا يعقوب بن سفيان! لِم أنت بكيت ؟ فقلت : يا رسول الله ! ذهب بصري , فتحسرت على ما فاتني من كتب سنتك , وعلى الانقطاع عن بلدي . فقال : ادن مني . فدنوت منه , فأمَرّ يده على عيني , كأنه يقرأ عليهما . قال : ثم استيقظت فأبصرت , وأخذت نسخي وقعدت في السراج أكتب .
"وأما الإمام أبو القاسم بن عساكر فقد قال عنه أبو المواهب بن صَصْرى:
لم أرَ مثله، ولا مَن اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عُرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم".
وهذا الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهنديّ، كان "من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل ويتهجد، ويقرأ سبعة أجزاء من القرآن في الصلاة، ثم يدعو بالأدعية المأثورة، ثم يذكر الله سبحانه، ثم يصلي الفجر، ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق، ثم يصلي ويجلس للدرس والإفادة فيُدَرِّس إلى زوال الشمس، ثم يتغدّى ومعه جماعة من المحصلين عليه، ثم يقيل ساعة، ثم يصلي الظهر، ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر، ثم يصلي، ثم يشتغل به، ثم يصلي ويُقبل على أصحابه، فيتحدث معهم إلى العشاء، ثم يدخل في حجرته ويشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل، ثم يدخل في المنزل، وكان من الخامسة عشرة من سنه إلى أربع وخمسين صرف عمره على هذا الطريق".
وقال أبو العباس ثعلب : ما فقدت إبراهيم الحربيّ من مجلس لغة ولا نحو من خمسين سنة".
وقال عيسى بن موسى الهاشمي رحمه الله تعالى:
مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريس السوق فلا أقدر على ذلك لأجل البكور إلى سماع الحديث.
فهل سمعتم برجل يدفع شهوة الطعام عن نفسه ثلاثين سنة، إنّا اليوم لو أخرناها ثلاثين يوماً لظننا أنا قد صنعنا شيئاً عظيماً، فياحسرةً علينا وعلى تقصيرنا.
قال ابنُ طاهر : "لما عزم سعدٌ على المجاورة، عزّم على نَيِّفٍ وعشرين عزيمة أن يُلزمها نفسَه من المجاهدات والعبادات، فبقي به أربعين سنة لم يُخِلَّ بعزيمةٍ منها".
وقد عرف منه أهل عصره في مكة ذلك فكان إذا خرج إلى الحرم يخلو المطاف، ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود!!
فلله دَرُّ هؤلاء الرجال العظماء، ولله دَرُّ هذه العزيمة الذهبية، والإرادة الرائعة، فإذا قرأ المقصر منا والفاتر والضعيف مثل هذه الأخبار بنية صادقة في إصلاح نفسه وتهذيب سلوكه فلا أرى إلا أنه سيؤثر فيه أيما تأثير بإذن الله تعالى.
3. التوازن : وقد سبق الحديث عنه في الحلقة السابقة لكني أقول هاهنا إن التوازن هو غاية الدعاة والعاملين الذين تتكاثر عليهم الأعمال، وتتزاحم فيهم الواجبات والمندوبات، فلا يدرون ماذا يصنعون، فإلى هؤلاء أرغب في قراءة سيرة الإمام الكبير عبدالله بن المبارك ؛ فقد كان:
محدثاً بل أمير المؤمنين في الحديث.
وكان فقيهاً تتلمذ على أبي حنيفة، رحمهما الله تعالى.
وكان زاهداً كأحسن ما يكون الزهد، وهو صاحب كتاب مشهور فيه.
وكان أديباً شاعراً من جِلّة الشعراء.
وكان فارساً بطلاً مغواراً لا يشق له غبار، كثير الغزو.
وكان صاحب خلق كريم ومروءة ليست لأكثر الناس.
وكان تاجراً ثرياً.
فقراءة مثل هذه السيرة تشجع العاملين على المُضيّ في عملهم بتوازن.
