يقترن ذكر اللغة الإنجليزية أكاديميا في بلادنا بالأستاذ الدكتور عزت عبد المجيد خطاب أحد أبرز الأكاديميين في تاريخ الجامعات السعودية منذ تأسيسها.. فالرجل المتخصص في الأدب الإنجليزي والأدب المقارن يقطر عمقا وأصالة، ولمع كمثقف ومبدع أكثر منه متخصصا أكاديميا رغم سبق مبادرته وريادته كأول معيد ودكتور سعودي في حقله.. التقيته في جدة بعد أن استقر به الحال وحط عصا الترحال فوجدته مثل غيره من الرواد يشكو غياب التقاليد وبروز ظاهرة نكران الجميل للرعيل الأول من قبل جامعة الملك سعود، متمنيا أن تتذكره ولو بلوحة تعريف لكنها لم تفعل.. اعترف بريادة مصر وفضل أساتذتها على جيله وظل وفيا لمبادئه التي أورثها لطلابه مرسلا إشارات ذات مغزى وهدف.. تحدث عن غربته في شوارع المدينة المنورة التي فقدت نكهتها وتاريخها القديم.. تركته يسترسل مستمتعا وأنا أستزيد من تجربته وعلمه بدءا من مرحلة الأحواش والأزقة وبيوتها التاريخية التي أصبحت أثرا بعد عين:
مدين لمصر ونادم على تجاهلي للعقاد.. الدكتور عزت خطاب أول معيد ودكتور سعودي في اللغة الإنجليزية
حوار : بدر الغانمي
مدين لمصر ونادم على تجاهلي للعقاد.. الدكتور عزت خطاب أول معيد ودكتور سعودي في اللغة الإنجليزية
حوار : بدر الغانمي
ولدت في حوش سنان الواقع على شارع العنبرية، فيما نشأت في حارة السيح التاريخية التي كان يجري فيها سيل بطحان ومرت بي لحظات جميلة عندما كنا نتفرج على السيل وهو يمر من حارتنا مع الأهل والأقارب، ولم تكن هناك كهرباء سوى في الحرم النبوي الشريف، ومولدات خاصة في بيت الأمير وبعض علية القوم مثل بيت الخريجي والسيد حبيب ــ رحمه الله، أما نحن وبقية الناس فكنا نستعمل الفوانيس ولمبات الغاز فالأتاريك لم تكن معروفة وقتها.
• الوالد كان موجودا؟
نعم، ووالدي عاش في فترة الحكم العثماني للحجاز وتخرج من المدارس العثمانية ويجيد اللغة التركية، وكان يشجعنا على الدراسة دائما وهو من المؤسسين لمجلة المنهل ولم أكن محبا للعب، فكانت والدتي تشجعني على الذهاب إلى أي مكان مع والدي، وكانت لديه ــ رحمه الله ــ (صحارة) اكتشفت فيها كنزا من المجلات الأولى كالمنهل والأزهر ونور الإسلام، فقرأتها كلها وتوفي بعد حصولي على الدكتوراه من الولايات المتحدة.
• هل وجهك إلى خط معين في الدراسة ؟
إطلاقا فقد ترك لي حرية الاختيار عندما كبرت لكنه ألحقني بداية بالمدرسة الخيرية الشبيهة بالكتاتيب وصاحبها الشيخ محمد صالح النابلسي ــ رحمه الله ــ في منطقة نسميها (جوة المدينة) بينما يسميها أهل مكة (سويقة)، ودرسنا فيها القرآن وحساب وتجويد وكان الشيخ يعلمنا القراءة المجودة من خلال حفظ صور القصص، فبدأنا على خلاف المعتاد بحفظ سورة يوسف، ثم شاءت ظروف عمل الوالد ــ رحمه الله ــ أن شغرت وظيفة مدير مالي في القريات فذهبنا معه، وفي تلك الفترة كانت القريات أقل من قرية ولم يكن بها سوى قصر الأمير عبد العزيز السديري، وفي داخله توجد غرف للمالية والجمرك واللاسلكي، أما خارجه فتوجد على بعد كيلو ونصف حارة تضم موظفي هذه الإدارات الحكومية ولم تكن هناك دكاكين ولا مخابز ولا مظاهر حقيقية للحياة، وكان الرجل الأعزب يموت جوعا أما المتزوج مثل والدي فيستطيع البقاء حيث يتم الطبخ والخبز بواسطة الحطب داخل البيت، ومكثنا هناك لمدة سنة ونصف كانت كلها شقاء وتعب حيث درست السنة الثانية والثالثة الابتدائية وبعد عودتنا إلى المدينة المنورة أنا ووالدتي وأختاي الاثنتين، عاد والدي مرة أخرى إلى القريات فيما بقينا نحن فدخلت الصف الرابع الابتدائي في المدرسة المنصورية في العنبرية وحصلت منها على الشهادة الابتدائية، ولا أنسى أياما كنا نصطف فيها تحت لوحة مدرستنا وننشد مع طلاب المدارس الأخرى مرحبين بضيوف المدينة المنورة من الملوك والرؤساء ورؤساء الوزراء وذوي الشأن والذين كانوا ينزلون ضيوفا على الملك عبد العزيز والملك سعود ــ رحمهما الله، ويستضافون في بيت أسرة الخريجي لعدم وجود فنادق أو دور ضيافة مناسبة لهم في تلك الفترة، وما زال في ذاكرتي تلويحة ملك أفغانستان السابق محمد ظاهر شاه ــ رحمه الله ــ وكان آخر ضيف يستضاف في بيت الخريجي عندما عاد من موكبه على غير العادة قبل دخوله للبيت وأخذ دورة كاملة بالسيارة ليحيي كل الطلاب الذين اصطفوا للترحيب به وكان شعورا بالفرح بالنسبة لطفل في عمري لا ينسى.
• الغريب أن هذا المعلم التاريخي هدم وذهب تاريخه مع أنه خارج نطاق توسعة الحرم النبوي الشريف؟
كنت أتمنى لو اشترت الدولة هذا البيت المبني من الحجر والمصمم بنظام معماري فريد لم يكن موجودا في جدة ومكة المكرمة من آل الخريجي وأبقته معلما تاريخيا، لأن هدمه أسقط جزءا مهما من تاريخ لم يشاهده أبناؤنا وجيل اليوم عن المدينة المنورة.
• لم تكن هناك مدرسة متوسطة في المدينة؟
كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في المدينة المنورة آنذاك وكنا نسميها مدرسة طيبة الثانوية ضمن أربع أوخمس مدارس على مستوى المملكة، لكنها لم تكن مكتملة، فالدراسة لمدة خمس سنوات حيث يحصل الطالب بعد ثلاث سنوات على شهادة الكفاءة المتوسطة وبهذه الشهادة كان الطالب الراغب في عدم إكمال دراسته يجد له وظيفة جيدة كما هو الحال مع حامل الشهادة الابتدائية، أما الراغبين في إكمال السنتين الأخيرتين فيحصلون على شهادة اسمها (المتابعة) وبها يتوظف الطالب أيضا، لكن إن رغب المتخرج في الابتعاث، فعليه أن ينضم إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة حيث يوجد بها القسمين الأدبي والعلمي ويأتيها الطلاب من كل مناطق المملكة فالتحقت بها بعد الثانوية مباشرة.
• إذن .. لم تدرس في حلقات الحرم النبوي؟
وهل يعقل هذا وأنا ابن المدينة المنورة .. منذ المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية كانت مرحلة ما بعد العصر دائما عند الشيخ في الحرم وكنا نستغل وجود الكهرباء في الحرم في مذاكرة دروسنا من المغرب إلى صلاة العشاء، ثم نعود إلى بيوتنا حيث تقفل أبواب الحرم في تلك الفترة.
