الرياض - كنعان محمد (الفيصل العلمية) : تختصّ أغلب البلاد العربية باستعمال كثير من العطور الطبيعية ذات الروائح النافذة العبقة، سواء أكان مصدرها حيوانياً أم نباتياً؛ كالمسك، والعنبر، والعود، وماء الورد. تلك الروائح التي عُرفت منذ أزمان غائرة في القدم. وإلى جانب ذلك، عُرفت الجزيرة العربية، خصوصاً جنوبها: بلاد اليمن السعيد، وعمان، باستخدامها البخور بشكل مفرط، وهو ما يميّز عادات الناس فيها وتقاليدهم. ولا غرابة في ذلك؛ فأقدم المواد وأفضلها، التي تُحرق للبخور كالمرّ واللبان، تنبت أشجارها هناك، إضافةً إلى أنواع أخرى من العطور والبخور، ومن أهمها العود الذي عرفوه منذ زمن طويل؛ إذ جلبوه من مصادره، وتاجروا به، إضافةً إلى استعماله في البخور والعطور.
البخور هو إحراق مواد نباتية؛ كخشب الأرز، والعود، والصندل، أو أصماغ نباتية؛ كالمرّ، واللبان، وأحياناً تُخلط معها بعض التوابل؛ لتعطي دخاناً ذا رائحة عبقة نفاذة تُعطَّر به الأمكنة والأجسام والملابس؛ إذ يعطي البخور مستنشقه مزاجاً رائقاً يدعوه إلى الاسترخاء وهدوء الأعصاب، ويبعث في نفسه السكينة، ويعطيه الراحة والطمأنينة؛ لذلك استُعمل -ولا يزال- في دور العبادة؛ ففي مصر القديمة، وكذلك عند الإغريق والرومان، كان البخور يُستعمل عند أداء طقوس دياناتهم، وقد استورد الصينيون مواد البخور، وتاجروا بها، وحرقوها للبخور، قبل قرون كثيرة. وما زالت الكنائس المسيحية تحرق أنواعاً شتى من البخور. أما المساجد، فقد تمّ تبخيرها منذ بداية الإسلام، وكان البخور يُسمَّى دخاناً، ثم انتقل البخور بعدها إلى تبخير البيوت، وأصبح يأخذ شكل طقوس احتفالية.
كانت مواد البخور تصل من جنوب الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين عبر الطريق التجاري الذي يسير بمحاذاة البحر الأحمر، والذي يُسمَّى بـ(درب اللبان)؛ إذ عُرف أن ما مقداره الطنين ونصف الطنّ كان يُحرق منها سنوياً في معبد الإله (بعل) إله الأمطار والرياح والغلال وخصب الأرض عند الكنعانيين. وكانت معابد بلاد ما بين النهرين تُطيَّب بعبق البخور، وتخبرنا ملحمة جلجامش أن بطل الملحمة عندما عزم هو وصديقه أنكيدو على السفر إلى غابة الأرز المسحورة ذهب إلى أمه ننسون لكي تصلّي من أجله، وتشفع له عند الإله (شمش) إله العدل والحق وموحي الشرائع:
كما تنتشر في البلاد العربية الأشجار التي تفرز أصماغاً لها استخدامات كثيرة، فما هذه الأصماغ والعطور؟ وما مصدرها؟
أشجار اللبّان
تنمو أشجار اللبّان Boswellia thurifera في الجزيرة العربية، وفي الجزء الجنوبي من إيران، وفي شرق إفريقية، وبالتحديد في الصومال وإثيوبيا. وأفضل أنواع اللبّان ذلك الذي يُؤخذ من الأشجار التي تنمو في منحدرات المناطق الجبلية ووديانها في إقليم ظفّار الواقع في جنوب شرق سلطنة عمان. ويتوق الأباطرة والملوك إلى شجرة اللبّان ذات الأصماغ التي تشبه اللؤلؤ، وعبق بخورها ورائحته يفوحان عبيراً، كما تتطهّر بها المعابد والكنائس ودور العبادة. وهي شجيرة أو شجرة واطئة، لا يزيد ارتفاعها على ثلاثة أمتار، سيقانها سميكة ملتوية، تحتوي على أصماغ حليبية سائلة تخرج من خلال القشرة عند تعرّضها للخدش أو الكسر، وعند تعرّضها للهواء تتصمغ وتتجمّد على شكل قطرات أو دموع ذات لون أبيض مائل إلى الاصفرار، لها رائحة عطرية عبقة، وتسمى هذه القطرات (اللبّان). وللحصول عليها يُعمد إلى عمل شقّ طولي على الساق بعمق محدّد، وعند إزالة قلف الأشجار تبدأ العصارة الصمغية بالسيلان متدليةً على شكل قطرات، وبعد مدة تُترك على الأشجار مدة تراوح بين أسبوعين وثلاثة أشهر لتتجمّد، وبعد ذلك تُجمع في سلال، وتُصنَّف حسب النوعية، والنوعيات الجيدة هي التي يُحصل عليها من الأشجار الفتية.
