الطائف - عقيل الحاتمي (واس) أماطت محافظة الطائف اللثام عن فصل من فصول تاريخنا الإسلامي العريق دونت تفاصيله معالم دروب الحجاج التي كان يسلكها أبناء هلال الخصيب قبل أكثر من 1277 عامًا في طريقهم لأداء مناسك الحج عبر ما يعرف بدربي "زبيدة" الذي ينطلق من الكوفة، و"الحاج البصري" الذي ينطلق من البصرة، ويشقان الجزيرة العربية في توازي مستمر من أقصى شمالها مرورًا بوسطها حتى يلتقيان في مكان يُسمّى "أم خرمان" المعروف بـ "أوطاس" في مركز المحاني شمالي محافظة الطائف التابعة لمنطقة مكة المكرمة.
وهذه المعالم واحدة من المعالم التاريخية التي تحظى بها الطائف ومراكزها الإدارية، بجانب مالقبت به من ألقاب كبوابة مكة المكرمة الشرقية، والمطلة على المشاعر المقدسة، وملتقى أشهر طرق القوافل ودروب الحج قديمًا وحديثًا لقاصدي الحج والعمرة من العراق، ووسط المملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ومن أشهر دروب الحج القديمة في الطائف : درب الحاج الكوفي المعروف بـ"بدرب زبيدة"، ويبدأ من العراق وينتهى في مكة المكرمة وطوله 1500 كلم، ودرب الحاج البصري وهو طريق القديم الموازي "لدرب زبيدة" وينطلق من البصرة بالعراق، ويلتقي كما أسلفنا مع "زبيدة" في أم خرمان "أوطاس" بمركز المحاني شمال الطائف، ويبلغ طوله 1200 كلم.
وأولى الخلفاء المسلمين على مر القرون الماضية اهتماماً متزايداً للعناية بطرق الحج ورعاية الحجاج من خلال توفير الأمن لهم، وإقامة المحطات على طرق ودروب الحج وتزويدها بالمرافق والخدمات، والبرك وجلب المياه من الأودية والعيون إليها، وتحديد المسافات بين المحطات، ليتمكن الحجاج والمارة من الاستفادة منها خلال سفرهم.
وبعض هذه البرك تم إنشائها على بعض دروب الحج من قبل الخليفة المهدي العباسي عام 161هـ، كما أورد ذلك جلال الدين السيوطي في تاريخه، ودونه المؤرخ التاريخي الدكتور سعد الراشد في مؤلفاته عن "درب زبيدة"، في حين أوضحت الدراسات الأثرية أن المنشآت المعمارية التي تم إنشائها على دروب الحج القديمة تمثل نمطاً معمارياً فريداً للعمارة الإسلامية، لتميزها في دقة التصميم وجودة التنفيذ، فقد بنيت قصور الطرق والدروب بجدران سميكة وزودت بالمرافق والخدمات.
كما بنيت البرك بأشكال مستطيلة ومربعة ودائرية، تدل عمارة هذه البرك على مدى براعة المسلمين والعرب في إقامة المنشآت والمشروعات المائية وتنفيذ البنية التحتية ممثلة في صنع القنوات المائية لجلب المياه من الأودية والعيون إلى هذه البرك.
وأكمل هذه المسيرة الإسلامية العطرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – الذي أولى بعد توحيد المملكة خدمة الحج جل اهتمامه ورعايته الخاصة، وأكمل هذه المسيرة من بعده أنجاله الملوك البررة – رحمهم الله – حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله – الذي واصل مسيرة البناء والنماء للحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة، والتأكيد على نيل شرف خدمة ضيوف الرحمن، بمتابعة حثيثة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود نائب خادم الحرمين الشريفين.
ومن هنا، قام فريق وكالة الأنباء السعودية في الطائف بجولة على هذه المعالم الإسلامية تتبعوا خلالها المسارات التي سلكها الحجاج عبر هذين الطريقين التاريخيين، انطلاقا من بركة "الخرابة"، وبركة "زبيدة"، مرورًا بدرب الحجاج القديم الذي يربط بين هذين الموقعين متجهًا صوب مكة المكرمة، سالكًا بعض الدروب البرية والجبلية المشهورة بتضاريسها الجغرافية المتنوعة، قطع خلالها الفريق عددًا من الأودية أشهرها "وادي العقيق" وصولاً إلى محطة التقاء درب الحاج الكوفي والبصري بمنطقة "أوطاس" أو ما يعرف بـ "حزم الصريم"، ووقفوا على بركتها المعروفة باسم "بريكة" مع وادي "الضريبة" حتى أشرفوا على ميقات "ذات عرق".
وشاهد الفريق خلال الجولة عددًا من المعالم والمواقع التاريخية والأثرية والبرك والآبار والنزل القديمة التي مازالت محتفظة بهيئتها وجمال تصميمها، واستمعوا من رئيس مركز عشيرة معيض المالكي، ومن اثنين من المهتمين بالتاريخ من أبناء الطائف عايش المقاطي، وخالد المقاطي، على تفاصيل هذه المواقع وأهميتها التاريخية.
واستهلت البداية من مركز عشيرة الواقع شمال محافظة الطائف (75 كيلومترًا)، باتجاه محطة "وجرة" أو ما يعرف ببركة "الخرّابة" التي تسمى أيضًا بركة "القصر" وهي إحدى منازل ومناهل دروب الحاج البصري الذي يعد الطريق الثاني في الأهمية بعد طريق الحاج الكوفي "درب زبيدة" الموازي له.
و ينطلق هذا الطريق من مدينة البصرة بالعراق مرورا بشمال شرق الجزيرة العربية عبر وادي الباطن مخترقاً عدة مناطق صحراوية أصعبها صحراء الدهناء، ثم يمر بمنطقة القصيم، وبعدها يسير الطريق محاذياً لـ "درب زبيدة" حتى يلتقيان عند محطة "أوطاس" التي تقع على مسافة عشرة أميال من ميقات ذات عرق.