• مدرسة تحضير البعثات كانت حلما بالنسبة لك؟
ومن فضل الله علي أن كنت ضمن آخر دفعة تخرجت منها عام 1373هـ وكان مديرنا عبد الله بغدادي ــ رحمه الله ــ وهي نفس السنة التي توفي فيها الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، وكانت لدي ثلاثة أحلام متعلقة كلها بمصر بسبب أن جارنا في المدينة المنورة كان يدرس في مصر، فكنت أرى حفاوة الناس به عندما يعود فتمنيت أن أكون مثله بحيث أزور مصر أولا وهذه تحققت، وثانيا أن أعيش وأدرس فيها وهذه أيضا تحققت والحمد لله، وبقيت الأمنية الثالثة وهي أن أعود مدرسا ومحاضرا ولو لمرة واحدة في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة والذي ما زال كما عرفته منذ خمسين سنة وإلى اليوم لم يتغير فيه شيء وفي نفس المكان الذي وقف فيه أساتذتي، حيث انطلقت ومازلت أتمنى وأدعو الله أن يحقق لي هذا الحلم لأرد شيئا بسيطا من الدين .
• تأقلمت سريعا مع القسم الداخلي بتحضير البعثات ؟
القسم الداخلي يحتاج لمن يكتب عنه لما شهده من قصص وذكريات جميلة، فطلاب كل منطقة لهم غرف خاصة وكنا نجتمع سبعة إلى ثمانية طلاب في كل غرفة، كل بسريره ودولابه وجاورني منصور الخريجي منذ البداية وكانت تفصل بين الغرف فواصل من (البارتيشن) وكنا بعد انتهاء المدرسة نعود للغداء ويذهب من تستهويهم كرة القدم فيلعبون في ملعب مجاور للمدرسة أما أنا فكانت تستهويني الدراسة بعد العصر مع بعض الطلاب على «قعقعة» كاسات الشاهي الذي يعدونه لنا في أباريق كبيرة ومع صلاة المغرب نذهب إلى الحرم لمواصلة المذاكرة لوجود إضاءة دائمة هناك ونعود مع صلاة العشاء .
• قالوا لي أن صوتك كان جميلا؟
أكيد اللي قال لك هذه المعلومة الدكتور منصور الحازمي، لكن الحقيقة أنني أنا كنت سميعا لأم كلثوم والراديو ممنوع دخوله بقرار، ومن وجد لديه جهاز مهرب يصادر منه ويعاقب فأحد زملائنا ــ ولن أقول اسمه ــ سرب جهازا للسكن الداخلي وكنا نجلس بجواره إذا أذيعت حفلة أم كلثوم وكل واحد فينا معه لفة من ورق يضع طرفها إلى السماعة والطرف الثاني في أذنه لكي لا يكتشف أمرنا وكان شكلنا مضحك ويدعو للشفقة .
• هذا يعني أنك تعرضت لصدمة حضارية عند وصولك إلى مصر ؟
أبدا، بل عايشت الحياة لحظة بلحظة كما هي على أرض الواقع واستمتعت بفترة وجودي فيها، وصبرت على نفسي وصابرت رغم المغريات، ولم أتزوج إلا في السنة الثانية من وجودي في بريطانيا لدراسة الماجستير وكانت هناك محاولات من بعض أقاربي في مصر لتزويجي من بنات سعوديين مقيمين في مصر، ولكنها لم تفلح أمام رغبتي في الزواج من المدينة المنورة وانشغالي أيضا في الدراسة ذلك الوقت، ولعلمك فالقاهرة كانت متطورة جدا تلك الأيام، تصور أن ما يسمونه الآن (سوبر ستور) حيث تجد بناء متعدد الأدوار وفي كل دور نوع معين من المعروضات موجودة من تلك الفترة في القاهرة، أما الجلوس على مقهى في شارع فؤاد فكأنك تجلس على شارع الشانزلزيه في باريس وبجوارك الأوبرا وكورنيش النيل وكلها في وسط البلد، وكنا نسكن في أرقى مناطق القاهرة في شارع المساحة القريب من الجيزة أمام حديقة الرومان وأذهب يوميا إلى جامعة القاهرة سيرا على الأقدام.
• لكن توجهك الدراسي للغة الإنجليزية تحدد عندما وصلت إلى مصر ؟
كان اتجاهي أدبيا وهذا ما سعيت إليه، وبالمناسبة فالطالب يقضي في تحضير البعثات سنة ثم يبتعث ولم يكن هناك من يساعده في تحديد تخصصه أو وجهته، وعندما وصلنا إلى القاهرة وقابلنا عبد الله عبد الجبار مسؤول الابتعاث شافاه الله ولكون دفعتنا كبيرة العدد، فقد أرسل أوراقنا لسكرتير عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة وكنا أنا ومنصور الخريجي وعبد الله أبو السمح ننتظر مصيرنا، فاقترح علينا الرجل دخول قسم اللغة الإنجليزية لارتفاع درجاتنا في المادة فوافقنا على الفور وعدنا لدار البعثات فسألنا زملاءنا هناك عن اختياراتنا، فأخبرناهم فضحكوا علينا وظلوا يرددون على مسامعنا أننا سنفشل لأن كل الملتحقين بقسم اللغة الإنجليزية من خريجي كلية فكتوريا والمدارس الخاصة في مصر، وقالوا لنا صراحة: عيشوا في الواقع ولا تحلموا وغيروا خياراتكم إلى التاريخ والجغرافيا أو اللغة العربية.
• كلامهم يجيب الإحباط.
كنت سأصدقهم وبدأت أنهزم في داخلي أمام موقفهم ولو كنت لوحدي لربما تغير طريقي تلك اللحظة، ولكن الله أكرمني بزملائي فتضامنا سويا ودافعنا عن اختياراتنا وقبلنا التحدي، وتعجب أننا لم نفهم كلمة واحدة في أول محاضرة بقسم اللغة الإنجليزية وشعرنا بصعوبة الموقف، فقررنا التعاون والصبر فيما بيننا وكانت السنة الأولى شاقة جدا ولم نكن نسمح لأنفسنا حتى بالخروج للفسحة في العطل الأسبوعية وزاد الطين بلة حرب السويس وانقطاع الكتب التي كانت تأتي من إنجلترا، إضافة إلى انعدام الكتب في مكتبات الجامعة، وكان الاعتماد على ما يكتب في المحاضرات، ونحن لا نستطيع الكتابة بسرعة ولم يكن هناك تصوير، بل لم يكن هناك طالب يعطي أوراقه للآخر فواجهنا الموقف بكل شجاعة وشكلنا فريق عمل بحيث يتولى كل واحد منا دورا، فهناك من ينقل كل ما يكتبه الأستاذ على السبورة وآخر لكتابة التعليقات وهكذا، وكنا نجتمع بعد نهاية اليوم الدراسي فنعمل محاضرة من جديد ونجمع ما كتبناه في المحاضرة الأساسية، وتمكنا من النجاح بفضل الله، صحيح أن مستوانا لم يكن بمستوى زملائنا المصريين، لكننا حققنا الأهم وهو عدم الفشل والتفوق على أنفسنا، وكان لنا بعد توفيق الله عز وجل فضل المبادرة والسبق.