ولأهمية اللبان يُقال: إن بلقيس ملكة سبأ عندما زارت الملك سليمان في القدس جلبت معها من بلاد اليمن السعيد الطيوب والبخور والتوابل واللبان والمرّ التي تُنتج في ظفار. وقامت مملكة سبأ؛ أي: الدولة السبئية، في المدة (800- 115) قبل الميلاد، وتضم حالياً اليمن وعمان، وقد عُرفت بأنها البلاد التي تنتج الطيوب واللبان والأحجار الكريمة. ويقول النصّ التوراتي في اللبان: «مَن هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبّان وبكل أذرَّة التاجر». وكانت لهذه القطع الصغيرة التي تشبه اللؤلؤ قيمة اقتصادية وتجارية؛ فالإسكندر المقدوني (ذو القرنين) خطّط للهجوم على بلاد اليمن للسيطرة على تجارة اللبان والمر في مركز إنتاجهما وتجارتهما، ولم يستطع تحقيق خطته بسبب موته المبكر. كما أحرق الإمبراطور نيرو، الذي حكم روما في القرن الأول بعد الميلاد، عند وفاة زوجته من اللبان لأجل البخور ما يفوق إنتاج بلاد اليمن طوال العام.
شجرة المرّ
أشجار المرّ قريبة وراثياً من أشجار اللبّان، وموطنها جنوب الجزيرة العربية، واسمها العلمي هو: Commimphora myrrh. واسم نوع هذه الشجرة myrrh مأخوذ من الاسم العربي المرّ؛ نسبةً إلى طعم الإفرازات الصمغية المُرّة، وهذا الاسم يستخدم بشكل أو بآخر في معظم اللغات العالمية. أما اسم الأشجار التي موطنها شرق إفريقية والصومال، فهو Commimphora molmo. وهناك بعض الأنواع التي تنمو في المناطق الجافة القاحلة شبه الصحراوية في إيران، أو في شرق إفريقية، وفي الصومال خاصةً. وشجرة المرّ صغيرة يراوح ارتفاعها بين ثلاثة أمتار وخمسة، جذعها قصير، وسيقانها كثيرة طويلة ملتوية، تمتد على طولها قنوات طولية تشكّل خلجاناً صغيرة تتجمع فيها عصارة صمغية لونها أصفر، وعند تعرّض قشرة السيقان للخدش أو الجرح تسيل منها قطرات صمغية تتجمّد عند تعرّضها للهواء، ويتحول لونها إلى الأحمر البني أو الأرجواني الغامق.
وللحصول على أصماغ المرّ يلجأ السكان إلى عمل أخاديد على شكل جروح في قشرة سيقان الأشجار لتجري العصارة مدةً قصيرةً، وبعد مدة من الزمن يتم جمع صمغ المرّ الذي يتصلّب على شكل قطرات كروية الشكل، وبعض هذه القطرات لا يتصلّب بصورة كاملة، بل يبقى لزجاً ثخين القوام. ولصمغ المرّ ذي الشهرة العالمية الواسعة رائحة عطرة طيبة، ويعطي عند حرقه بخوراً يعبق المكان. ويُستخدم صمغ المرّ أو بلسمه في مجالات شتى، من أهمها إعداد البخور الذي أعطى هذه الأصماغ الشهرة. وقد استخدم هذه الأصماغ المصريون القدماء والفينيقيون والكنعانيون وسكان ما بين النهرين لتحضير البخور منها بحرقها في معابدهم، وجرى الإغريق والرومان على المنوال نفسه، وهم -إضافةً إلى ذلك- استخدموها بلسماً شافياً للجروح، وكان المصريون القدماء قبلهم قد استخدموها في تحنيط المومياءات. ولبلسم المرّ فوائد علاجية؛ فهو يستخدم في الطب لوقف النزيف، وتخفيف الآلام، وبخور المرّ عطر ومعقّم. ويُستخدم صمغ المرّ في إعداد مساحيق أو سوائل تفيد في تعقيم الفم، وفي علاج أمراض اللثة، ووقف وجع الأسنان. كما تُستخلص من قلف الجذع والسيقان والأفرع زيوت عطرية أيضاً.