وتبعد محطة بركة "الخرابة" عن مركز عشيرة 50 كيلومترًا من الشمال، ويحتوي الموقع على بركة مربعة الشكل مدرجة من الأعلى إلى الأسفل يعود بنائها للقرن الثاني الهجري على يد الخليفة هارون الرشيد، وتسمى ببركة الرشيد وقطرها (50 م)، تجاورها بركة أخرى دائرية تنسب لعيسى بن علي العباسي مدرجة الشكل من الأعلى إلى الأسفل قطرها (40م) عند القاع و (50م) في الأعلى.
ويوجد بينهما غرفة للمراقبة يتميز تصميمها بوجود القباب عليها والتي أعطتها هيئة كهيئة القصر لذلك سميت ببركة القصر، للغرفة أبواب ذات عقود نصف دائرية، يمر من تحت مستواها قناتان خاصتان بتصريف المياه من البركة المربعة التي تعمل كمصفاة إلى البركة الدائرية، تصل المياه إلى البركة المربعة عن طريق قناة أرضية مسقوفة، تمتد من وادي العقيق بمسافة تقدر بنحو 15 كيلومترًا.
وتتميز بركتي محطة "الخرابة" بأنها من أجمل البرك على دروب الحجاج كونها مازالت تحتفظ بكثير من روعتها ولأنها رممت بطريقة لم تفسدها وذلك في عملية الترميم التي أمر بها الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – حيث وجد في الموقع نقش لأحد المنفذين لعملية الترميم مؤرخ بتاريخ 25/5/1393هـ، وما زاد جمال هذا الموقع تصميمها النادر وموقعها وسط الصحراء العذية وبين أشجار السلم والسمر والسرح التي جعلتها كالجنة الصغيرة خاصة أوقات الأمطار وامتلاء البرك بالماء .
ويوجد على امتداد طريق الحاج البصري 27 محطة رئيسية، منها أربع محطات تقع حالياً ضمن حدود الأراضي العراقية والكويتية، أما باقي محطات الطريق فتقع في أراضي المملكة، ويمر بعدة قرى ومنازل للمياه حتى يصل إلى أم خرمان "أوطاس" في مركز المحاني بمحافظة الطائف، وفيها يلتقي بـدرب الحاج الكوفي "درب زبيدة".
وتعد الفترة من القرن الهجري الأول إلى القرن الثالث الفترة الذهبية لهذا الطريق، حيث شهد الطريق خلالها عناية من ولاة البصرة الأمويين، وخاصة الحجاج بن يوسف الثقفي الذي سلك هذا الطريق متجهاً إلى مكة، وزاد من الاهتمام بالطريق البصري أنه سلكه عدد من الخلفاء في رحلتهم إلى الحج منهم أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وشهد العصر العباسي ازدهار مدن الطريق ومحطاته، وسجلت المسوحات الأثرية وجود برك مياه وبقايا قنوات في مواقع هذه المدن.
بعد ذلك انتقلت الجولة إلى بركة "العقيق" أو ما يعرف ببركة "زبيدة" مروراً بجبل "الكراع" الجبل الذي يفصل بين درب الحاج البصري ودرب الحاج الكوفي "درب زبيدة"، وشوهد فيه طريق صخري حُدد بمعالم وأكوام صخرية يسميه أهل المنطقة بـ "المنقى"، وهو طريق يصل بين المحطتين.
وبرز خلال الجولة محطة "الغمرة" وهي إحدى المحطات الرئيسة على درب الحج الكوفي “درب زبيدة"، وتبعد عن محافظة الطائف باتجاه الشمال بنحو (112 كيلومترًا)، وعلى مسافة (45 كيلومترًا) شمال شرق موقع وادي "الضريبة" الذي يقع بالقرب من ميقات ذات عرق، وهو عبارة عن منحدر بسيط غرب الوادي، ويقع بالقرب من خط عشيرة المحاني المعبد.
ويوجد بمحطة "الغمرة" بركة تعرف ببركة "العقيق" ولها مسميات عدة منها بركة "البركة" وبركة "زبيدة"، وهي بركة كبيرة مربعة الشكل مدرجة من جميع الجوانب، وتتكون المحطة بالإضافة إلى البركة على عدد من النزل والمساكن الحجرية التي كانت بمثابة سكن للحجاج واستراحات وجميع المباني والمنشآت فوق المنحدر الغربي لوادي العقيق حيث تتمتع بالحماية من السيول، بينما الجانب الشرقي للوادي توجد فيه البرك والقنوات وبعض المنشآت ويبدو طريق "درب زبيدة".
ويعد درب الحاج الكوفي "درب زبيدة" من أهم طرق الحج والتجارة خلال العصر الإسلامي، وسمي "درب زبيدة" نسبة إلى السيدة زبيدة بنت جعفر المنصور، زوج الخليفة هارون الرشيد التي كانت لها إسهامات كبيرة في عمارة هذا الطريق خاصة ودروب الحج عامة ومشاريع السقيا بمكة المكرمة عن طريق إنشاء قنوات المياه التي تجلبها من مصابها بالأودية والعيون إلى المشاعر المقدسة والطرق التي يسلكها الحجاج خاصة بعرفات ومنى، ومثل "درب زبيدة" منذ عهد هارون الرشيد مفخرة ومشروعاً هندسياً أسهم في تأمين المياه للحجاج ومعلماً حضارياً أذهل كبار المهندسين المعماريين.
ويبلغ طول "درب زبيدة" 1500 كلم، يمتد من الكوفة بالعراق مروراً بشمال المملكة ووسطها إلى أن يصل إلى الأماكن المقدسة في المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة، ويبلغ عدد المحطات الرئيسة على هذا الطريق 27 محطة، ومثلها محطات ثانوية تسمى كل منها "متعشى"، وهي استراحة تقام بين كل محطتين رئيسيتين إلى جانب عدد من المسارات الفرعية الأخرى.