• في ظل هذه الضغوط الدراسية، لم تنعزل وتأثرت بمصر طه حسين والعقاد؟
ومن لا يتأثر بما كان يحدث ثقافيا وسياسيا، فالذين في الخارج تأثروا فما بالك بمن في الداخل، فالآلة الإعلامية كانت قوية وصاخبة، ولكننا لم نشارك في مظاهرات أو ما شابه ذلك وإن تدربنا خلال العدوان الثلاثي، وأعجبنا بالأجواء الثقافية والأدبية المبهرة فلم يمر يوم في القاهرة إلا وتجد فيه ندوة أو أمسية ثقافية وخلافها، وكنت أحضر مسرحيات الفرق الأجنبية التي تزور مصر كالفرقة الأيرلندية التي مثلت إحدى مسرحيات شكسبير باللغة الإنجليزية وأتابع إذاعة البرنامج الثاني المصرية منذ انطلاقها لتوجهها الثقافي المتميز ولم أفوت على نفسي سماع الأعلام من غير المصريين الذين وفدوا إلى القاهرة من أمثال مالك بن نبي فحضرت ندواته التي عقدها، كما حرصت على شراء الكتب واقتنائها وشجعني على ذلك الثلاثين جنيها التي صرفتها لنا وزارة المعارف لشراء الكتب الدراسية، وكنت أذهب أحيانا إلى سور الأزبكية أيضا لما يوجد فيه من الكتب النادرة وما زال بعضها موجود في مكتبتي إلى الآن، ومنها طبعة فاخرة من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ .
• يقال أنك قابلت العقاد وندمت على عدم مجالسته؟
أنت تحرك في داخلي ساكنا فأنا أتأسف وما زلت على عدم حضوري ندوات عباس محمود العقاد ــ رحمه الله، لأنها تعقد بعد صلاة الجمعة في العباسية وتكاسلت عن الذهاب لطول مسافة الطريق التي تضطرني لركوب الأتوبيس من الجيزة حيث أسكن إلى ميدان التحرير ثم الركوب مرة أخرى من هناك إلى العباسية والعودة بنفس الطريقة، ففاتني الكثير وإن كنت قد قابلته صدفة في مكتبة الأنجلو التي يتعامل معها لوجود الكتب الإنجليزية فيها، ولكنها لم تكن كافية لتطفئ ما في نفسي.
• طبعا لم تفوت حفلات أم كلثوم ؟
بيني وبينك كانت قيمة تذكرة آخر الصفوف تكلف ثلاثة جنيهات فلم أحضر إلا مرة واحدة، لكنني في الأخير شاهدتها وسمعتها وجها لوجه.
• رغم حبك للإنجليزية بفضل أستاذك إلا أنك ما زلت معارضا تدريسها في المرحلة الابتدائية التي يعتبرها الكثيرون مرحلة تأسيس، لماذا؟
وما زلت عند رأيي لأن تعليم أي لغة من اللغات يحتاج إلى جهد كبير من المدرس بالذات ومن المدرسة والمناهج ووسائل التعليم، وهذا المدرس بكل أسف لا يتوافر باستمرار والفصل الدراسي يجب أن لا يزيد عن خمسة عشر إلى عشرين طالبا كحد أعلى لأنه لا يمكن أن تدرس الطلبة لغة من اللغات في محاضرة كبيرة والجامعات يجب أن لا تدرس لغة إلا من خلال معاهد سواء كانت تجارية أو حكومية، واللغة يتعلمها الإنسان في مراحل مختلفة ولو متأخرة، والطالب الجامعي يأتينا ضعيفا في المهارات الأربع الأساسية وهي السماع والفهم والكلام ثم القراءة والكتابة، وكنا نفضل أن يأتينا الطالب بلا معرفة باللغة الإنجليزية لنبدأ في تأسيسه من الصفر، لأن الدورات التقويمية التي يتلقاها في الجامعة لا تمسح من ذاكرته الطرق الخاطئة التي نشأ عليها في دراسته للغة، واللغة مهارة تتعمق بالممارسة وكدليل فإن طلاب الدراسات العليا الذين ذهبوا لفرنسا وألمانيا مثلا تعلموا اللغة في هذه المراحل على أصول صحيحة وأصبحوا يكتبونها رسائل بمهارة.
• وما رأيك فيما تقدمه معاهد اللغة في المملكة ومدى مردودها على الطلاب ؟
لا أستطيع أن أعمم في هذا الموضوع ولكنني أقيم من خلال ضوابط إن كانت موجودة فيحكم بها على التجربة بدءا من المدرسين والمنهج الدراسي وحجم الفصل ومدى توافر الوسائل التعليمية، ومن هذه الأربعة يظل المدرس هو الأساس ثم يليه الكتاب والمنهج .. وأتصور أن جامعاتنا لو أعطت الطلاب في بداية التحاقهم سنة أولى كاملة ومكثفة في اللغة الإنجليزية لأفادتهم كثيرا وقد تكون هناك معاهد جيدة، ولكنني لا أستطيع أن أحددها بعينها.
• الكثيرون يرون أن دراسة اللغة تكون في البلد الأم ؟
هذا أفضل ولكن بشرط الابتعاد في البداية عن أي شيء عربي، والحقيقة أن الذهاب لبلد اللغة يضيف للشخص ثقافة استخدامها وأعطي مثلا عن نفسي في بدايات سفري إلى بريطانيا فكلمة (date) تعرف بأنها موعد أو تاريخ فحدث معي أن أخبرت أحد أساتذتي (I have a date) فضحك لأن معنى الكلمة عندهم تعني الخروج في موعد مع صديقة ولم أكن أعلم ذلك وكان موعدي مع الطبيب، فعندما عدت سألني فقلت له كنت عند طبيب الأسنان فضحك مرة أخرى، وشرح لي سبب ضحكه، وهكذا فالقواميس لا تعلم اللغة، وإنما يتم ذلك من خلال استخدامها ككائن حي في كل مكان، ولا أخفي سرا فزوجتي لم تتح لها الفرصة أن تتعلم الإنجليزية قبل سفري إلى أمريكا، ولكنها تعلمت من خلال سماع التلفزيون ومخالطة النساء على مدى ست سنوات من وجودي هناك فأصبحت تحاضر باللغة الإنجليزية وهي لم تتعلمها من خلال كتاب أبدا.
• صديقك الشيخ منصور الخريجي قال إنك خلقت لتكون أكاديميا؟
ولا أتصور نفسي في شيء آخر خلاف التدريس، والمناصب الإدارية التي كلفت بها وتوليتها لم تستهوني وأنا آسف للتصريح بهذا الأمر ولكنها أخذت من وقتي الكثير.
• عطلت فيك جوانب إبداعية ؟
نعم ، لاسيما في الأيام الأولى حيث كان مطلوبا منا أن نعمل كل شيء في مرحلة التأسيس .
• البعض يرى أنكم عدتم أكثر تغربا من الجيل الحالي؟
الشيء الذي أعترف به أن دراستي في الخارج جعلتني أكثر تمسكا باللغة العربية وأنا إلى الآن أتمنى أن تدرس جميع المواد بما فيها الطب باللغة العربية، لأن الحقيقة العلمية واللغوية تؤكد أن الإنسان لا يبدع إلا في لغته وهذا لا يعني إهمال اللغات الأخرى خصوصا الإنجليزية كلغة عالمية ولكن اللغة العربية ليست قاصرة ولا أقل من أي لغة عالمية أخرى، ونحن لا نستخدمها بشكل لائق وسليم و قد يستغرب البعض رأيي ولكنني مقتنع به أيما اقتناع، وأنا أشفق على أجيالنا وثقافتنا لإهمالنا هذه اللغة، ودعني أسأل هل الأطباء السوريون أقل قدرة من غيرهم وهم الذين يدرسون الطب باللغة العربية بقرار سياسي، بالطبع لا وهذا لم يمنعهم من تعلم لغات أخرى.