وقد اختُرعت الأساطير، وسُطِّرت الحكايات والقصص، حول شجرة المرّ وبلسمها، تقول الأسطورة: تناهى الى سمع أفروديت -إلهة الحب والجمال- أن زوجة الملك ثياس تدّعي أن ابنتها (سميرنا) أجمل منها؛ لذا حنقت أفروديت على سميرنا، وابتلتها بحبّ غير طبيعي، هو عشق أبيها، وأثارت فيها الشهوة الجنسية، وبمساعدة خادمة المنزل تسلّلت سميرنا إلى سرير نوم والدها. وعندما اكتشف الملك فعلة ابنته الشنعاء حنق عليها، وأراد قتلها، لكن سميرنا هربت تخلّصاً من مطاردة جنود الملك وكلابه. عندما وعت سميرنا فعلتها المنكرة تضرّعت إلى الآلهة لتصفح عنها، واستنجدت بها لتغيّبها عن الأنظار، فاستجابت الآلهة لطلبها؛ إذ عندما وصلت سميرنا إلى طرف الغابة مُسِخَتْ شجرةً متعرجةً ملتويةً، هي شجرة المرّ. وفي أحد الأيام، وفي الوقت الذي كان ما زال فيه الملك ثياس غاضباً على فعلة ابنته النكراء، خرج في رحلة صيد، وعندما رأى الشجرة الملتوية ضربها بسيفه قاصفاً جذعها، فتحرّر منها الطفل الذي حملت به جرّاء فعلتها مع أبيها. جاءت عرائس البحر، وأخذت الصبي (أدونيس). عندها بكت سميرنا بكاءً مراً، وتجمّدت دموعها على مقلتيها مكوّنةً أصماغاً مرّةً تشبه اللآلي؛ لذا شكل هذه الأصماغ على جذع الشجرة شبيه بدموع سميرنا، ومرارتها من حزنها؛ لذا سُمِّيت الشجرة بـ(شجرة المرّ). ماتت سميرنا، ولم ترَ ابنها مطلقاً، لكن عرائس البحر جمعت دموع أمّه المتصمغة والمتجمدة، واستعملتها لتطييب جسده بهذه الأصماغ، التي أعطت أدونيس الجمال الأخّاذ، إلى الحد الذي جعل أفروديت تقع في حبّه.
العود: شجر يعطّر الحاضر بعبق التاريخ
من أقدم الأخشاب التي تُستخدم في عمل البخور هو خشب العود، وهو الأثمن والأغلى بين الأخشاب قاطبةً، ويعطي أنفس العطور. وموطن أشجار العود Aquilaria agallocha هو المثلث الجغرافي الواقع بين البنغال وهونج كونج وغينيا الجديدة، وما زالت هذه الأشجار تعيش بحالتها البرية في المناطق الجبلية المرتفعة هناك، ناميةً بين أشجار الغابات المدارية الممطرة، وأكثر ما توجد حالياً في كمبوديا، ولاوس، وفيتنام، وتايلاند، وسنغافورة، وبورما، وماليزيا، وإندونيسيا، وفي الهند أصبحت هذه الأشجار نادرة؛ بسبب القطع المستمر والاتجار بعودها.
تصبح أشجار العود ذات قيمة بعد إصابة جذعها وأفرعها الكبيرة بأنواع معينة من الفطريات، تهاجم جذوع الأشجار نتيجة وجود القنوات الطولية والمتعرجة التي تصل إلى عمق الجذع، والتي تحدثها يرقات حفار الساق، أو نتيجة الجروح أو الإصابات الميكانيكية. في البدء، تبدو الإصابة في الخشب على شكل شرائط بنية اللون، وكلما اشتدت الإصابة تكبر المساحة المصابة؛ حتى يصل التعفن إلى الخشب الصميمي، الذي هو في قلب الجذع والأفرع الكبيرة، وعندها تفرز الأشجار راتنج زيتي يتجمّع في المناطق المصابة، ويبدأ لون الخشب بالتحول إلى البني، ثم الأسود. ولهذه الإفرازات الراتنجية رائحة عطرة عبقة نفّاذة. ويتحول لون قسم كبير من الخشب الصميمي إلى البني الداكن أو الأسود، وهو ما يُسمَّى بـ(خشب العود).
شجرة العود كالمرأة الحصينة، لا تُفصح بسهولة عن خباياها العطرة؛ إذ لا يمكن معرفة وجود العود داخل جذع الشجرة إلا بعد قطعها، وشقّ جذعها. وليس في كلّ الأشجار يتم إيجاد خشب العود العطر؛ لأن شجرة واحدة فقط من بين كلّ عشرة أشجار تحمل في أحشائها خشب العود النفيس والثمين. وخشب العود المستخرج داكن اللون، ثقيل الوزن، وللحصول على عطره يتم طحنه ونقعه في صهاريج الماء خمسة أيام، بعدها يُطبخ في الماء على نار هادئة، فتطفو طبقة دهنية يتم جمعها بعد تبريد الماء، ثم تُعبّأ في زجاجات صغيرة، ويتم بيعها وتسويقها على أنها عطر العود. هذه هي الطريقة القديمة التقليدية، التي يُقال: إنها الأفضل. أما الطريقة الحديثة، فهي أن يُنقع الخشب شهراً كاملاً، بعدها يُوضع في أباريق، ويُمرّر عليه بخار الماء، عندها يُفرز زيته، ويتبخّر، ثم يُكثّف للحصول على عطر العود الثمين. وإلى الآن لم تُعرف طبيعة الراتنج الزيتي الذي تفرزه الأشجار، والذي يعطي الرائحة العبقة المميزة؛ لذلك لا يمكن مختبرياً تركيب عطور تشبه عطور العود، وهو ما يزيد من ندرتها وغلاء سعرها.