وكذلك فلينظر العاملون والمصلحون في سيرة بقي بن مخلدَ الأندلسي، فقد:
"كان بَقيّ يختم القرآن كل ليلة، في ثلاثَ عشرةَ ركعة، وكان يصلي بالنَّهار مئة ركعة، ويصوم الدهر، وكان كثيرَ الجهاد، فاضلاً، يٌذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غَزْوة.
ونقل بعض العلماء من كتاب لحفيد بَقيٍّ عبدالرحمن بن أحمد :
كان جدِّي قد قسَّم أيامَه على أعمال البرِّ: فكان إذا صلى الصُّبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سُدسَ القرآن، وكان أيضاً يَخْتم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويَخْرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قُرب انصداع الفجر، وكان يُصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره - وقد اجتمع في مسجده الطلبة- فيجدِّد الوضوء، ويخرج إليه، فإذا انقضت الدُّوَل صار إلى صومعة المسجد، فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يُسمعُ إلى العصر، ويصلي ويُسمع، وربما خرج بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده، ثم يصلي، ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسردُ الصومَ إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد، فيخرُج إلى جيرانه، فيتكلَّم معهم في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء، ويدخل بيته، فيحدِّث أهله، ثم ينام نومة قد أخذتْها نفسُه ، ثم يقوم.
هذا دَأبُه إلى أن توفي، وكان جَلْداً، قويّاً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مَظْلَمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيْرة، ومع امرأة ضعيفة إلى جَيَّان.
هذه هي سيرة الإمام بَقيّ بن مخلد، يراها كثير من الناس من ضروب الخيال، ويراها الصالحون العاملون فيعلمون أنها كالمثل لحياة بعضهم ولأشواق كثير منهم.
فهو -رحمه الله- قد عبد الله أحسن ما تكون العبادة.
ولم ينس تلاميذه وأصحابه، فكان يعلمهم ويرشدهم ويوجههم.
ولم يُغفل جيرانه، فقد كان يتعهدهم بالنصح والإرشاد.
وكان يتعهد أهله ويحدثهم ويؤانسهم.
ولم يمنعه ذلك كله من الانتصار للمظلومين والسفر من أجلهم، حتى لو كان ذلك المظلوم امرأة ضعيفة.
وقد توّج أعماله الصالحة بالجهاد، فقد "كان كثير الجهاد، رابط اثنتين وسبعين غزوة".
ثمّ إنه قد فهم الشرط الأساسي والمهم لكل تلك الأعمال الصالحة حتى تدخل سجلات الخالدين ألا وهو الدوام والدأَب
.
رحمه الله تعالى، فقد كانت شخصيته المثال المطلوب المفقود.
وبهذا المثل - وهناك عشرات غيره في التاريخ الإسلامي، وإنما ضربته مثالاً لقلة من يعرفه في عصرنا- نتبين، أن هذا الأمر - أمر التوازن- قد حدث في عصور سلفنا رحمهم الله، فحدوثه في هذا الزمان ممكن، وليس بمستغرب.
وكذلك في سيرة الشيخ أبي عمر المقدسي وهو من آل قدامة المقادسة الدمشقيين نجد التوازن واضحاً فقد كان يصلي بالناس مائة ركعة وهو مسن، ولا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته، وإذا رافق ناساً في السفر ناموا وحرسهم يصلي، وكان كثير الأوراد والذكر، وكان ربما تهجد فإن نعس ضرب على رجليه بقضيب حتى يطير النعاس.
وكان يكثر الصيام.
ولا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها، ولا مريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه.
ويتلو كل ليلة سُبعاً مرتلاً في الصلاة، وفي النهار سبعاً بين الصلاتين، وإذا صلى الفجر تلا آيات الحرس ويس والواقعة وتبارك.
ثم يُقرئ ويُلقِّن إلى ارتفاع النهار، ثم يصلي الضحى فيُطيل، ويصلي طويلاً بين العشاءين، وكانت نوافله في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة، وله أذكار طويلة، وله أوراد عند النوم واليقظة وتسابيح، وكان يخدم بالجامع المظفري ويُبكي الناس، وكان إذا سمع بمنكر اجتهد في إزالته.