• الغريب أننا أهملنا لغات شعوب أكثر تواصلا وقربا معنا مثل دول شرق آسيا، بل إننا لا ندرس الفارسية وهي اللغة الأكثر استخداما للكلمات العربية في العالم؟
مع أن كليات اللغات منتشرة عندنا هذه الأيام، والحقيقة أننا حتى من الناحية الدينية كبلد يفد إليه الحجاج والمعتمرون من جميع دول العالم لم يوجد لدينا من يتخصص في هذه اللغات ولا أقصد لغة الكلام فقط.. أما عن اللغة الفارسية فأذكر لك ما قاله لي الدكتور خالد البدلي البروفيسور المتخصص في لغة فارس، وهو أن معظم كنوز الحضارة الإسلامية التي رماها هولاكو في نهر دجلة أثناء قدوم المغول إلى بغداد موجودة الآن باللغة الفارسية بعد أن نقلها طلبتهم الذين كانوا يتكلمون العربية تلك الأيام إلى لغتهم ونحن نائمون لا نعلم عنها شيئا ولم نتحرك خطوة واحدة تجاهها.
• لماذا لم تطرق باب ترجمة الروايات مثل صالح علماني مثلا؟
الترجمة موهبة قبل أن تكون علما، كما أن الإنسان يترجم الشيء الذي يحبه، وللأسف فإن بعض المترجمين يجيد اللغة الأصلية ويهمل الأخرى بمن فيهم أنا فلست مبرأ، وقد ترجمت كتابا في النقد بعنوان (الأدب العربي عملية استكشاف) وعندما أرسل الكتاب إلى المحكمين أخرج لي أحدهم الكثير من الأخطاء اللغوية والأسلوبية واستفدت من ملاحظاته كثيرا، وكنت أعتقد أنني أفضل من غيري، فكيف بترجمة الروايات ونحن نعيش في عصرها وهي جانب أصعب بكثير لأنها إبداع وتختلف أساليبها من موقف لآخر.
• أيضا.. لم تترجم شيئا لشاعر كبير مثل المتنبي مع إعجابك به ؟
كيف تترجم معمار القصيدة الفنية من كلمات وموسيقى وصور ودلالات وشاعر مثل المتنبي تفقد الترجمة لشعره الكثير من دلالات المعاني التي يقصدها .
• منذ ثلاثين عاما تمت التوصية بمراكز ترجمة في كل بلد عربي تحت مظلة الجامعة العربية ولم يتم شيء .. لماذا ؟
اشتركت في أول مؤتمر عقد في الكويت ووضعنا توصيات جميلة ولكنها ظلت حبرا على ورق .
• انتقادات موسوعة الأدب العربي طالتك أيضا يا دكتور؟
أولا كلمة موسوعة في غير محلها وأنا في رأيي أن الكلمة الدقيقة لما قمنا به هي مختارات وللأسف أن الانتقادات ركزت على «الشخصنة» وتركت الأهم وهو نقد العمل من قبل المتخصصين، وكان بالإمكان أن يتطور هذا العمل إلى الأفضل ولكنه لم يجد الاهتمام الكافي به.
• أصدقاؤك يتخوفون من أن تكون أصبت بالمراهقة المتأخرة عندما كتبت شعرا في مرحلة متقدمة من العمر ؟
لم أعتبر نفسي شاعرا ولا أديبا وإنما قمت بمحاولات وفضفضات وللأسف أن أصدقائي لم يقولوا لي أن شعري تافه أو يستحق أن يكون شعرا فأهملوني، ولا أعتقد أنهم لم يكتبوا سلبا أو إيجابا لكي لا يشتهر الديوان لثقتي أنهم أعلى من التفكير بهذا المستوى خصوصا من زملائي الحقيقيين، وربما كان هذا في صالحي.
• قلت عن مجلة كلية الآداب أن البضاعة التي ترسل دون طلب تهمل وتوضع على الرف.. فهل هي أزمة علاقة بين جيلكم التقليدي وجيل الحداثة ؟
نحن لا نعتبر أنفسنا مخضرمين ولكن ما درسناه وتعلمناه هو الأدب، ولذلك لا يتشجع بعض رواد هذا الجيل لقراءة المحاولات الجديدة ولديهم تردد تجاه ذلك وهذا خطأ، ولا بد من التواصل بين الأجيال وأعتقد أنني بدأت أقرأ كل فن جديد يطرح، فأدونيس يظل عملاق الشعر الحديث بلا منازع وهناك قامات في الجيل الحالي لا تقل عن المؤسسين كالماغوط ومحمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي وقبلهم صلاح عبد الصبور والسياب ونازك الملائكة.
• هل تؤيد ما قاله الدكتور الحازمي عن غياب التقاليد الجامعية لدينا في حواره الأسبوع الماضي؟
دائما نقول إن الغرب هو صاحب التقاليد في هذا الجانب، أما عربيا فجامعة القاهرة ما زالت رائدة ونحن في أعناقنا دين لمصر لا نستطيع أن ننكره أو نسده، وما زال في مصر علماء كبار وأعلام منهم من ما زال حيا ومنهم من انتقل إلى رحمة الله مثل الدكتورة سهيل القلماوي أول امرأة تدرس في جامعة القاهرة والدكتور شكري عياد إضافة إلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، أما في تخصصنا فهناك الدكتورة فاطمة التابعي ــ رحمها الله ــ والدكتور مجدي وهبة والدكتور رشاد رشدي، وأنا أتساءل مع احتفال جامعة الملك سعود بمرور خمسين عاما على تأسيسها.. أين التقاليد الجامعية التي نورثها لطلابنا مثل تسمية مدرجات الدراسة بأسماء أعلام ورواد؟ صحيح هناك اعتراف بفضل الشيخ حمد الجاسر ــ رحمه الله ــ من خلال تسمية إحدى القاعات باسمه، لكنه استثناء بدأ وتوقف ولم يأت شيء بعده لعدم وجود تقاليد ثابتة وهو ما يثير تساؤلي لكن يبدو أن الجامعة جزء من إيقاع الحياة العام الذي يتغير بسرعة.. وهل يصح أن يكون الأستاذ القديم والمؤسس مثله مثل أي أستاذ جديد؟ هذا واقع غير صحيح.
• البعض يرى أنكم تبالغون في انتقاد الجامعة التي أصبحت مسؤولياتها كبيرة جدا ومتشعبة؟
لست مادحا نفسي ولكنني أتكلم عن حقيقة تاريخية فأنا والدكتور رضا عبيد أول من فتح باب المعيدية في الجامعة عندما كان هذا الأمر حلما من الأحلام، فبعد مرور سنة واحدة من تأسيس الجامعة عام 1378هـ انضممنا إلى الجامعة بعد انتهاء بعثتنا في مصر وحصولي على بكالوريوس اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة وكان رئيسها الدكتور عبد الوهاب عزام ــ رحمه الله ــ وكانت صلته مباشرة بالملك سعود ــ رحمه الله، فالفضل بعد الله في تعييننا معيدين يرجع للأساتذة حامد دمنهوري ــ رحمه الله ــ ومحسن باروم وحمزة عابد وكلهم من طلاب الدكتور عبد الوهاب عزام في جامعة القاهرة، فاقترحنا أنا والدكتور رضا عبيد أن يحدثوا الدكتور عزام برغبتنا في أن نكون معيدين، فوافق على الفور ورحب بالفكرة على شرط أن تخلي وزارة المعارف التي ابتعثتنا طرفنا لصالح الجامعة وفعلا تم ذلك ومن طريف القول أن كلمة (معيد) في تلك الفترة لم تكن معروفة واستمررنا لمدة سنة ثم ابتعثنا إلى بريطانيا لتحضير الماجستير ثم الدكتوراة في الولايات المتحدة، فأتساءل: ما الذي يمنع الجامعة من أن تضع لوحة تعريفية مثلا تشير إلى كون فلان وفلان كانا أول معيدين (للتاريخ فقط)، وهو أمر بديهي لو كانت هناك تقاليد.