وتتوزع على طول الطريق الآبار وخزانات المياه والبرك بمسافات لا تزيد على (40 كيومترًا)، وحُفرت البرك الممتدة على طول الطريق وفق خصائصها الجغرافية والتضاريسية، واختيار موقع هذه البرك بعناية فائقة لضمان نجاح مشروع الحفر وامتلائها بمياه السيول دون أن يلحق ذلك ضرراً بتلك البرك وهذا ما جعلها تحتفظ بهيئتها للوقت الحالي، وتوج الطريق بنظام رائع من قنوات المياه لضمان ووصول المياه من العيون والأودية ومصابها إلى هذه البرك ليستفيد منها الحجاج وسالكي الطريق منها طوال العام وأهل البادية في سقيا مواشيهم.
واستخدم طريق "درب زبيدة" بعد فتح العراق وانتشار الإسلام في بلاد المشرق، وأخذ في الازدهار منذ عصر الخلافة الراشدة، وأصبح استخدامه منتظماً وميسوراً بدرجة كبيرة، إذ تحولت مراكز المياه وأماكن الرعي والتعدين الواقعة عليه إلى محطات رئيسية، كما أصبح خلال العصر العباسي حلقة اتصال مهمة بين بغداد وبلاد الحرمين الشريفين وبقية أجزاء الجزيرة العربية، وأولى الخلفاء العباسيون هذا الطريق اهتماماً كبيراً وعملوا على تزويده بالمنافع وأنشاء مرافق الخدمات المتعددة على امتداده، وبناء أحواض المياه وحفر الآبار وإنشاء البرك وإقامة المنارات، كما عملوا على توسيع الطريق حتى يكون صالحًا للاستخدام من قبل الحجاج والمسافرين ودوابهم.
وذكرت المصادر التاريخية والجغرافية أن مسار طريق "درب زبيدة" التاريخي خطط بطريقة عملية وهندسية فريدة، حيث رصفت أرضيته بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، وأقيمت على امتداده المحطات والاستراحات، وأقيمت عليه علامات ومواقد توضح مساراته ليهتدي بها الحجاج والمسافرون، فمنذ بداية الدولة العباسية، أمر الخليفة أبو العباس السفاح بإقامة الأميال "أحجار المسافة" والأعلام على طول الطريق من الكوفة إلى مكة "درب زبيدة" عام (134هـ).
ومن بعده أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بإقامة الحصون وخزانات المياه على طول الطريق، و أمر الخليفة المهدي ببناء القصور على طريق مكة، ومن بعده أتي الخليفة هارون الرشيد وأمر بحفر الآبار وإنشاء الحصون على طول الطريق، وعين الخلفاء والولاة الذين يشرفون على الطريق ويتعهدونه بالصيانة.
وتقع برك محطتي "وجرة" على درب الحاج البصري، وبرك "الغمرة" على درب زبيدة على ضفاف وادي "العقيق" وهو وادي ينحدر من جبال الطائف يمر بالقرب من مركز عشيره، وينعطف غربًا، وهو ووادي من اجمل الأودية تكثر فيه أشجار السلم والسدر والسمر والسرح والطلح والسيال الذي يمتاز بخضرته الدائمة، ويمتاز الوادي بكثافة أشجاره مما زاده خضرةً وجمالاً، وتحوف وادي العقيق وعلى جنباته "أللافا" البركانية.
وفي ذلك السياق، قال المؤرخ عاتق بن غيث البلادي : " عقيق عشيرة : وادٍ فحل من أودية الحجاز الشرقية يأخذ أعلى مساقط مياهه من شمال الطائف حيث يسيل وادي قرّان من شمال حويّة الطائف ثم يتّجه العقيق مشمّلا بين حرّتي بسّ غربا ثمّ حرّة الروقة وحرّة كشب شرقا حتى يدفع في قاع حاذة جنوب مهد الذهب "، مضيفاً بالقول :" لعقيق عشيرة روافد كثيرة منها : الغميم وقرّان والحسك وسدحة والرصن وغيرها".
وبعد محطة " الغمرة" والوقوف على معالمهما التاريخية والعمرانية، واصلنا المسير باتجاه موقع آخر وهو "أوطاس" أو ما يعرف بجبل "أُمُّ خٌرْمَان"، وهي ملتقى حجاج طريقي البصرة والكوفة، وتبعد عن محطة "الغمرة" ما يقارب العشرة كيلومترات، وينحرف الطريق من محطة "الغمرة" ناحية الجنوب الغربي متجهاً نحو وادي "الضريبة" وطريقها في منطقة خفيفة التضاريس إلى الغرب من وادي العقيق وصولاً إلى بركة "أوطاس" التي تعرف ايضاً ببركة "البريكة"، و"أوطاس" تقع على أحد أذرع وأكبر روافد وادي العقيق وهو "وادي سلِحْه"، الذي ينبع من حرة "بِسْ الأسفل" المتاخم لعشيرة من الغرب مروراً بوادي "الرانه"، وهذه البركة هي واحدة من سلسلة البرك التي حفرت على "درب زبيدة".
وتقع بركة "البريكة" بين سهل "ركبة" و"حزم الصريم" وحزم الصريم هو نفسه "أوطاس" أسماه أهل المنطقة بذلك كونه شهد قبل قرن من الزمان وفاة عدد كبير من الحجاج، الذين أطلق عليهم أهل المنطقة بأهل الطرابيش نتيجة للبرد القارس، وكون المنطقة مفتوحة، وشاسعة وتضاريسها عبارة عن أحجار ناعمة بلون تربة المكان.
وتعرضت بركة "البريكة" على مر التاريخ لبعض التغييرات بسبب سقوط أغلب أركانها من آثر السيول، وأنشئ بجوارها مشروع بركة جديدة، والموقع بشكل عام عرضة للسيول التي تم تحويلها على موقع البركة القديمة، وأصبح يشكل ضرراً كبيراً عليها، وطمر أغلب الآبار التي كانت موجودة حوله.
