الأستاذ عبد الله علي الهندي،، كتب عنوان : هل نجح لوبي المياه في إظهار وجه قبيح للزراعة المحلية - وأرجح : القمح بريء من تهمة الاستنزاف وتعرض لحملة شرسة لإيقاف زراعته
كتب يقول: ويتواصل الحديث عن قضية ( المياه) بين من يرى أنه استنزف المخزون المائي وحان وقت إيقاف الزراعة اسوة بالقمح، وبين من يعارض معتقداً أن المنادين بوقف الزراعة بحجة ندرة المياه يتكئون على هواجس وظنون وفرضيات لا ترتقي الى مستوى النظرية العلمية، ويشخص الخبير والمستشار الزراعي عبدالله علي الهندي القضية قائلاً:إن ما يحدث على أرض الواقع في مواقع النشاط الزراعي حالياً عبارة عن فوضى عارمة عندما يتعلق الأمر بالأمن المائي ويطالب الهندي بضرورة مبادرة المختصين وذوي الخبرة والنزعة الوطنية ممن أفنوا أعمارهم بالعمل في القطاع الزراعي بطلب الاطلاع على الخطة الوطنية الشاملة للمياه والإستراتيجية الزراعية والمطالبة بسرعة تطبيقهما اذا كانتا تخدمان الأمن الغذائي والأمن المائي للمملكة ونقدهما نقداً هادفاً،وقد استهل حديثه قائلاً:
المتابع للمقالات الخاصة بالقطاع الزراعي وكذلك الإعلانات ذات الصفحات الكاملة التي بدأ نشرها في وسائل الإعلام المحلية خلال السنوات القليلة الماضية واستمر حتى وقتنا الحالي ، يصل إلى انطباع مفاده ان النشاط الزراعي المحلي أدى إلى استنزاف الموارد المائية لهذه البلاد وهو في طريقة للقضاء التام على المخزون المائي الجوفي .
وقبل محاولة الإجابة على السؤال: ( هل نجح لوبي المياه في إظهار وجه قبيح للزراعة المحلية ) فاني أرى من الضروري إيضاح عدد من الحقائق الهامة لكي يتمكن القارىء الكريم من إدراك أهمية المحافظة على استدامة القطاع الزراعي النباتي المحلي بعيداً عن العواطف ومن منظور فني دقيق مبني على خبرة شخصية فنية وميدانية وإدارية تمتد لأكثر من 34 سنة توليت خلالها عدة إدارات بوزارة الزراعة كان آخرها المركز الوطني لبحوث الزراعة والثروة الحيوانية.
أولاً : القطاع الزراعي النباتي المحلي حقيقة ثابتة وقد انفق عليه خلال العقود الثلاثة الماضية عشرات البلايين من الريالات وبالذات في مناطق الزراعة المروية الرئيسة (الجوف-تبوك-حائل-القصيم-الخرج وحرض – وادي الدواسر ) المتواجدة في مواقع الصخور الرسوبية الحاملة للتكوينات الجيولوجية المائية ، وهذا القطاع يساهم إيجابياً في الناتج الإجمالي المحلي ويؤمن جزءا من الاحتياجات الغذائية للسكان.
ما يحدث حالياً في مواقع النشاط الزراعي فيما يتعلق بالأمن المائي عبارة عن فوضى عارمة
إن محاولة شطبه أوتحجيمه بدرجة كبيرة (كما ينادي بعض المطالبين بالمحافظة على المياه) وبدون أسس فنية مبنية على حقائق علمية دقيقة عن المخزون المائي سوف يكون لها نتائج عكسية على الأمن الوطني بالإضافة إلى أن مثل هذا التوجه سوف لن يكون على الإطلاق في صالح الأمن الغذائي لهذه البلاد.