• الملاحظ أنك لم تعد إلى المدينة المنورة كما كان متوقعا بعد تقاعدك واستقررت في جدة لماذا ؟
المدينة التي كنت أعرفها انتهت، وأشعر الآن بغربة عندما أعود إلى الأحياء القديمة والأحواش التي دخلت ضمن الحرم حتى الشوارع الرئيسية فيها، واخترت العودة إلى جدة بسبب وجود بناتي الثلاث المتزوجات فيها وكذلك أحد أبنائي الذكور فيما الآخر في الرياض وشجعوني على أن أكون بقربهم أما العودة إلى المدينة المنورة فلم تغب عن ذاكرتي وتحاصرني دائما .
• ومشروعك بعد التقاعد ؟
إنني لست قاعدا فالوقت ضيق والعمر قصير، وأعمل الآن على مشروع بحثي عن الأجزاء الثلاثة لطه حسين على هامش السيرة.
• الوالد كان موجودا؟
نعم، ووالدي عاش في فترة الحكم العثماني للحجاز وتخرج من المدارس العثمانية ويجيد اللغة التركية، وكان يشجعنا على الدراسة دائما وهو من المؤسسين لمجلة المنهل ولم أكن محبا للعب، فكانت والدتي تشجعني على الذهاب إلى أي مكان مع والدي، وكانت لديه ــ رحمه الله ــ (صحارة) اكتشفت فيها كنزا من المجلات الأولى كالمنهل والأزهر ونور الإسلام، فقرأتها كلها وتوفي بعد حصولي على الدكتوراه من الولايات المتحدة.
• هل وجهك إلى خط معين في الدراسة ؟
إطلاقا فقد ترك لي حرية الاختيار عندما كبرت لكنه ألحقني بداية بالمدرسة الخيرية الشبيهة بالكتاتيب وصاحبها الشيخ محمد صالح النابلسي ــ رحمه الله ــ في منطقة نسميها (جوة المدينة) بينما يسميها أهل مكة (سويقة)، ودرسنا فيها القرآن وحساب وتجويد وكان الشيخ يعلمنا القراءة المجودة من خلال حفظ صور القصص، فبدأنا على خلاف المعتاد بحفظ سورة يوسف، ثم شاءت ظروف عمل الوالد ــ رحمه الله ــ أن شغرت وظيفة مدير مالي في القريات فذهبنا معه، وفي تلك الفترة كانت القريات أقل من قرية ولم يكن بها سوى قصر الأمير عبد العزيز السديري، وفي داخله توجد غرف للمالية والجمرك واللاسلكي، أما خارجه فتوجد على بعد كيلو ونصف حارة تضم موظفي هذه الإدارات الحكومية ولم تكن هناك دكاكين ولا مخابز ولا مظاهر حقيقية للحياة، وكان الرجل الأعزب يموت جوعا أما المتزوج مثل والدي فيستطيع البقاء حيث يتم الطبخ والخبز بواسطة الحطب داخل البيت، ومكثنا هناك لمدة سنة ونصف كانت كلها شقاء وتعب حيث درست السنة الثانية والثالثة الابتدائية وبعد عودتنا إلى المدينة المنورة أنا ووالدتي وأختاي الاثنتين، عاد والدي مرة أخرى إلى القريات فيما بقينا نحن فدخلت الصف الرابع الابتدائي في المدرسة المنصورية في العنبرية وحصلت منها على الشهادة الابتدائية، ولا أنسى أياما كنا نصطف فيها تحت لوحة مدرستنا وننشد مع طلاب المدارس الأخرى مرحبين بضيوف المدينة المنورة من الملوك والرؤساء ورؤساء الوزراء وذوي الشأن والذين كانوا ينزلون ضيوفا على الملك عبد العزيز والملك سعود ــ رحمهما الله، ويستضافون في بيت أسرة الخريجي لعدم وجود فنادق أو دور ضيافة مناسبة لهم في تلك الفترة، وما زال في ذاكرتي تلويحة ملك أفغانستان السابق محمد ظاهر شاه ــ رحمه الله ــ وكان آخر ضيف يستضاف في بيت الخريجي عندما عاد من موكبه على غير العادة قبل دخوله للبيت وأخذ دورة كاملة بالسيارة ليحيي كل الطلاب الذين اصطفوا للترحيب به وكان شعورا بالفرح بالنسبة لطفل في عمري لا ينسى.
• الغريب أن هذا المعلم التاريخي هدم وذهب تاريخه مع أنه خارج نطاق توسعة الحرم النبوي الشريف؟
كنت أتمنى لو اشترت الدولة هذا البيت المبني من الحجر والمصمم بنظام معماري فريد لم يكن موجودا في جدة ومكة المكرمة من آل الخريجي وأبقته معلما تاريخيا، لأن هدمه أسقط جزءا مهما من تاريخ لم يشاهده أبناؤنا وجيل اليوم عن المدينة المنورة.
• لم تكن هناك مدرسة متوسطة في المدينة؟
كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في المدينة المنورة آنذاك وكنا نسميها مدرسة طيبة الثانوية ضمن أربع أوخمس مدارس على مستوى المملكة، لكنها لم تكن مكتملة، فالدراسة لمدة خمس سنوات حيث يحصل الطالب بعد ثلاث سنوات على شهادة الكفاءة المتوسطة وبهذه الشهادة كان الطالب الراغب في عدم إكمال دراسته يجد له وظيفة جيدة كما هو الحال مع حامل الشهادة الابتدائية، أما الراغبين في إكمال السنتين الأخيرتين فيحصلون على شهادة اسمها (المتابعة) وبها يتوظف الطالب أيضا، لكن إن رغب المتخرج في الابتعاث، فعليه أن ينضم إلى مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة حيث يوجد بها القسمين الأدبي والعلمي ويأتيها الطلاب من كل مناطق المملكة فالتحقت بها بعد الثانوية مباشرة.
• إذن .. لم تدرس في حلقات الحرم النبوي؟
وهل يعقل هذا وأنا ابن المدينة المنورة .. منذ المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية كانت مرحلة ما بعد العصر دائما عند الشيخ في الحرم وكنا نستغل وجود الكهرباء في الحرم في مذاكرة دروسنا من المغرب إلى صلاة العشاء، ثم نعود إلى بيوتنا حيث تقفل أبواب الحرم في تلك الفترة.
• مدرسة تحضير البعثات كانت حلما بالنسبة لك؟
ومن فضل الله علي أن كنت ضمن آخر دفعة تخرجت منها عام 1373هـ وكان مديرنا عبد الله بغدادي ــ رحمه الله ــ وهي نفس السنة التي توفي فيها الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، وكانت لدي ثلاثة أحلام متعلقة كلها بمصر بسبب أن جارنا في المدينة المنورة كان يدرس في مصر، فكنت أرى حفاوة الناس به عندما يعود فتمنيت أن أكون مثله بحيث أزور مصر أولا وهذه تحققت، وثانيا أن أعيش وأدرس فيها وهذه أيضا تحققت والحمد لله، وبقيت الأمنية الثالثة وهي أن أعود مدرسا ومحاضرا ولو لمرة واحدة في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة والذي ما زال كما عرفته منذ خمسين سنة وإلى اليوم لم يتغير فيه شيء وفي نفس المكان الذي وقف فيه أساتذتي، حيث انطلقت ومازلت أتمنى وأدعو الله أن يحقق لي هذا الحلم لأرد شيئا بسيطا من الدين .