أما مكان "أوطاس" فقد شهد فصولا من معارك الرسول صلى الله عليه وسلم ضد هوازن، فبعد أن انتصر جيش المسلمين عليهم في معركة "حنين" في السنة (8) للهجرة، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عرفت بسرية "أوطاس"، بقيادة أبي عامر الأشعري، عم أبي موسى الأشعري رضوان الله عليهم إلى أن توجه إلى "أوطاس" من فلول جيش هوازن فلحق بهم وقاتلهم في هذا الموقع حتى انتصر جيش المسلمين.
وخلال الجولة، تم الاطلاع على ميقات ذات عرق هو ميقات أهل العراق ومن جاء على طريقهم، ويبعد عن مكة (92) كيلومترًا باتجاه الشمال، وهو من مواقيت الحج الخمسة، و"عرق" قمة جبل مرتفع يتميز عما حوله بلون يميل إلى السواد، ممتد من الشرق إلى الغرب بطول 2000 متر تقريباً، يحده من الشرق وادي "الحنو" ومن الغرب واد ي "العصلاء الشرقية" وهذا الجبل هو الحد الجنوبي للميقات.
وميقات "ذات عرق" هو عبارة عن ريع يقع بين جبلين فيه مجرى سيل كبير متجه من الشرق إلى الغرب "وادي الضريبة"، ويتسع هذا الريع في بعض نواحيه ويضيق في نواحي أخرى ويبلغ اتساعه ما بين (200 – 500م) وطوله من الشرق إلى الغرب ألفا متر تقريباً، ويطلق عليه اسم "الطرفاء" وفي منتصفه بئر قديمة فيها ماء تسمى "الخضراء"، يحرم عندها من يريد الإحرام من حجاج أهل العراق وأهل البلد أو من يمر بها ممن حولها.
وفي هذا الموقع يوجد آثار مبانٍ قديمة لم يبق منها إلا ما هو ملاصق للأرض، وفي غربيه شمال مجرى الوادي آثار مقبرة قديمة وتغطي أشجار السلم والطلح والسمر أرض الميقات، ويحده من الشرق ملتقى وادي "الحنو" مع وادي "انخل" وعند مصبهما يتكون وادي "الضريبة" وعند ملتقى هذين الواديين يبتدئ العرق المنسوب إليه الميقات.
ويوجد في هذا الحد ثلاث نصائب إحداها في جنوبيه في سفح "عرق" المذكور عند ابتدائه من الشرق حيث مجرى وادي "الحنو" والثانية فوق ملتقى وادي "الحنو" ووادي "أنخل" في المثلث الفاصل بينهما قبيل التقائهما، والثالثة في سفح الجبل الشمالي المقابل لجبل "عرق" من الشمال، وهذه العلامات الثلاث تحدد حدود الميقات.
وكان صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة قد وضع حجر الأساس لمشروع ميقات ذات عرق بتكلفة 99 مليون ريال، و تقدر مساحة المشروع بنحو 65 ألف متر مربع عملت بنظام صرف لمياه الأمطار والسيول وحوائط ساندة من الخرسانة المسلحة بهدف تغطية فروق المناسيب بالموقع العام، إضافة إلى عمل خزانات مياه أرضية بمساحات كبيرة وأخرى علوية ومواقف سيارات تتسع لنحو 600 سيارة .
ويشمل مشروع ميقات ذات عرق مبنى للمسجد يتكون من دور أرضي بمساحة 2775م يتسع لأكثر 2700 مصلٍّ ومصلية وميزانين بمساحة 750م يتسع لنحو 900 مصلٍّ، والثالث دور القبو بمساحة 3200م، ويستخدم مواقف سيارات يتسع لنحو 200 سيارة، ويشتمل المشروع على مبنى دورات المياه والمواضئ بمساحة إجمالية تقدر بنحو 2500م، تحتوي على 450 دورة مياه ومواضئ عبارة عن 450 دورة مياه، ويشمل المشروع ايضاً على عدد من الملاحق تتضمن مبنى سكن الأمام والمؤذن بمساحة، وعدد من المبانى للمحلات التجارية ودور للمرافق الإيواء السكني، ومبنى إداري، ومبنى لخدمة السيارات وأعمال صيانتها.
في غضون ذلك، أوضح عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى المشرف على كرسي الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة بجامعة أم القرى الدكتور عبد الله الشنبري أهمية المعالم والآثار في حياة الأمم، مشيراً إلى أنها تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتربط المواطن بالوطن، وتبيّن هويته، وتؤكّد انتماءه.
وقال الدكتور الشنبري في حديث لـ "واس": إن حكومة المملكة أدركت هذه القيمة فكان هناك اهتمام خاص من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله - بالتاريخ والتراث الوطني لتعميق الوازع الديني من خلال الشواهد الحيّة، في مهد الإسلام وقبلة المسلمين، وتعميق روح الولاء والمواطنة لدى أبناء المملكة، من خلال السياسات الخاصة بحماية المعالم والآثار، ومنها مشروع خادم الحرمين الشريفين لحماية التراث، ونظام الآثار".
ونوه في ذلك الصدد بجهود صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والعناية والاهتمام بحصر الآثار والتراث العمراني بمكة المكرمة والمدينة المنورة، بوصفهما الوعاء المكاني للحوادث الزمانية في التاريخ الإسلامي، خاصة أن الكثير من هذه المعالم التاريخية مازالت قائمة، وهي تبعث في النفس الكثير من المشاعر والأشواق التي ترتبط بالإسلام وبالسيرة النبوية العطرة، والعمل على استنطاق التاريخ لإظهار الأثر بصورته الصحيحة.
وأبرز الدكتور الشنبري الدور الإيجابي الذي تقوم به دارة الملك عبد العزيز في توثيق التاريخ الوطني من خلال إعداد أطلس السيرة النبوية وموسوعة الحج والحرمين الشريفين إلى جانب إنشاء مركز تاريخ مكة ومركز تاريخ المدينة، وكرسي الملك سلمان لدراسات تاريخ مكة بالشراكة مع جامعة أم القرى وتاريخ المدينة بالشراكة مع الجامعة الإسلامية.