ثانياً : الملاحظ ان المطالبين بالمحافظة على المياه الجوفية المصدر الوحيد للزراعة المروية بالمملكة ، ليس لديهم ما يضيفونه من معلومات جديدة مبنية على دراسات علمية حديثة تحدد بدقة متناهية كميات المياه الجوفية في التكوينات الجيولوجية الرئيسة والثانوية الحاملة للمياه ، رغم مضي عقد من الزمن على إنشاء وزارة مستقلة للمياه. والملاحظ كذلك أن كل ما يتم تزويدنا به لا يتعدى المعلومات المعروفة التي يتم ترديدها في جميع المناقشات واللقاءات والتي مفادها بان هذه المياه تكونت قبل عشرين ألف سنة وهي غير متجددة ومن الضروري المحافظة عليها . بل إن بعضهم يرى ضرورة حصرها لاستهلاك المدن وإلغاء القطاع الزراعي النباتي كلياً والتخلص من جميع الرشاشات المحورية وجعل القطاع الزراعي قائماً على إنتاج الدجاج والأسماك. أما المعلومات عن كمية المياه المتوفرة وأفضل الطرق والسبل لاستخدام ما يتم تخصيصه للقطاع الزراعي بشكل مستديم مع تحديد الموازنة المائية الفصلية والمحاصيل الإستراتيجية التي يمكن زراعتها بالتعاون مع الجهات المعنية وتحت إشراف الدولة فيبدو ان ذلك هدف بعيد المنال.
ثالثاً : الملاحظ أن هناك حملة إعلامية لإظهار وجه قبيح للمحاصيل الزراعية من حيث استهلاك المياه وتحديد أرقام تفيد باستنزاف آلاف الملايين من الأمتار المكعبة من المياه.
وهنا لابد من الإشارة إلى ان القطاع الزراعي وفي جميع أنحاء العالم يستهلك مابين 70-90% من الموازنة المائية لأي دولة لديها قطاع زراعي من دول العالم ، ومن يريد تقليص هذه النسبة فعليه إلغاء القطاع الزراعي أوتحجيمه بدرجة كبيرة والمغامرة بالأمن الغذائي والأمن الوطني. وللإيضاح للجميع فإن السبب في ارتفاع استهلاك القطاع الزراعي النباتي للمياه ، يعود إلى كون المحاصيل الزراعية وخصوصاً الحولية منها مثل الحبوب والخضروات والتي تشكل السواد الأعظم من المحاصيل الزراعية ، تتم زراعتها في الأرض وتبدأ من البذرة فالبادرة ثم التفرع فالاستطالة ثم الإزهار فإنتاج المحصول(الثمار) حتى تصل لمرحلة الحصاد . وكل مرحلة من هذه المراحل تستهلك احتياجاتها من المياه وأي خلل في كمية المياه المعطاة للنبات سوف يكون له أثر عكسي على جميع مراحل النمو وخصوصاً كمية المحصول، وستبقى جميع المحاصيل الزراعية فسيولوجياً بهذه الآلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لذلك ليس من المصلحة العامة شن حملة إعلامية على استهلاك المحاصيل الزراعية من المياه وكأن الأرقام التي يتم نشرها في وسائل الإعلام مقتصرة على المحاصيل الزراعية المنتجة بالمملكة. لكن- وهنا بيت القصيد – لابد من العمل وبصفة عاجلة جداً على تحديد الموازنة المائية الفصلية المخصصة للقطاع الزراعي بالمملكة وتحديد المحاصيل الإستراتيجية التي يمكن إنتاجها بصفة مستديمة من حيث المساحة والكمية والعمل وبصرامة على إيقاف التوسع في إنتاج المحاصيل الترفية مثل الزيتون وعدم تخصيص وبصفة قاطعة إعانة سنوية لها . كذلك لابد من تطبيق مفاهيم أساسية عند استخدام الري الزراعي مثل الإدارة السليمة لمياه الري وكذلك المفهوم الآخر ذو الأهمية Irrigation Water Management
والخاص بكمية إنتاج وحدة المياه من المحاصيل الزراعية. (Water Productivity)
وفي هذا السياق أرى ضرورة تصحيح مفهوم خاطئ عن استهلاك محصول القمح من مياه الري .
القمح .... المحصول المتهم البريء
هناك إجماع بين المهتمين بالأمن الغذائي حول العالم بأنه لا يوجد محصول زراعي آخر ( باستثناء الأرز ) يمكن له أن يوازي الأهمية الإستراتيجية التي يحظى بها محصول القمح ، الاَ ان هذا المحصول تعرض لحملة إعلامية محلية شرسة ليس لها أساس علمي خلال العقد الماضي تطالب بوقف زراعته بسبب استهلاكه العالي من المياه.