• تأقلمت سريعا مع القسم الداخلي بتحضير البعثات ؟
القسم الداخلي يحتاج لمن يكتب عنه لما شهده من قصص وذكريات جميلة، فطلاب كل منطقة لهم غرف خاصة وكنا نجتمع سبعة إلى ثمانية طلاب في كل غرفة، كل بسريره ودولابه وجاورني منصور الخريجي منذ البداية وكانت تفصل بين الغرف فواصل من (البارتيشن) وكنا بعد انتهاء المدرسة نعود للغداء ويذهب من تستهويهم كرة القدم فيلعبون في ملعب مجاور للمدرسة أما أنا فكانت تستهويني الدراسة بعد العصر مع بعض الطلاب على «قعقعة» كاسات الشاهي الذي يعدونه لنا في أباريق كبيرة ومع صلاة المغرب نذهب إلى الحرم لمواصلة المذاكرة لوجود إضاءة دائمة هناك ونعود مع صلاة العشاء .
• قالوا لي أن صوتك كان جميلا؟
أكيد اللي قال لك هذه المعلومة الدكتور منصور الحازمي، لكن الحقيقة أنني أنا كنت سميعا لأم كلثوم والراديو ممنوع دخوله بقرار، ومن وجد لديه جهاز مهرب يصادر منه ويعاقب فأحد زملائنا ــ ولن أقول اسمه ــ سرب جهازا للسكن الداخلي وكنا نجلس بجواره إذا أذيعت حفلة أم كلثوم وكل واحد فينا معه لفة من ورق يضع طرفها إلى السماعة والطرف الثاني في أذنه لكي لا يكتشف أمرنا وكان شكلنا مضحك ويدعو للشفقة .
• هذا يعني أنك تعرضت لصدمة حضارية عند وصولك إلى مصر ؟
أبدا، بل عايشت الحياة لحظة بلحظة كما هي على أرض الواقع واستمتعت بفترة وجودي فيها، وصبرت على نفسي وصابرت رغم المغريات، ولم أتزوج إلا في السنة الثانية من وجودي في بريطانيا لدراسة الماجستير وكانت هناك محاولات من بعض أقاربي في مصر لتزويجي من بنات سعوديين مقيمين في مصر، ولكنها لم تفلح أمام رغبتي في الزواج من المدينة المنورة وانشغالي أيضا في الدراسة ذلك الوقت، ولعلمك فالقاهرة كانت متطورة جدا تلك الأيام، تصور أن ما يسمونه الآن (سوبر ستور) حيث تجد بناء متعدد الأدوار وفي كل دور نوع معين من المعروضات موجودة من تلك الفترة في القاهرة، أما الجلوس على مقهى في شارع فؤاد فكأنك تجلس على شارع الشانزلزيه في باريس وبجوارك الأوبرا وكورنيش النيل وكلها في وسط البلد، وكنا نسكن في أرقى مناطق القاهرة في شارع المساحة القريب من الجيزة أمام حديقة الرومان وأذهب يوميا إلى جامعة القاهرة سيرا على الأقدام.
• لكن توجهك الدراسي للغة الإنجليزية تحدد عندما وصلت إلى مصر ؟
كان اتجاهي أدبيا وهذا ما سعيت إليه، وبالمناسبة فالطالب يقضي في تحضير البعثات سنة ثم يبتعث ولم يكن هناك من يساعده في تحديد تخصصه أو وجهته، وعندما وصلنا إلى القاهرة وقابلنا عبد الله عبد الجبار مسؤول الابتعاث شافاه الله ولكون دفعتنا كبيرة العدد، فقد أرسل أوراقنا لسكرتير عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة وكنا أنا ومنصور الخريجي وعبد الله أبو السمح ننتظر مصيرنا، فاقترح علينا الرجل دخول قسم اللغة الإنجليزية لارتفاع درجاتنا في المادة فوافقنا على الفور وعدنا لدار البعثات فسألنا زملاءنا هناك عن اختياراتنا، فأخبرناهم فضحكوا علينا وظلوا يرددون على مسامعنا أننا سنفشل لأن كل الملتحقين بقسم اللغة الإنجليزية من خريجي كلية فكتوريا والمدارس الخاصة في مصر، وقالوا لنا صراحة: عيشوا في الواقع ولا تحلموا وغيروا خياراتكم إلى التاريخ والجغرافيا أو اللغة العربية.
• كلامهم يجيب الإحباط.
كنت سأصدقهم وبدأت أنهزم في داخلي أمام موقفهم ولو كنت لوحدي لربما تغير طريقي تلك اللحظة، ولكن الله أكرمني بزملائي فتضامنا سويا ودافعنا عن اختياراتنا وقبلنا التحدي، وتعجب أننا لم نفهم كلمة واحدة في أول محاضرة بقسم اللغة الإنجليزية وشعرنا بصعوبة الموقف، فقررنا التعاون والصبر فيما بيننا وكانت السنة الأولى شاقة جدا ولم نكن نسمح لأنفسنا حتى بالخروج للفسحة في العطل الأسبوعية وزاد الطين بلة حرب السويس وانقطاع الكتب التي كانت تأتي من إنجلترا، إضافة إلى انعدام الكتب في مكتبات الجامعة، وكان الاعتماد على ما يكتب في المحاضرات، ونحن لا نستطيع الكتابة بسرعة ولم يكن هناك تصوير، بل لم يكن هناك طالب يعطي أوراقه للآخر فواجهنا الموقف بكل شجاعة وشكلنا فريق عمل بحيث يتولى كل واحد منا دورا، فهناك من ينقل كل ما يكتبه الأستاذ على السبورة وآخر لكتابة التعليقات وهكذا، وكنا نجتمع بعد نهاية اليوم الدراسي فنعمل محاضرة من جديد ونجمع ما كتبناه في المحاضرة الأساسية، وتمكنا من النجاح بفضل الله، صحيح أن مستوانا لم يكن بمستوى زملائنا المصريين، لكننا حققنا الأهم وهو عدم الفشل والتفوق على أنفسنا، وكان لنا بعد توفيق الله عز وجل فضل المبادرة والسبق.
• في ظل هذه الضغوط الدراسية، لم تنعزل وتأثرت بمصر طه حسين والعقاد؟
ومن لا يتأثر بما كان يحدث ثقافيا وسياسيا، فالذين في الخارج تأثروا فما بالك بمن في الداخل، فالآلة الإعلامية كانت قوية وصاخبة، ولكننا لم نشارك في مظاهرات أو ما شابه ذلك وإن تدربنا خلال العدوان الثلاثي، وأعجبنا بالأجواء الثقافية والأدبية المبهرة فلم يمر يوم في القاهرة إلا وتجد فيه ندوة أو أمسية ثقافية وخلافها، وكنت أحضر مسرحيات الفرق الأجنبية التي تزور مصر كالفرقة الأيرلندية التي مثلت إحدى مسرحيات شكسبير باللغة الإنجليزية وأتابع إذاعة البرنامج الثاني المصرية منذ انطلاقها لتوجهها الثقافي المتميز ولم أفوت على نفسي سماع الأعلام من غير المصريين الذين وفدوا إلى القاهرة من أمثال مالك بن نبي فحضرت ندواته التي عقدها، كما حرصت على شراء الكتب واقتنائها وشجعني على ذلك الثلاثين جنيها التي صرفتها لنا وزارة المعارف لشراء الكتب الدراسية، وكنت أذهب أحيانا إلى سور الأزبكية أيضا لما يوجد فيه من الكتب النادرة وما زال بعضها موجود في مكتبتي إلى الآن، ومنها طبعة فاخرة من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ .
• يقال أنك قابلت العقاد وندمت على عدم مجالسته؟
أنت تحرك في داخلي ساكنا فأنا أتأسف وما زلت على عدم حضوري ندوات عباس محمود العقاد ــ رحمه الله، لأنها تعقد بعد صلاة الجمعة في العباسية وتكاسلت عن الذهاب لطول مسافة الطريق التي تضطرني لركوب الأتوبيس من الجيزة حيث أسكن إلى ميدان التحرير ثم الركوب مرة أخرى من هناك إلى العباسية والعودة بنفس الطريقة، ففاتني الكثير وإن كنت قد قابلته صدفة في مكتبة الأنجلو التي يتعامل معها لوجود الكتب الإنجليزية فيها، ولكنها لم تكن كافية لتطفئ ما في نفسي.
• طبعا لم تفوت حفلات أم كلثوم ؟
بيني وبينك كانت قيمة تذكرة آخر الصفوف تكلف ثلاثة جنيهات فلم أحضر إلا مرة واحدة، لكنني في الأخير شاهدتها وسمعتها وجها لوجه.
• رغم حبك للإنجليزية بفضل أستاذك إلا أنك ما زلت معارضا تدريسها في المرحلة الابتدائية التي يعتبرها الكثيرون مرحلة تأسيس، لماذا؟
وما زلت عند رأيي لأن تعليم أي لغة من اللغات يحتاج إلى جهد كبير من المدرس بالذات ومن المدرسة والمناهج ووسائل التعليم، وهذا المدرس بكل أسف لا يتوافر باستمرار والفصل الدراسي يجب أن لا يزيد عن خمسة عشر إلى عشرين طالبا كحد أعلى لأنه لا يمكن أن تدرس الطلبة لغة من اللغات في محاضرة كبيرة والجامعات يجب أن لا تدرس لغة إلا من خلال معاهد سواء كانت تجارية أو حكومية، واللغة يتعلمها الإنسان في مراحل مختلفة ولو متأخرة، والطالب الجامعي يأتينا ضعيفا في المهارات الأربع الأساسية وهي السماع والفهم والكلام ثم القراءة والكتابة، وكنا نفضل أن يأتينا الطالب بلا معرفة باللغة الإنجليزية لنبدأ في تأسيسه من الصفر، لأن الدورات التقويمية التي يتلقاها في الجامعة لا تمسح من ذاكرته الطرق الخاطئة التي نشأ عليها في دراسته للغة، واللغة مهارة تتعمق بالممارسة وكدليل فإن طلاب الدراسات العليا الذين ذهبوا لفرنسا وألمانيا مثلا تعلموا اللغة في هذه المراحل على أصول صحيحة وأصبحوا يكتبونها رسائل بمهارة.
• وما رأيك فيما تقدمه معاهد اللغة في المملكة ومدى مردودها على الطلاب ؟
لا أستطيع أن أعمم في هذا الموضوع ولكنني أقيم من خلال ضوابط إن كانت موجودة فيحكم بها على التجربة بدءا من المدرسين والمنهج الدراسي وحجم الفصل ومدى توافر الوسائل التعليمية، ومن هذه الأربعة يظل المدرس هو الأساس ثم يليه الكتاب والمنهج .. وأتصور أن جامعاتنا لو أعطت الطلاب في بداية التحاقهم سنة أولى كاملة ومكثفة في اللغة الإنجليزية لأفادتهم كثيرا وقد تكون هناك معاهد جيدة، ولكنني لا أستطيع أن أحددها بعينها.
• الكثيرون يرون أن دراسة اللغة تكون في البلد الأم ؟
هذا أفضل ولكن بشرط الابتعاد في البداية عن أي شيء عربي، والحقيقة أن الذهاب لبلد اللغة يضيف للشخص ثقافة استخدامها وأعطي مثلا عن نفسي في بدايات سفري إلى بريطانيا فكلمة (date) تعرف بأنها موعد أو تاريخ فحدث معي أن أخبرت أحد أساتذتي (I have a date) فضحك لأن معنى الكلمة عندهم تعني الخروج في موعد مع صديقة ولم أكن أعلم ذلك وكان موعدي مع الطبيب، فعندما عدت سألني فقلت له كنت عند طبيب الأسنان فضحك مرة أخرى، وشرح لي سبب ضحكه، وهكذا فالقواميس لا تعلم اللغة، وإنما يتم ذلك من خلال استخدامها ككائن حي في كل مكان، ولا أخفي سرا فزوجتي لم تتح لها الفرصة أن تتعلم الإنجليزية قبل سفري إلى أمريكا، ولكنها تعلمت من خلال سماع التلفزيون ومخالطة النساء على مدى ست سنوات من وجودي هناك فأصبحت تحاضر باللغة الإنجليزية وهي لم تتعلمها من خلال كتاب أبدا.
• صديقك الشيخ منصور الخريجي قال إنك خلقت لتكون أكاديميا؟
ولا أتصور نفسي في شيء آخر خلاف التدريس، والمناصب الإدارية التي كلفت بها وتوليتها لم تستهوني وأنا آسف للتصريح بهذا الأمر ولكنها أخذت من وقتي الكثير.
• عطلت فيك جوانب إبداعية ؟
نعم ، لاسيما في الأيام الأولى حيث كان مطلوبا منا أن نعمل كل شيء في مرحلة التأسيس .
• البعض يرى أنكم عدتم أكثر تغربا من الجيل الحالي؟
الشيء الذي أعترف به أن دراستي في الخارج جعلتني أكثر تمسكا باللغة العربية وأنا إلى الآن أتمنى أن تدرس جميع المواد بما فيها الطب باللغة العربية، لأن الحقيقة العلمية واللغوية تؤكد أن الإنسان لا يبدع إلا في لغته وهذا لا يعني إهمال اللغات الأخرى خصوصا الإنجليزية كلغة عالمية ولكن اللغة العربية ليست قاصرة ولا أقل من أي لغة عالمية أخرى، ونحن لا نستخدمها بشكل لائق وسليم و قد يستغرب البعض رأيي ولكنني مقتنع به أيما اقتناع، وأنا أشفق على أجيالنا وثقافتنا لإهمالنا هذه اللغة، ودعني أسأل هل الأطباء السوريون أقل قدرة من غيرهم وهم الذين يدرسون الطب باللغة العربية بقرار سياسي، بالطبع لا وهذا لم يمنعهم من تعلم لغات أخرى.
• الغريب أننا أهملنا لغات شعوب أكثر تواصلا وقربا معنا مثل دول شرق آسيا، بل إننا لا ندرس الفارسية وهي اللغة الأكثر استخداما للكلمات العربية في العالم؟
مع أن كليات اللغات منتشرة عندنا هذه الأيام، والحقيقة أننا حتى من الناحية الدينية كبلد يفد إليه الحجاج والمعتمرون من جميع دول العالم لم يوجد لدينا من يتخصص في هذه اللغات ولا أقصد لغة الكلام فقط.. أما عن اللغة الفارسية فأذكر لك ما قاله لي الدكتور خالد البدلي البروفيسور المتخصص في لغة فارس، وهو أن معظم كنوز الحضارة الإسلامية التي رماها هولاكو في نهر دجلة أثناء قدوم المغول إلى بغداد موجودة الآن باللغة الفارسية بعد أن نقلها طلبتهم الذين كانوا يتكلمون العربية تلك الأيام إلى لغتهم ونحن نائمون لا نعلم عنها شيئا ولم نتحرك خطوة واحدة تجاهها.