وأكد أن رؤية المملكة 2030 «رؤية محفّزة للعناية بالآثار وتأهيلها لمشروع التنمية المستدامة، ومن أهم عناصرها الاستفادة من العمق التاريخي للمملكة، والعمق الديني لمكة المكرمة، والمدينة المنورة، ما يدعو إلى الاستفادة من المعالم والموروثات القيمة الموجودة فيها.
وهذه المعالم واحدة من المعالم التاريخية التي تحظى بها الطائف ومراكزها الإدارية، بجانب مالقبت به من ألقاب كبوابة مكة المكرمة الشرقية، والمطلة على المشاعر المقدسة، وملتقى أشهر طرق القوافل ودروب الحج قديمًا وحديثًا لقاصدي الحج والعمرة من العراق، ووسط المملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ومن أشهر دروب الحج القديمة في الطائف : درب الحاج الكوفي المعروف بـ"بدرب زبيدة"، ويبدأ من العراق وينتهى في مكة المكرمة وطوله 1500 كلم، ودرب الحاج البصري وهو طريق القديم الموازي "لدرب زبيدة" وينطلق من البصرة بالعراق، ويلتقي كما أسلفنا مع "زبيدة" في أم خرمان "أوطاس" بمركز المحاني شمال الطائف، ويبلغ طوله 1200 كلم.
وأولى الخلفاء المسلمين على مر القرون الماضية اهتماماً متزايداً للعناية بطرق الحج ورعاية الحجاج من خلال توفير الأمن لهم، وإقامة المحطات على طرق ودروب الحج وتزويدها بالمرافق والخدمات، والبرك وجلب المياه من الأودية والعيون إليها، وتحديد المسافات بين المحطات، ليتمكن الحجاج والمارة من الاستفادة منها خلال سفرهم.
وبعض هذه البرك تم إنشائها على بعض دروب الحج من قبل الخليفة المهدي العباسي عام 161هـ، كما أورد ذلك جلال الدين السيوطي في تاريخه، ودونه المؤرخ التاريخي الدكتور سعد الراشد في مؤلفاته عن "درب زبيدة"، في حين أوضحت الدراسات الأثرية أن المنشآت المعمارية التي تم إنشائها على دروب الحج القديمة تمثل نمطاً معمارياً فريداً للعمارة الإسلامية، لتميزها في دقة التصميم وجودة التنفيذ، فقد بنيت قصور الطرق والدروب بجدران سميكة وزودت بالمرافق والخدمات.
كما بنيت البرك بأشكال مستطيلة ومربعة ودائرية، تدل عمارة هذه البرك على مدى براعة المسلمين والعرب في إقامة المنشآت والمشروعات المائية وتنفيذ البنية التحتية ممثلة في صنع القنوات المائية لجلب المياه من الأودية والعيون إلى هذه البرك.
وأكمل هذه المسيرة الإسلامية العطرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – الذي أولى بعد توحيد المملكة خدمة الحج جل اهتمامه ورعايته الخاصة، وأكمل هذه المسيرة من بعده أنجاله الملوك البررة – رحمهم الله – حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله – الذي واصل مسيرة البناء والنماء للحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة، والتأكيد على نيل شرف خدمة ضيوف الرحمن، بمتابعة حثيثة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود نائب خادم الحرمين الشريفين.
ومن هنا، قام فريق وكالة الأنباء السعودية في الطائف بجولة على هذه المعالم الإسلامية تتبعوا خلالها المسارات التي سلكها الحجاج عبر هذين الطريقين التاريخيين، انطلاقا من بركة "الخرابة"، وبركة "زبيدة"، مرورًا بدرب الحجاج القديم الذي يربط بين هذين الموقعين متجهًا صوب مكة المكرمة، سالكًا بعض الدروب البرية والجبلية المشهورة بتضاريسها الجغرافية المتنوعة، قطع خلالها الفريق عددًا من الأودية أشهرها "وادي العقيق" وصولاً إلى محطة التقاء درب الحاج الكوفي والبصري بمنطقة "أوطاس" أو ما يعرف بـ "حزم الصريم"، ووقفوا على بركتها المعروفة باسم "بريكة" مع وادي "الضريبة" حتى أشرفوا على ميقات "ذات عرق".
وشاهد الفريق خلال الجولة عددًا من المعالم والمواقع التاريخية والأثرية والبرك والآبار والنزل القديمة التي مازالت محتفظة بهيئتها وجمال تصميمها، واستمعوا من رئيس مركز عشيرة معيض المالكي، ومن اثنين من المهتمين بالتاريخ من أبناء الطائف عايش المقاطي، وخالد المقاطي، على تفاصيل هذه المواقع وأهميتها التاريخية.
واستهلت البداية من مركز عشيرة الواقع شمال محافظة الطائف (75 كيلومترًا)، باتجاه محطة "وجرة" أو ما يعرف ببركة "الخرّابة" التي تسمى أيضًا بركة "القصر" وهي إحدى منازل ومناهل دروب الحاج البصري الذي يعد الطريق الثاني في الأهمية بعد طريق الحاج الكوفي "درب زبيدة" الموازي له.
و ينطلق هذا الطريق من مدينة البصرة بالعراق مرورا بشمال شرق الجزيرة العربية عبر وادي الباطن مخترقاً عدة مناطق صحراوية أصعبها صحراء الدهناء، ثم يمر بمنطقة القصيم، وبعدها يسير الطريق محاذياً لـ "درب زبيدة" حتى يلتقيان عند محطة "أوطاس" التي تقع على مسافة عشرة أميال من ميقات ذات عرق.
وتبعد محطة بركة "الخرابة" عن مركز عشيرة 50 كيلومترًا من الشمال، ويحتوي الموقع على بركة مربعة الشكل مدرجة من الأعلى إلى الأسفل يعود بنائها للقرن الثاني الهجري على يد الخليفة هارون الرشيد، وتسمى ببركة الرشيد وقطرها (50 م)، تجاورها بركة أخرى دائرية تنسب لعيسى بن علي العباسي مدرجة الشكل من الأعلى إلى الأسفل قطرها (40م) عند القاع و (50م) في الأعلى.