وفي مقال سابق أشرت إلى أهمية عدم التوقف عن إنتاج محصول القمح بشكل كامل والعمل على تخصيص ما مقداره (250000) مئتان وخمسون ألف هكتار لإنتاج القمح وموزعة على مناطق الزراعة المروية الرئيسة بالمملكة نظراً لأهمية هذا المحصول الإستراتيجي والذي تفيد جميع المؤشرات الصادرة من المنظمات الزراعية المنتشرة حول العالم إلى صعوبة وربما استحالة الحصول عليه خلال السنوات القليلة القادمة .
وأرى هنا انه من الواجب إيضاح ان استهلاك محصول القمح من مياه الري يعتبر أقل من استهلاك أغلب المحاصيل التي تزرع بالمملكة . والجدول التالي ليس من نسج الخيال بل إنه يعكس أرقاماً لدراسات علمية لمشاريع بحثية وطنية قام بها عدد كبير من الخبراء والعلماء المشهود لهم بالتأهيل والخبرة والمعرفة حيث توضح تلك الأرقام بأن محصول القمح قد الصقت به تهمة استنزاف المياه بدون وجه حق خصوصاً إذا تم ضبط المساحة المخصصة لإنتاجه .
والمؤكد ان التوسع في زراعة هذا المحصول سابقاً أدى إلى ارتفاع استهلاكه الإجمالي من المياه ، لذلك فإن العمل وبمتابعة دقيقة من الجهات المعنية بالنشاط الزراعي على ضبط المساحة المخصصة لزراعته سوف يجعل هذا المحصول من المحاصيل الزراعية التي تقع في أسفل سلم الاستهلاك المائي خصوصاً إذا أدركنا إن الحاجة الإستراتيجية للقمح تدعو إلى الاستمرار بزراعته .وما لم نتدارك ذلك فإن ما يحصل للشعير حالياً سوف يحصل للقمح خلال السنوات القليلة القادمة مع ملاحظة أن المنافسة القادمة سوف تكون صعبة المراس وبين العديد من الدول حول العالم.
رابعاً: في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن حفظ حق الأجيال القادمة من المخزون المائي الجوفي ، وهذا توجه لا يمكن أن يختلف عليه اثنان ،لكن المتاجرة بهذا المفهوم عبر وسائل الإعلام وعدم تطبيقه على أرض الواقع لن يؤدي إلى حفظ حق الأجيال القادمة من المياه الجوفية.
إن ما يحدث على أرض الواقع في مواقع النشاط الزراعي حالياً عبارة عن فوضى عارمة عندما يتعلق الأمر بالأمن المائي وسأكتفي بذكر مثالين لتوضيح ذلك.
1.في إحدى مناطق الزراعة المروية الرئيسة تشكل زراعة الأعلاف (أكثر المحاصيل الزراعية استهلاكاً للمياه) ما نسبته 70% من إجمالي المساحة المزروعة . وفي تلك المنطقة يوجد سوق مخصص لبيع الأعلاف تتحكم به العمالة الأجنبية والعديد منهم أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وهنا يحق لنا أن نتساءل..... هل هذا هو القطاع الزراعي الذي ننشده ، وهل ما يحدث في تلك المنطقة يحقق لنا الأمن المائي؟
2.إحدى الشركات الزراعية أعلنت قبل فترة وجيزة عن استكمال زراعة (2)مليون شجرة زيتون وهي في طريقها لزراعة المليون الثالث في منطقة رئيسة أخرى من مناطق الزراعة المروية....وهنا أيضاً يحق للمختصين الذين يؤمنون بالأمن المائي والأمن الغذائي كمنهج زراعي يتم تطبيقه على أرض الواقع أن يتساءلوا ،من أين حصلت تلك الشركة على الترخيص لزراعة هذا العدد الهائل من أشجار الزيتون(محصول ترفي ثانوي غير إستراتيجي) في بلد يعاني من قلة موارده المائية . وخلاصة الأمر هل ما تفعله هذه الشركة يحقق لنا الأمن المائي أو الأمن الغذائي؟
وهنا أرى انه من المناسب الإشارة إلي أن قرار مجلس الوزراء الموقر رقم 335 الخاص بترشيد استهلاك المياه المخصصة للقطاع الزراعي والذي يشمل العديد من النقاط الايجابية قد صدر قبل أكثر من (3) سنوات ونجح في الحد من زراعة القمح ، لكن بالمقابل تم استخدام عدد كبير من مواقع إنتاج القمح لإنتاج محاصيل أخرى أكثر استهلاكاً للمياه.