4. اكتساب الخبرة ومضاعفة الأعمار:
إن القارئ للتراجم إنما يكتسب خبرات كثيرة، ويضيف أعماراً إلى أعماره، فيستفيد من ذلك أيما فائدة، فلو قرأ الشخص ترجمة تبلغ خمسين صفحة كل ليلتين أو ثلاث أو كل أسبوع فإنه سيضيف لعمره عمرَ صاحب الترجمة، وذلك أن صاحب الترجمة لو عاش ستين سنة مثلاً فقراءة حياته تعني أن القارئ اكتسب خبرة مَن عاش ستين سنة وأضافها إلى خبراته، وكأنه أضاف عمره إلى عمره، فكيف لو قرأ 100 ترجمة؟ وكيف لو قرأ ألف ترجمة؟ وهكذا ...
ولابد من ذكر أن هذا لا يكون إلا في التراجم الغنية بفوائدها، الكثيرة في صفحاتها، ولا يصلح أن يكون في التراجم المقتضبة التي لا تحوي تفاصيل حياة صاحبها.
وأزعم أن هنالك أكثر من ألف من هذه التراجم في بطون الكتب يمكن الاستفادة منها على هذا النحو الذي ذكرته، والله أعلم.
ويثور - هاهنا- تساؤل طالما سُئلته ألا وهو:
كيف نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العظماء من السلف والخلف، وحالنا على ما هو عليه من الانشغال، وبعض الإخوة يشكو من بعض يأس يداخله في أن يبلغ ما بلغ أولئك العظماء؟
وأقول: إن هذه التراجم الجليلة الواردة في بطون الكتب قد وُضعت لأسباب منها الاقتداء والاتِّساء والاستفادة مما فيها لتغيير أحوال المطلعين عليها، أما أن يبلغ المطلع عليها مبلغ أصحابها فهذا دونه خرط القتاد بل هو -عندي- مستحيل في زماننا هذا، وإنما قلت هذا لقطع طمع أهل العصر من بلوغ مراتب العظماء أمثال سفيان الثوري وعبدالله بن المبارك ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبي حنيفة والبخاري والنووي وابن تيمية والعز بن عبدالسلام، وإنما قطعت باستحالة هذا بالنظر إلى أمور خمسة:
الأمر الأول: اختلاف أحوالهم عن أحوالنا، وزمانهم عن زماننا :
فما كان متيسراً لهم من العبادة والتطويل فيها لا يتسير لنا في زماننا الصعب هذا، فطرائق الدراسة والعمل الوظيفي والخاص اختلفت تماماً، كما هو معلوم، وترتب على هذا الاختلاف قلة الأوقات المتبقية لنا مقارنة بما كان لهم، دع عنك قلة البركة وكثرة الهموم.
الأمر الثاني: ما كان مسموحاً لهم به في زمانهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمشاركة القوية في الشأن العام لا يُسمح به قطعاً في زماننا، والشواهد كثيرة جداً.
الأمر الثالث: اختلاف المطلوب منا ومنهم:
فالمطلوب منا اليوم بذل الجهد في الدعوة، وتحصيل أسباب الرقي الماديّ لننافس الكفار في المنتجات والمخترعات ونتخلص من التبعية والهوان، والمطلوب منا -أيضاً- القراءة المطولة في مكائد الكفار والفجار لمعرفتها ومقارعتها، والمطلوب منا اليوم تخليص أراضي المسلمين من مغتصبيها إلى آخر ما هو مطلوب وهو قائمة طويلة، بينما لم يكن أكثر ذلك مطلوباً من أولئك الذين كانوا يعيشون زمن العز والسيادة.