ويوجد بينهما غرفة للمراقبة يتميز تصميمها بوجود القباب عليها والتي أعطتها هيئة كهيئة القصر لذلك سميت ببركة القصر، للغرفة أبواب ذات عقود نصف دائرية، يمر من تحت مستواها قناتان خاصتان بتصريف المياه من البركة المربعة التي تعمل كمصفاة إلى البركة الدائرية، تصل المياه إلى البركة المربعة عن طريق قناة أرضية مسقوفة، تمتد من وادي العقيق بمسافة تقدر بنحو 15 كيلومترًا.
وتتميز بركتي محطة "الخرابة" بأنها من أجمل البرك على دروب الحجاج كونها مازالت تحتفظ بكثير من روعتها ولأنها رممت بطريقة لم تفسدها وذلك في عملية الترميم التي أمر بها الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – حيث وجد في الموقع نقش لأحد المنفذين لعملية الترميم مؤرخ بتاريخ 25/5/1393هـ، وما زاد جمال هذا الموقع تصميمها النادر وموقعها وسط الصحراء العذية وبين أشجار السلم والسمر والسرح التي جعلتها كالجنة الصغيرة خاصة أوقات الأمطار وامتلاء البرك بالماء .
ويوجد على امتداد طريق الحاج البصري 27 محطة رئيسية، منها أربع محطات تقع حالياً ضمن حدود الأراضي العراقية والكويتية، أما باقي محطات الطريق فتقع في أراضي المملكة، ويمر بعدة قرى ومنازل للمياه حتى يصل إلى أم خرمان "أوطاس" في مركز المحاني بمحافظة الطائف، وفيها يلتقي بـدرب الحاج الكوفي "درب زبيدة".
وتعد الفترة من القرن الهجري الأول إلى القرن الثالث الفترة الذهبية لهذا الطريق، حيث شهد الطريق خلالها عناية من ولاة البصرة الأمويين، وخاصة الحجاج بن يوسف الثقفي الذي سلك هذا الطريق متجهاً إلى مكة، وزاد من الاهتمام بالطريق البصري أنه سلكه عدد من الخلفاء في رحلتهم إلى الحج منهم أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وشهد العصر العباسي ازدهار مدن الطريق ومحطاته، وسجلت المسوحات الأثرية وجود برك مياه وبقايا قنوات في مواقع هذه المدن.
بعد ذلك انتقلت الجولة إلى بركة "العقيق" أو ما يعرف ببركة "زبيدة" مروراً بجبل "الكراع" الجبل الذي يفصل بين درب الحاج البصري ودرب الحاج الكوفي "درب زبيدة"، وشوهد فيه طريق صخري حُدد بمعالم وأكوام صخرية يسميه أهل المنطقة بـ "المنقى"، وهو طريق يصل بين المحطتين.
وبرز خلال الجولة محطة "الغمرة" وهي إحدى المحطات الرئيسة على درب الحج الكوفي “درب زبيدة"، وتبعد عن محافظة الطائف باتجاه الشمال بنحو (112 كيلومترًا)، وعلى مسافة (45 كيلومترًا) شمال شرق موقع وادي "الضريبة" الذي يقع بالقرب من ميقات ذات عرق، وهو عبارة عن منحدر بسيط غرب الوادي، ويقع بالقرب من خط عشيرة المحاني المعبد.
ويوجد بمحطة "الغمرة" بركة تعرف ببركة "العقيق" ولها مسميات عدة منها بركة "البركة" وبركة "زبيدة"، وهي بركة كبيرة مربعة الشكل مدرجة من جميع الجوانب، وتتكون المحطة بالإضافة إلى البركة على عدد من النزل والمساكن الحجرية التي كانت بمثابة سكن للحجاج واستراحات وجميع المباني والمنشآت فوق المنحدر الغربي لوادي العقيق حيث تتمتع بالحماية من السيول، بينما الجانب الشرقي للوادي توجد فيه البرك والقنوات وبعض المنشآت ويبدو طريق "درب زبيدة".
ويعد درب الحاج الكوفي "درب زبيدة" من أهم طرق الحج والتجارة خلال العصر الإسلامي، وسمي "درب زبيدة" نسبة إلى السيدة زبيدة بنت جعفر المنصور، زوج الخليفة هارون الرشيد التي كانت لها إسهامات كبيرة في عمارة هذا الطريق خاصة ودروب الحج عامة ومشاريع السقيا بمكة المكرمة عن طريق إنشاء قنوات المياه التي تجلبها من مصابها بالأودية والعيون إلى المشاعر المقدسة والطرق التي يسلكها الحجاج خاصة بعرفات ومنى، ومثل "درب زبيدة" منذ عهد هارون الرشيد مفخرة ومشروعاً هندسياً أسهم في تأمين المياه للحجاج ومعلماً حضارياً أذهل كبار المهندسين المعماريين.
ويبلغ طول "درب زبيدة" 1500 كلم، يمتد من الكوفة بالعراق مروراً بشمال المملكة ووسطها إلى أن يصل إلى الأماكن المقدسة في المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة، ويبلغ عدد المحطات الرئيسة على هذا الطريق 27 محطة، ومثلها محطات ثانوية تسمى كل منها "متعشى"، وهي استراحة تقام بين كل محطتين رئيسيتين إلى جانب عدد من المسارات الفرعية الأخرى.
وتتوزع على طول الطريق الآبار وخزانات المياه والبرك بمسافات لا تزيد على (40 كيومترًا)، وحُفرت البرك الممتدة على طول الطريق وفق خصائصها الجغرافية والتضاريسية، واختيار موقع هذه البرك بعناية فائقة لضمان نجاح مشروع الحفر وامتلائها بمياه السيول دون أن يلحق ذلك ضرراً بتلك البرك وهذا ما جعلها تحتفظ بهيئتها للوقت الحالي، وتوج الطريق بنظام رائع من قنوات المياه لضمان ووصول المياه من العيون والأودية ومصابها إلى هذه البرك ليستفيد منها الحجاج وسالكي الطريق منها طوال العام وأهل البادية في سقيا مواشيهم.