أما خشب العود نفسه، فيستعمل في إعداد البخور بإحراقه بالجمر وحده، أو بخلطه مع أنواع أخرى من الأخشاب والأصماغ وأنواع من التوابل، ويعطّر الجسم والملابس ببخوره المحروق الذي تتصاعد منه روائح نفّاذة عبقة تدوم على الأجسام المبخرة أسبوعاً على الأقلّ. ويُحرق البخور عند استقبال الضيوف، وجرت العادة تقديمه في نهاية جلسة السمر؛ إذ بعد شمّ بخور العود يليق بالضيوف الانصراف؛ لذلك يقول المثل: «ما بعد العود قعود». ويُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفيةٍ: يُسْتَعَطُ به من العُذْرَةِ، ويُلَدُّ به من ذاتِ الجَنْبِ».
خشب العود وعطره ليس لرائحتهما وجود بين كلّ العطور؛ فهو هدية الطبيعة الآتية من الماضي لتعطّر الحاضر بعبق التاريخ. ولندرته سُطِّرت القصص والحكايات والأساطير؛ إذ كان يُقال: العود هو خشب مطمور تحت التربة في الغابات الاستوائية الممطرة منذ مئات السنين، وللحصول عليه يتم البحث عنه في هذه الغابات، والتنقيب عنه تحت التراب. وهناك أسطورة عربية تقول: إن سيدنا آدم عندما نزل من الجنة إلى الأرض كان في يده عود من شجرة الجنة زرعه في الهند، وبهذه الصورة جاءت شجرة العود إلى الوجود؛ فهي منذ وجود البشرية إلى الآن تمنح الإنسان شيئاً من رائحة الجنة الطيبة.
السندروس
تنتشر أشجار السندروس Tetraclinis articulate في جبال الأطلسي في المغرب العربي حيث موطنها الأصلي، كما توجد هذه الأشجار في الجزائر، وتونس، وإسبانيا، ومالطا. والسندروس أشجار من المخروطيات قريبة الشبه بأشجار السرو والثويا، تاجها مخروطيّ الشكل، ويراوح ارتفاعها بين 12 متراً و15 متراً، خشبها صلب وعطري، وأوراقها حرشفية صغيرة جداً. وتحتوي أشجار السندروس في خشبها ولحائها على نسغ نباتي يرشح من الجذوع والأغصان الكبيرة للشجرة، وتتجمد هذه العصارة النباتية عند تعرّضها للهواء، وتصبح على شكل أصماغ صلبة طولية الشكل، معدّل طولها أربعة سنتيمترات، لونها أصفر ذهبي، ولها بريق الذهب. تستعمل أصماغ السندروس مثل أصماغ المر واللبان بحرقها لإعداد البخور في المنازل والمعابد، ولبخورها تأثير مطهّر، إضافةً إلى العبق الذي يعطيه هذا البخور. كما تستعمل الأصماغ بعد تذويبها مادةً حافظةً وملمعةً يطلى بها الأثاث الثمين والرسومات الزيتية. وأصماغ السندروس معروفة مشهورة، تحدثت عنها كتب الطب العربي القديم؛ فداود الأنطاكي يقول: السندروس مجفّف نزلات الدماغ، ومذهبة الربو والنفس وأوجاع الصدر والطحال، ويحفظ قوام المصارعين وأعصابهم، وإذا أُخذ مع السكنجبين يؤدي إلى هزل البدناء. أما ابن سينا، فإنه يؤيد تأثير هذه الأصماغ في تخفيف الوزن إذا أخذ مع السكنجبين، وابن البيطار يقول: إنه ينفع في تجفيف البواسير، وعلاج الزكام إذا دخن به.
الدراكينا: شجرة دم الأخوين
تنتشر أشجار الدراكينا Dracaena draco في مناطق جغرافية صغيرة محددة من جزر الكناري الواقعة في المحيط الأطلسي القريبة من شمال غرب القارة الإفريقية. كما تنتشر هذه الأشجار في سقطرى، وهي أرخبيل من الجزر التي تقع في بحر العرب التابعة إلى اليمن. وقد اكتسبت هذه الجزر أهميتها وشهرتها من وفرة نباتاتها النادرة، ومنها شجرة الدراكينا، التي يسمّونها (دم الأخوين)، حتى إنه يُطلق على (سقطرى) اسم (جزيرة دم الأخوين)، وسُمِّيت بذلك للاعتقاد بأنها رُويت من دم الأخوين هابيل وقابيل، أو أن عصارتها السائلة القرمزية اللون هي كدم الأخوين هابيل وقابيل.