خاتمة : للإجابة على عنوان هذا المقال فالواضح ان ما تم نشره في الصحف المحلية خلال الفترة الماضية أدى إلى تضخيم الأثر السلبي للنشاط الزراعي المحلي من قبل المطالبين بالمحافظة على المياه ، حيث أدى ذلك إلى إظهار القطاع الزراعي النباتي وكأنه وسيلة هدفها القضاء المبرم على المخزون المائي لهذه البلاد.
وإحقاقاً للحق فإن ما يجري على أرض الواقع حالياً في مناطق الزراعة المروية في جميع أنحاء المملكة من توسع غير مبرر في إنتاج المحاصيل الزراعية وخصوصاً النخيل والأعلاف والبطاطس والمحاصيل الترفية وفي مقدمتها الزيتون ، يعطي الحق للمنصفين بالمطالبة بسياسة مائية محددة ودقيقة تعمل على تحقيق الأمن المائي للمملكة . إلاَ أن المطالبة بشطب القطاع الزراعي النباتي المحلي ونعت المطالبين بالمحافظة عليه وفق منظور مستديم بأنهم في سبات وعليهم أن يفيقوا ، لن يخدم المصلحة العامة وقد أدى إلى شن حملة شعواء على القطاع الزراعي النباتي جعلت العديد من غير المختصين يطالبون بإلغاء هذا القطاع .
وللإيضاح فإن هذا المقال لا يهدف إلى المطالبة بتشكيل لوبي زراعي للوقوف بوجه لوبي المياه ،بل إني أرى ان على المختصين من ذوي الخبرة والنزعة الوطنية من الطرفين وخصوصاً الذين أفنوا أعمارهم بالعمل بالقطاع الزراعي... المبادرة وبصورة عاجلة بطلب الاطلاع على الخطة الوطنية الشاملة للمياه وكذلك الإستراتيجية الزراعية والمطالبة بسرعة تطبيقهما إذا كانتا تخدمان الأمن الغذائي والأمن المائي للمملكة ، ونقدهما نقداً هادفاً وبناءً إذا كانتا تهدفان إلى إلحاق ضرر بالغ بالقطاع الزراعي النباتي وحصر الزراعة بالبيوت المحمية والأسماك والدواجن والثروة الحيوانية على أن يتم استيراد أعلافها .
وأخيراً لا بد أن أشير إلى أن الخطط والإستراتيجيات ستبقى حبراً على ورق إذا لم يتم تغيير فلسفة العمل بالمؤسسات المعنية بالأمن المائي والأمن الغذائي (وزارة الزراعة ووزارة المياه والكهرباء) بحيث يتم تطوير القدرة الفنية لتلك المؤسسات وتقليص العمل الورقي اليومي الذي يستهلك وقت العاملين بهما .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن النجاح في التوسع بزراعة القمح سابقاً ثم تحجيمه حالياً كان بسبب وجود مشتر واحد له ، هي الدولة مما سهل عملية السيطرة عليه ، ولن يكون الحال نفسه بالنسبة للمحاصيل الزراعية الأخرى والتي يتطلب ضبطها وتحديد كمياتها ومساحاتها ، المتابعة المستمرة لما يجري على أرض الواقع مع سن وتنفيذ القوانين والتشريعات الصارمة التي تكفل استدامة النشاط الزراعي. وسوف أستعرض في المقالات القادمة بعض المقترحات الفنية التي يمكن لها أن تساهم في الأمن المائي والأمن الغذائي لهذه البلاد المترامية الأطراف والتي يزداد عدد سكانها بوتيرة متسارعة.