واستخدم طريق "درب زبيدة" بعد فتح العراق وانتشار الإسلام في بلاد المشرق، وأخذ في الازدهار منذ عصر الخلافة الراشدة، وأصبح استخدامه منتظماً وميسوراً بدرجة كبيرة، إذ تحولت مراكز المياه وأماكن الرعي والتعدين الواقعة عليه إلى محطات رئيسية، كما أصبح خلال العصر العباسي حلقة اتصال مهمة بين بغداد وبلاد الحرمين الشريفين وبقية أجزاء الجزيرة العربية، وأولى الخلفاء العباسيون هذا الطريق اهتماماً كبيراً وعملوا على تزويده بالمنافع وأنشاء مرافق الخدمات المتعددة على امتداده، وبناء أحواض المياه وحفر الآبار وإنشاء البرك وإقامة المنارات، كما عملوا على توسيع الطريق حتى يكون صالحًا للاستخدام من قبل الحجاج والمسافرين ودوابهم.
وذكرت المصادر التاريخية والجغرافية أن مسار طريق "درب زبيدة" التاريخي خطط بطريقة عملية وهندسية فريدة، حيث رصفت أرضيته بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، وأقيمت على امتداده المحطات والاستراحات، وأقيمت عليه علامات ومواقد توضح مساراته ليهتدي بها الحجاج والمسافرون، فمنذ بداية الدولة العباسية، أمر الخليفة أبو العباس السفاح بإقامة الأميال "أحجار المسافة" والأعلام على طول الطريق من الكوفة إلى مكة "درب زبيدة" عام (134هـ).
ومن بعده أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بإقامة الحصون وخزانات المياه على طول الطريق، و أمر الخليفة المهدي ببناء القصور على طريق مكة، ومن بعده أتي الخليفة هارون الرشيد وأمر بحفر الآبار وإنشاء الحصون على طول الطريق، وعين الخلفاء والولاة الذين يشرفون على الطريق ويتعهدونه بالصيانة.
وتقع برك محطتي "وجرة" على درب الحاج البصري، وبرك "الغمرة" على درب زبيدة على ضفاف وادي "العقيق" وهو وادي ينحدر من جبال الطائف يمر بالقرب من مركز عشيره، وينعطف غربًا، وهو ووادي من اجمل الأودية تكثر فيه أشجار السلم والسدر والسمر والسرح والطلح والسيال الذي يمتاز بخضرته الدائمة، ويمتاز الوادي بكثافة أشجاره مما زاده خضرةً وجمالاً، وتحوف وادي العقيق وعلى جنباته "أللافا" البركانية.
وفي ذلك السياق، قال المؤرخ عاتق بن غيث البلادي : " عقيق عشيرة : وادٍ فحل من أودية الحجاز الشرقية يأخذ أعلى مساقط مياهه من شمال الطائف حيث يسيل وادي قرّان من شمال حويّة الطائف ثم يتّجه العقيق مشمّلا بين حرّتي بسّ غربا ثمّ حرّة الروقة وحرّة كشب شرقا حتى يدفع في قاع حاذة جنوب مهد الذهب "، مضيفاً بالقول :" لعقيق عشيرة روافد كثيرة منها : الغميم وقرّان والحسك وسدحة والرصن وغيرها".
وبعد محطة " الغمرة" والوقوف على معالمهما التاريخية والعمرانية، واصلنا المسير باتجاه موقع آخر وهو "أوطاس" أو ما يعرف بجبل "أُمُّ خٌرْمَان"، وهي ملتقى حجاج طريقي البصرة والكوفة، وتبعد عن محطة "الغمرة" ما يقارب العشرة كيلومترات، وينحرف الطريق من محطة "الغمرة" ناحية الجنوب الغربي متجهاً نحو وادي "الضريبة" وطريقها في منطقة خفيفة التضاريس إلى الغرب من وادي العقيق وصولاً إلى بركة "أوطاس" التي تعرف ايضاً ببركة "البريكة"، و"أوطاس" تقع على أحد أذرع وأكبر روافد وادي العقيق وهو "وادي سلِحْه"، الذي ينبع من حرة "بِسْ الأسفل" المتاخم لعشيرة من الغرب مروراً بوادي "الرانه"، وهذه البركة هي واحدة من سلسلة البرك التي حفرت على "درب زبيدة".
وتقع بركة "البريكة" بين سهل "ركبة" و"حزم الصريم" وحزم الصريم هو نفسه "أوطاس" أسماه أهل المنطقة بذلك كونه شهد قبل قرن من الزمان وفاة عدد كبير من الحجاج، الذين أطلق عليهم أهل المنطقة بأهل الطرابيش نتيجة للبرد القارس، وكون المنطقة مفتوحة، وشاسعة وتضاريسها عبارة عن أحجار ناعمة بلون تربة المكان.
وتعرضت بركة "البريكة" على مر التاريخ لبعض التغييرات بسبب سقوط أغلب أركانها من آثر السيول، وأنشئ بجوارها مشروع بركة جديدة، والموقع بشكل عام عرضة للسيول التي تم تحويلها على موقع البركة القديمة، وأصبح يشكل ضرراً كبيراً عليها، وطمر أغلب الآبار التي كانت موجودة حوله.
أما مكان "أوطاس" فقد شهد فصولا من معارك الرسول صلى الله عليه وسلم ضد هوازن، فبعد أن انتصر جيش المسلمين عليهم في معركة "حنين" في السنة (8) للهجرة، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عرفت بسرية "أوطاس"، بقيادة أبي عامر الأشعري، عم أبي موسى الأشعري رضوان الله عليهم إلى أن توجه إلى "أوطاس" من فلول جيش هوازن فلحق بهم وقاتلهم في هذا الموقع حتى انتصر جيش المسلمين.