والدراكينا عند سكان جزر الكناري أشجار مقدسة. أما في سقطرى، فهي أشجار أسطورية مباركة، كما هي سقطرى، الأرض التي تنمو عليها هذه الأشجار، مباركة من الآلهة حسب اعتقاد سكانها. كما تسمى بـ(الشجرة المعجزة، وسيدة الأشجار). وتعمّر أشجار الدراكينا طويلاً؛ إذ يصل عمر أعتقها إلى عدة آلاف من السنين، وإحدى الأشجار وصل عمرها إلى ستة آلاف سنة، وقد قُطعت قبل مدة وجيزة. وللشجرة جذع سميك، يتفرّع منه عدد قليل من الأفرع الغليظة والسميكة، التي تفقد بالتدريج أوراقها، فتتجمع الأوراق الجديدة الرمحية الطويلة عند نهاية الأفرع الطرفية القائمة؛ لذا تصبح الشجرة قريبة من شكل التنين المتعدد الرؤوس. وتحتوي أنسجة الشجرة على نسغ نباتي أحمر اللون تفرزه الأشجار عند خدش جذعها وأغصانها، ولجمعه يعمد السكان إلى إحداث جروح فيها لاستخراج هذه العصارة، وتجميع أصماغها، ثم يتم غليها وتركها لتبرد، فتصبح أقراصاً تُعرض للبيع عند العطارين، وتسمى هذه الأصماغ: دم الأخوين، ودم الغزال، ودم الثعبان، ودم التنين، وكثيراً ما تصدر أصماغ دم الأخوين الحمراء اللون من جزر سقطرى إلى دول الخليج العربي حيث يكثر الطلب عليها، وتستعمل لفوائدها العلاجية؛ فهي تقوّي المعدة واللثة، وتُستعمل لعلاج الجروح والقروح ووقف النزيف الدموي. وقد كتب عن صفاتها العلاجية ابن البيطار، وداود الأنطاكي، وابن سينا.
شجرة الطلح: الصمغ العربي
لهذه الشجرة أسماء كثيرة؛ فهي إضافةً إلى الطلح تسمى: السنط، وسمرة، وجمعها: سمرات، وقَرَظ، والسِّبْت، وشجرة الشوك، والشوك المصري، والميموسا المصرية، والأكاسيا العربية، وأكاسيا النيل، وأكاسيا الصمغ. ومن أنواعها: الطلح العراقي، والنجدي، والعسيري، والحبشي، والنوبي، والنيلي، وطلح الحسك، والطلح الطويل، والطلح السناري، والطلح الزاهي، والطلح العسلي. وهي من أشهر الأشجار في الجزيرة العربية؛ ففيها يقول امرؤ القيس في مطلع معلّقته الشهيرة:
فالسَّمرات هي أشجار السنط كما ذكرنا، ومفردها: سمرة. وهي إحدى الأشجار المقدسة عند العرب قبل الإسلام، كما هي مكرمة في الإسلام؛ إذ ذكرت في القرآن الكريم مرةً واحدةً؛ فقد قال الله تعالى: ﴿فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ (الواقعة: 28، 29). والطلح المنضود هو أشجار الطلح المتّسقة أغصانها، والنامية بشكل جميل مرتّب. وذكرت أسطورة فرعونية كيف تحوّلت نقطتا دم عجل مقدّس عند ذبحه، فتناثرتا ذات اليمين وذات الشمال إلى شجرتي سنط كبيرتين تنتصبان أمام باب قصر الفرعون.
وهناك أنواع كثيرة من أشجار الطلح، ويشمل جنس السنط Acacia عدداً كبيراً من الأنواع تبلغ 1300 نوع، معظمها أشجار وشجيرات، منها الشوكي، ومنها غير الشوكي. وتنتشر أنواع كثيرة منها في الجزيرة العربية، والعراق، وإيران، وفي المناطق الجافة في الشرق الأوسط عامةً.