• لماذا لم تطرق باب ترجمة الروايات مثل صالح علماني مثلا؟
الترجمة موهبة قبل أن تكون علما، كما أن الإنسان يترجم الشيء الذي يحبه، وللأسف فإن بعض المترجمين يجيد اللغة الأصلية ويهمل الأخرى بمن فيهم أنا فلست مبرأ، وقد ترجمت كتابا في النقد بعنوان (الأدب العربي عملية استكشاف) وعندما أرسل الكتاب إلى المحكمين أخرج لي أحدهم الكثير من الأخطاء اللغوية والأسلوبية واستفدت من ملاحظاته كثيرا، وكنت أعتقد أنني أفضل من غيري، فكيف بترجمة الروايات ونحن نعيش في عصرها وهي جانب أصعب بكثير لأنها إبداع وتختلف أساليبها من موقف لآخر.
• أيضا.. لم تترجم شيئا لشاعر كبير مثل المتنبي مع إعجابك به ؟
كيف تترجم معمار القصيدة الفنية من كلمات وموسيقى وصور ودلالات وشاعر مثل المتنبي تفقد الترجمة لشعره الكثير من دلالات المعاني التي يقصدها .
• منذ ثلاثين عاما تمت التوصية بمراكز ترجمة في كل بلد عربي تحت مظلة الجامعة العربية ولم يتم شيء .. لماذا ؟
اشتركت في أول مؤتمر عقد في الكويت ووضعنا توصيات جميلة ولكنها ظلت حبرا على ورق .
• انتقادات موسوعة الأدب العربي طالتك أيضا يا دكتور؟
أولا كلمة موسوعة في غير محلها وأنا في رأيي أن الكلمة الدقيقة لما قمنا به هي مختارات وللأسف أن الانتقادات ركزت على «الشخصنة» وتركت الأهم وهو نقد العمل من قبل المتخصصين، وكان بالإمكان أن يتطور هذا العمل إلى الأفضل ولكنه لم يجد الاهتمام الكافي به.
• أصدقاؤك يتخوفون من أن تكون أصبت بالمراهقة المتأخرة عندما كتبت شعرا في مرحلة متقدمة من العمر ؟
لم أعتبر نفسي شاعرا ولا أديبا وإنما قمت بمحاولات وفضفضات وللأسف أن أصدقائي لم يقولوا لي أن شعري تافه أو يستحق أن يكون شعرا فأهملوني، ولا أعتقد أنهم لم يكتبوا سلبا أو إيجابا لكي لا يشتهر الديوان لثقتي أنهم أعلى من التفكير بهذا المستوى خصوصا من زملائي الحقيقيين، وربما كان هذا في صالحي.
• قلت عن مجلة كلية الآداب أن البضاعة التي ترسل دون طلب تهمل وتوضع على الرف.. فهل هي أزمة علاقة بين جيلكم التقليدي وجيل الحداثة ؟
نحن لا نعتبر أنفسنا مخضرمين ولكن ما درسناه وتعلمناه هو الأدب، ولذلك لا يتشجع بعض رواد هذا الجيل لقراءة المحاولات الجديدة ولديهم تردد تجاه ذلك وهذا خطأ، ولا بد من التواصل بين الأجيال وأعتقد أنني بدأت أقرأ كل فن جديد يطرح، فأدونيس يظل عملاق الشعر الحديث بلا منازع وهناك قامات في الجيل الحالي لا تقل عن المؤسسين كالماغوط ومحمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي وقبلهم صلاح عبد الصبور والسياب ونازك الملائكة.
• هل تؤيد ما قاله الدكتور الحازمي عن غياب التقاليد الجامعية لدينا في حواره الأسبوع الماضي؟
دائما نقول إن الغرب هو صاحب التقاليد في هذا الجانب، أما عربيا فجامعة القاهرة ما زالت رائدة ونحن في أعناقنا دين لمصر لا نستطيع أن ننكره أو نسده، وما زال في مصر علماء كبار وأعلام منهم من ما زال حيا ومنهم من انتقل إلى رحمة الله مثل الدكتورة سهيل القلماوي أول امرأة تدرس في جامعة القاهرة والدكتور شكري عياد إضافة إلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، أما في تخصصنا فهناك الدكتورة فاطمة التابعي ــ رحمها الله ــ والدكتور مجدي وهبة والدكتور رشاد رشدي، وأنا أتساءل مع احتفال جامعة الملك سعود بمرور خمسين عاما على تأسيسها.. أين التقاليد الجامعية التي نورثها لطلابنا مثل تسمية مدرجات الدراسة بأسماء أعلام ورواد؟ صحيح هناك اعتراف بفضل الشيخ حمد الجاسر ــ رحمه الله ــ من خلال تسمية إحدى القاعات باسمه، لكنه استثناء بدأ وتوقف ولم يأت شيء بعده لعدم وجود تقاليد ثابتة وهو ما يثير تساؤلي لكن يبدو أن الجامعة جزء من إيقاع الحياة العام الذي يتغير بسرعة.. وهل يصح أن يكون الأستاذ القديم والمؤسس مثله مثل أي أستاذ جديد؟ هذا واقع غير صحيح.
• البعض يرى أنكم تبالغون في انتقاد الجامعة التي أصبحت مسؤولياتها كبيرة جدا ومتشعبة؟
لست مادحا نفسي ولكنني أتكلم عن حقيقة تاريخية فأنا والدكتور رضا عبيد أول من فتح باب المعيدية في الجامعة عندما كان هذا الأمر حلما من الأحلام، فبعد مرور سنة واحدة من تأسيس الجامعة عام 1378هـ انضممنا إلى الجامعة بعد انتهاء بعثتنا في مصر وحصولي على بكالوريوس اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة وكان رئيسها الدكتور عبد الوهاب عزام ــ رحمه الله ــ وكانت صلته مباشرة بالملك سعود ــ رحمه الله، فالفضل بعد الله في تعييننا معيدين يرجع للأساتذة حامد دمنهوري ــ رحمه الله ــ ومحسن باروم وحمزة عابد وكلهم من طلاب الدكتور عبد الوهاب عزام في جامعة القاهرة، فاقترحنا أنا والدكتور رضا عبيد أن يحدثوا الدكتور عزام برغبتنا في أن نكون معيدين، فوافق على الفور ورحب بالفكرة على شرط أن تخلي وزارة المعارف التي ابتعثتنا طرفنا لصالح الجامعة وفعلا تم ذلك ومن طريف القول أن كلمة (معيد) في تلك الفترة لم تكن معروفة واستمررنا لمدة سنة ثم ابتعثنا إلى بريطانيا لتحضير الماجستير ثم الدكتوراة في الولايات المتحدة، فأتساءل: ما الذي يمنع الجامعة من أن تضع لوحة تعريفية مثلا تشير إلى كون فلان وفلان كانا أول معيدين (للتاريخ فقط)، وهو أمر بديهي لو كانت هناك تقاليد.
• الملاحظ أنك لم تعد إلى المدينة المنورة كما كان متوقعا بعد تقاعدك واستقررت في جدة لماذا ؟
المدينة التي كنت أعرفها انتهت، وأشعر الآن بغربة عندما أعود إلى الأحياء القديمة والأحواش التي دخلت ضمن الحرم حتى الشوارع الرئيسية فيها، واخترت العودة إلى جدة بسبب وجود بناتي الثلاث المتزوجات فيها وكذلك أحد أبنائي الذكور فيما الآخر في الرياض وشجعوني على أن أكون بقربهم أما العودة إلى المدينة المنورة فلم تغب عن ذاكرتي وتحاصرني دائما .
• ومشروعك بعد التقاعد ؟
إنني لست قاعدا فالوقت ضيق والعمر قصير، وأعمل الآن على مشروع بحثي عن الأجزاء الثلاثة لطه حسين على هامش السيرة.