وخلال الجولة، تم الاطلاع على ميقات ذات عرق هو ميقات أهل العراق ومن جاء على طريقهم، ويبعد عن مكة (92) كيلومترًا باتجاه الشمال، وهو من مواقيت الحج الخمسة، و"عرق" قمة جبل مرتفع يتميز عما حوله بلون يميل إلى السواد، ممتد من الشرق إلى الغرب بطول 2000 متر تقريباً، يحده من الشرق وادي "الحنو" ومن الغرب واد ي "العصلاء الشرقية" وهذا الجبل هو الحد الجنوبي للميقات.
وميقات "ذات عرق" هو عبارة عن ريع يقع بين جبلين فيه مجرى سيل كبير متجه من الشرق إلى الغرب "وادي الضريبة"، ويتسع هذا الريع في بعض نواحيه ويضيق في نواحي أخرى ويبلغ اتساعه ما بين (200 – 500م) وطوله من الشرق إلى الغرب ألفا متر تقريباً، ويطلق عليه اسم "الطرفاء" وفي منتصفه بئر قديمة فيها ماء تسمى "الخضراء"، يحرم عندها من يريد الإحرام من حجاج أهل العراق وأهل البلد أو من يمر بها ممن حولها.
وفي هذا الموقع يوجد آثار مبانٍ قديمة لم يبق منها إلا ما هو ملاصق للأرض، وفي غربيه شمال مجرى الوادي آثار مقبرة قديمة وتغطي أشجار السلم والطلح والسمر أرض الميقات، ويحده من الشرق ملتقى وادي "الحنو" مع وادي "انخل" وعند مصبهما يتكون وادي "الضريبة" وعند ملتقى هذين الواديين يبتدئ العرق المنسوب إليه الميقات.
ويوجد في هذا الحد ثلاث نصائب إحداها في جنوبيه في سفح "عرق" المذكور عند ابتدائه من الشرق حيث مجرى وادي "الحنو" والثانية فوق ملتقى وادي "الحنو" ووادي "أنخل" في المثلث الفاصل بينهما قبيل التقائهما، والثالثة في سفح الجبل الشمالي المقابل لجبل "عرق" من الشمال، وهذه العلامات الثلاث تحدد حدود الميقات.
وكان صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة قد وضع حجر الأساس لمشروع ميقات ذات عرق بتكلفة 99 مليون ريال، و تقدر مساحة المشروع بنحو 65 ألف متر مربع عملت بنظام صرف لمياه الأمطار والسيول وحوائط ساندة من الخرسانة المسلحة بهدف تغطية فروق المناسيب بالموقع العام، إضافة إلى عمل خزانات مياه أرضية بمساحات كبيرة وأخرى علوية ومواقف سيارات تتسع لنحو 600 سيارة .
ويشمل مشروع ميقات ذات عرق مبنى للمسجد يتكون من دور أرضي بمساحة 2775م يتسع لأكثر 2700 مصلٍّ ومصلية وميزانين بمساحة 750م يتسع لنحو 900 مصلٍّ، والثالث دور القبو بمساحة 3200م، ويستخدم مواقف سيارات يتسع لنحو 200 سيارة، ويشتمل المشروع على مبنى دورات المياه والمواضئ بمساحة إجمالية تقدر بنحو 2500م، تحتوي على 450 دورة مياه ومواضئ عبارة عن 450 دورة مياه، ويشمل المشروع ايضاً على عدد من الملاحق تتضمن مبنى سكن الأمام والمؤذن بمساحة، وعدد من المبانى للمحلات التجارية ودور للمرافق الإيواء السكني، ومبنى إداري، ومبنى لخدمة السيارات وأعمال صيانتها.
في غضون ذلك، أوضح عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى المشرف على كرسي الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة بجامعة أم القرى الدكتور عبد الله الشنبري أهمية المعالم والآثار في حياة الأمم، مشيراً إلى أنها تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتربط المواطن بالوطن، وتبيّن هويته، وتؤكّد انتماءه.
وقال الدكتور الشنبري في حديث لـ "واس": إن حكومة المملكة أدركت هذه القيمة فكان هناك اهتمام خاص من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله - بالتاريخ والتراث الوطني لتعميق الوازع الديني من خلال الشواهد الحيّة، في مهد الإسلام وقبلة المسلمين، وتعميق روح الولاء والمواطنة لدى أبناء المملكة، من خلال السياسات الخاصة بحماية المعالم والآثار، ومنها مشروع خادم الحرمين الشريفين لحماية التراث، ونظام الآثار".
ونوه في ذلك الصدد بجهود صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والعناية والاهتمام بحصر الآثار والتراث العمراني بمكة المكرمة والمدينة المنورة، بوصفهما الوعاء المكاني للحوادث الزمانية في التاريخ الإسلامي، خاصة أن الكثير من هذه المعالم التاريخية مازالت قائمة، وهي تبعث في النفس الكثير من المشاعر والأشواق التي ترتبط بالإسلام وبالسيرة النبوية العطرة، والعمل على استنطاق التاريخ لإظهار الأثر بصورته الصحيحة.
وأبرز الدكتور الشنبري الدور الإيجابي الذي تقوم به دارة الملك عبد العزيز في توثيق التاريخ الوطني من خلال إعداد أطلس السيرة النبوية وموسوعة الحج والحرمين الشريفين إلى جانب إنشاء مركز تاريخ مكة ومركز تاريخ المدينة، وكرسي الملك سلمان لدراسات تاريخ مكة بالشراكة مع جامعة أم القرى وتاريخ المدينة بالشراكة مع الجامعة الإسلامية.
وأكد أن رؤية المملكة 2030 «رؤية محفّزة للعناية بالآثار وتأهيلها لمشروع التنمية المستدامة، ومن أهم عناصرها الاستفادة من العمق التاريخي للمملكة، والعمق الديني لمكة المكرمة، والمدينة المنورة، ما يدعو إلى الاستفادة من المعالم والموروثات القيمة الموجودة فيها.
إعداد: عقيل الحاتمي ،
تصوير: فيصل الشيباني
تاريخ التقرير: 23 أغسطس 2017
تصوير: فيصل الشيباني
تاريخ التقرير: 23 أغسطس 2017