وتوجد شجرة الطلح (الصمغ العربي) Acacia arabica بشكل طبيعي في الجزيرة العربية، وبادية الشام، وفي العراق، والسودان، ومصر. وهي شجرة متوسطة الحجم، أفرعها شوكية، وهي أحد أكثر النباتات مقاومةً للجفاف، وتستطيع العيش في المناطق القاحلة التي تسقط فيها كميات قليلة من الأمطار. ولهذه الأشجار أهمية بالغة في المناطق الصحراوية؛ فهي توفّر الظلّ، وتحافظ بجذورها المتعمقة على تماسك التربة، وتمنعها من الانجرافات التي تحدث بواسطة الرياح. كما أنها مصدر لكثير من المواد الأولية الضرورية والمهمة، التي عُرف استعمالها منذ أزمنة بعيدة؛ فقلف الأشجار تحتوي على مادة التانين العفصية، وهو ما يجعلها من أفضل المواد التي تستخدم في دباغة الجلود، وإليها تُنسب النعال السبتية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتعل بها؛ إذ تُسمَّى أشجار الطلح في اللغة العربية الفصحى بـ(أشجار السِّبْت). وأهم ما تشتهر به أشجار الطلح هو الصمغ العربي، المعروف في كلّ بقاع الدنيا، الذي أعطاها شهرةً عالميةً واسعةً؛ لذلك سُمِّيت شجرة الطلح بـ(شجرة الصمغ العربي). ويُحصل على الصمغ العربي بعمل ثلم أو جرح غير عميق على شكل شريط أخدودي طوله في قلف (لحاء) الجذوع والأفرع الرئيسة لأشجار الطلح، فتسيل منها العصارة الصمغية التي تتجمد عند تعرّضها للهواء مكونةً قطعاً صمغيةً جافةً تكون بحجم بيضة الحمام أو أصغر، أشكالها غير منتظمة، ذات لون أبيض نصف شفاف، وأحياناً يكون مشوباً باللون الأصفر أو الأحمر المؤكسد. ويُجمع من الأشجار أو من على الأرض؛ إذ تسقط الأصماغ من تلقاء نفسها أحياناً. وأفضل أنواع الصمغ العربي ذلك الذي يُسمَّى (كردفان)، ويُجمع في السودان في منطقة كردفان، كما يُجمع في مصر وظفار وفي الجزيرة العربية. وللصمغ العربي فوائد علاجية كثيرة؛ فهو طارد للبلغم، ويفيد في التخلص من السعال، ووقف النزيف، والتخلص من أمراض المجاري البولية والتناسلية، ويعالج به الإسهال، والديزانتريا، والحمى، وأمراض اللثة، والقرحة، والبواسير، والحروق، وهو مقوٍّ للنشاط الجنسي. كما يدخل في تحضير مجموعة واسعة من الأدوية التي تستعمل في علاج أمراض شتى ومتنوعة. ويستعمل الصمغ في اللصق، كما يُستعمل في تثبيت الألوان الزيتية في اللوحات المرسومة بها.
البخور هو إحراق مواد نباتية؛ كخشب الأرز، والعود، والصندل، أو أصماغ نباتية؛ كالمرّ، واللبان، وأحياناً تُخلط معها بعض التوابل؛ لتعطي دخاناً ذا رائحة عبقة نفاذة تُعطَّر به الأمكنة والأجسام والملابس؛ إذ يعطي البخور مستنشقه مزاجاً رائقاً يدعوه إلى الاسترخاء وهدوء الأعصاب، ويبعث في نفسه السكينة، ويعطيه الراحة والطمأنينة؛ لذلك استُعمل -ولا يزال- في دور العبادة؛ ففي مصر القديمة، وكذلك عند الإغريق والرومان، كان البخور يُستعمل عند أداء طقوس دياناتهم، وقد استورد الصينيون مواد البخور، وتاجروا بها، وحرقوها للبخور، قبل قرون كثيرة. وما زالت الكنائس المسيحية تحرق أنواعاً شتى من البخور. أما المساجد، فقد تمّ تبخيرها منذ بداية الإسلام، وكان البخور يُسمَّى دخاناً، ثم انتقل البخور بعدها إلى تبخير البيوت، وأصبح يأخذ شكل طقوس احتفالية.