الأمر الرابع: لا ينبغي أن ننسى أن أهل القرون الفاضلة ليسوا كمن بعدهم، فأولئك موصوفون بالخيرية في كلام خير البرية صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم ليس مثلهم قطعاً، ويتدرج الفضل نزولاً بتدرج القرون، فمن يطمع أن يكون في الفضل والمنـزلة والعمل كأهل القرون الأولى فإنما يطمع في أمر عظيم لا أرى أن زماننا هذا يساعده على بلوغه، ولا أرى أن أحوالنا تساعد على بلوغ ما كانوا عليه، والله أعلم.
الأمر الخامس: إن هؤلاء العظماء أنفسهم كانوا في زمانهم كنجوم السماء، ينظر أهل عصرهم إليهم على أنهم في مرتبة لا يُطمع فيها، فكيف نفعل نحن إذن في زماننا هذا، وللتدليل على ما أقول فإني أُورد التالي عن سفيان الثوري رحمه الله -تعالى- الذي كان أمير المؤمنين في الورع ومحدثاً عظيماً وورعاً إلى الغاية القصوى من الورع بل كان ورعه مقياساً للأجيال بعده حتى قالوا عن ورع الإمام النووي: لقد أذكرنا ورع سفيان، وهذا يعني أن ورع سفيان مقياس ومعيار، ويعني أيضاً أن ورعه ظل يتردد صداه عبر القرون، ومع هذا كله فإن سفيان يقول عن الإمام العظيم عبدالله بن المبارك:
إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام!!
وكان الإمام ابن عون عابداً زاهداً، قليل نظراؤه ، قلّ أن يوجد مثله، وهذا أحد أصحابه يقول كلاماً يصفه فيه وصفاً يلخص ما أردت قوله:
إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه.
فإذا عرفنا هذا من مقولة سفيان -رحمه الله تعالى- وغيره ، فإنه يُعرف تميز أولئك العظام حتى بين أقرانهم الذين هم في الصلاح غاية ومنارات هداية ورشد أيضاً، وليس من المجازفة القول بأنهم قد لا يتكررون في التاريخ بعد ذلك أبداً، والله أعلم.
ولا يعني كلامي هذا القطع بعدم بلوغ منازلهم في الآخرة، فهذا أمر غيـبي لا يُعرف، وهو إلى فضل الله - تعالى- وكرمه أقرب، لكن كلامي إنما هو في بلوغ أعمالهم ومجاهداتهم ورياضاتهم، والله المستعان.
إذن إن المطلوب من قراءة التراجم الجليلة هو الاقتداء بما فيها، ومحاولة الاقتراب منها حالاً وعملاً وقولاً، فإن صنع ذلك المطلع عليها فيا فوزه، ويا سعده، أما مطابقة عمله لأعمال أولئك العظماء فليقطع الطمع في هذا تماماً ولا يفكر فيه.
وأذكر أن شيخي القدوة الصالح المصري زينة أهل العصر الشيخ عبدالستار فتح الله سعيد -حفظه الله ومَتّع به ونفعنا بعلمه- رآني وأنا أجتهد في بعض الأمور وأبذل فيها غاية ما أستطيع رجاء تحقيق ما أريد، فقال لي: هل تريد أن تكون مثل البنّا؟! اصرف النظر يا بني فقد حاولنا نحن فلم نستطع، إن ذاك رجل أتى الله – تعالى - به في زمنه لتحقيق مراد الله -تعالى- فلا تطمع في ذلك، ولم يقع كلام الشيخ في نفسي الموقع الحسن آنذاك، لكني علمت فيما بعـد أنـه كـلام حكيم، وأن الله -تعالى- يخرج بعض الناس من رحم الغيب في زمن معين لينجزوا عملاً معيناً يُغير الله به التاريخ، ولا يلزم أن يقع هذا من كل أحد، وبعبارة أخرى لا يلزم أنه يمكن تكرار ذلك لكل أحد طامع فيه، فذلك فضل الله -تعالى- يؤتيه من يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وفي هذا الفهم تطمين للقلوب وإبعاد لمرض اليأس والقنوط عنها، والله أعلم.
المصدر : موقع التاريخ
....