كانت مواد البخور تصل من جنوب الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين عبر الطريق التجاري الذي يسير بمحاذاة البحر الأحمر، والذي يُسمَّى بـ(درب اللبان)؛ إذ عُرف أن ما مقداره الطنين ونصف الطنّ كان يُحرق منها سنوياً في معبد الإله (بعل) إله الأمطار والرياح والغلال وخصب الأرض عند الكنعانيين. وكانت معابد بلاد ما بين النهرين تُطيَّب بعبق البخور، وتخبرنا ملحمة جلجامش أن بطل الملحمة عندما عزم هو وصديقه أنكيدو على السفر إلى غابة الأرز المسحورة ذهب إلى أمه ننسون لكي تصلّي من أجله، وتشفع له عند الإله (شمش) إله العدل والحق وموحي الشرائع:
وإذ ذاك دخلت (ننسون) حجرتها
وارتدت حلّةً تليق بجسمها
وازّينت بحليّ تليق بصدرها
ووضعت على رأسها تاجها
ثم ارتقت إلى السطح، وتقدّمت إلى (شمش)
وأحرقت البخور
وارتدت حلّةً تليق بجسمها
وازّينت بحليّ تليق بصدرها
ووضعت على رأسها تاجها
ثم ارتقت إلى السطح، وتقدّمت إلى (شمش)
وأحرقت البخور
كما تنتشر في البلاد العربية الأشجار التي تفرز أصماغاً لها استخدامات كثيرة، فما هذه الأصماغ والعطور؟ وما مصدرها؟
أشجار اللبّان
تنمو أشجار اللبّان Boswellia thurifera في الجزيرة العربية، وفي الجزء الجنوبي من إيران، وفي شرق إفريقية، وبالتحديد في الصومال وإثيوبيا. وأفضل أنواع اللبّان ذلك الذي يُؤخذ من الأشجار التي تنمو في منحدرات المناطق الجبلية ووديانها في إقليم ظفّار الواقع في جنوب شرق سلطنة عمان. ويتوق الأباطرة والملوك إلى شجرة اللبّان ذات الأصماغ التي تشبه اللؤلؤ، وعبق بخورها ورائحته يفوحان عبيراً، كما تتطهّر بها المعابد والكنائس ودور العبادة. وهي شجيرة أو شجرة واطئة، لا يزيد ارتفاعها على ثلاثة أمتار، سيقانها سميكة ملتوية، تحتوي على أصماغ حليبية سائلة تخرج من خلال القشرة عند تعرّضها للخدش أو الكسر، وعند تعرّضها للهواء تتصمغ وتتجمّد على شكل قطرات أو دموع ذات لون أبيض مائل إلى الاصفرار، لها رائحة عطرية عبقة، وتسمى هذه القطرات (اللبّان). وللحصول عليها يُعمد إلى عمل شقّ طولي على الساق بعمق محدّد، وعند إزالة قلف الأشجار تبدأ العصارة الصمغية بالسيلان متدليةً على شكل قطرات، وبعد مدة تُترك على الأشجار مدة تراوح بين أسبوعين وثلاثة أشهر لتتجمّد، وبعد ذلك تُجمع في سلال، وتُصنَّف حسب النوعية، والنوعيات الجيدة هي التي يُحصل عليها من الأشجار الفتية.
ولأهمية اللبان يُقال: إن بلقيس ملكة سبأ عندما زارت الملك سليمان في القدس جلبت معها من بلاد اليمن السعيد الطيوب والبخور والتوابل واللبان والمرّ التي تُنتج في ظفار. وقامت مملكة سبأ؛ أي: الدولة السبئية، في المدة (800- 115) قبل الميلاد، وتضم حالياً اليمن وعمان، وقد عُرفت بأنها البلاد التي تنتج الطيوب واللبان والأحجار الكريمة. ويقول النصّ التوراتي في اللبان: «مَن هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبّان وبكل أذرَّة التاجر». وكانت لهذه القطع الصغيرة التي تشبه اللؤلؤ قيمة اقتصادية وتجارية؛ فالإسكندر المقدوني (ذو القرنين) خطّط للهجوم على بلاد اليمن للسيطرة على تجارة اللبان والمر في مركز إنتاجهما وتجارتهما، ولم يستطع تحقيق خطته بسبب موته المبكر. كما أحرق الإمبراطور نيرو، الذي حكم روما في القرن الأول بعد الميلاد، عند وفاة زوجته من اللبان لأجل البخور ما يفوق إنتاج بلاد اليمن طوال العام.
شجرة المرّ
أشجار المرّ قريبة وراثياً من أشجار اللبّان، وموطنها جنوب الجزيرة العربية، واسمها العلمي هو: Commimphora myrrh. واسم نوع هذه الشجرة myrrh مأخوذ من الاسم العربي المرّ؛ نسبةً إلى طعم الإفرازات الصمغية المُرّة، وهذا الاسم يستخدم بشكل أو بآخر في معظم اللغات العالمية. أما اسم الأشجار التي موطنها شرق إفريقية والصومال، فهو Commimphora molmo. وهناك بعض الأنواع التي تنمو في المناطق الجافة القاحلة شبه الصحراوية في إيران، أو في شرق إفريقية، وفي الصومال خاصةً. وشجرة المرّ صغيرة يراوح ارتفاعها بين ثلاثة أمتار وخمسة، جذعها قصير، وسيقانها كثيرة طويلة ملتوية، تمتد على طولها قنوات طولية تشكّل خلجاناً صغيرة تتجمع فيها عصارة صمغية لونها أصفر، وعند تعرّض قشرة السيقان للخدش أو الجرح تسيل منها قطرات صمغية تتجمّد عند تعرّضها للهواء، ويتحول لونها إلى الأحمر البني أو الأرجواني الغامق.
وللحصول على أصماغ المرّ يلجأ السكان إلى عمل أخاديد على شكل جروح في قشرة سيقان الأشجار لتجري العصارة مدةً قصيرةً، وبعد مدة من الزمن يتم جمع صمغ المرّ الذي يتصلّب على شكل قطرات كروية الشكل، وبعض هذه القطرات لا يتصلّب بصورة كاملة، بل يبقى لزجاً ثخين القوام. ولصمغ المرّ ذي الشهرة العالمية الواسعة رائحة عطرة طيبة، ويعطي عند حرقه بخوراً يعبق المكان. ويُستخدم صمغ المرّ أو بلسمه في مجالات شتى، من أهمها إعداد البخور الذي أعطى هذه الأصماغ الشهرة. وقد استخدم هذه الأصماغ المصريون القدماء والفينيقيون والكنعانيون وسكان ما بين النهرين لتحضير البخور منها بحرقها في معابدهم، وجرى الإغريق والرومان على المنوال نفسه، وهم -إضافةً إلى ذلك- استخدموها بلسماً شافياً للجروح، وكان المصريون القدماء قبلهم قد استخدموها في تحنيط المومياءات. ولبلسم المرّ فوائد علاجية؛ فهو يستخدم في الطب لوقف النزيف، وتخفيف الآلام، وبخور المرّ عطر ومعقّم. ويُستخدم صمغ المرّ في إعداد مساحيق أو سوائل تفيد في تعقيم الفم، وفي علاج أمراض اللثة، ووقف وجع الأسنان. كما تُستخلص من قلف الجذع والسيقان والأفرع زيوت عطرية أيضاً.
وقد اختُرعت الأساطير، وسُطِّرت الحكايات والقصص، حول شجرة المرّ وبلسمها، تقول الأسطورة: تناهى الى سمع أفروديت -إلهة الحب والجمال- أن زوجة الملك ثياس تدّعي أن ابنتها (سميرنا) أجمل منها؛ لذا حنقت أفروديت على سميرنا، وابتلتها بحبّ غير طبيعي، هو عشق أبيها، وأثارت فيها الشهوة الجنسية، وبمساعدة خادمة المنزل تسلّلت سميرنا إلى سرير نوم والدها. وعندما اكتشف الملك فعلة ابنته الشنعاء حنق عليها، وأراد قتلها، لكن سميرنا هربت تخلّصاً من مطاردة جنود الملك وكلابه. عندما وعت سميرنا فعلتها المنكرة تضرّعت إلى الآلهة لتصفح عنها، واستنجدت بها لتغيّبها عن الأنظار، فاستجابت الآلهة لطلبها؛ إذ عندما وصلت سميرنا إلى طرف الغابة مُسِخَتْ شجرةً متعرجةً ملتويةً، هي شجرة المرّ. وفي أحد الأيام، وفي الوقت الذي كان ما زال فيه الملك ثياس غاضباً على فعلة ابنته النكراء، خرج في رحلة صيد، وعندما رأى الشجرة الملتوية ضربها بسيفه قاصفاً جذعها، فتحرّر منها الطفل الذي حملت به جرّاء فعلتها مع أبيها. جاءت عرائس البحر، وأخذت الصبي (أدونيس). عندها بكت سميرنا بكاءً مراً، وتجمّدت دموعها على مقلتيها مكوّنةً أصماغاً مرّةً تشبه اللآلي؛ لذا شكل هذه الأصماغ على جذع الشجرة شبيه بدموع سميرنا، ومرارتها من حزنها؛ لذا سُمِّيت الشجرة بـ(شجرة المرّ). ماتت سميرنا، ولم ترَ ابنها مطلقاً، لكن عرائس البحر جمعت دموع أمّه المتصمغة والمتجمدة، واستعملتها لتطييب جسده بهذه الأصماغ، التي أعطت أدونيس الجمال الأخّاذ، إلى الحد الذي جعل أفروديت تقع في حبّه.
العود: شجر يعطّر الحاضر بعبق التاريخ
من أقدم الأخشاب التي تُستخدم في عمل البخور هو خشب العود، وهو الأثمن والأغلى بين الأخشاب قاطبةً، ويعطي أنفس العطور. وموطن أشجار العود Aquilaria agallocha هو المثلث الجغرافي الواقع بين البنغال وهونج كونج وغينيا الجديدة، وما زالت هذه الأشجار تعيش بحالتها البرية في المناطق الجبلية المرتفعة هناك، ناميةً بين أشجار الغابات المدارية الممطرة، وأكثر ما توجد حالياً في كمبوديا، ولاوس، وفيتنام، وتايلاند، وسنغافورة، وبورما، وماليزيا، وإندونيسيا، وفي الهند أصبحت هذه الأشجار نادرة؛ بسبب القطع المستمر والاتجار بعودها.
تصبح أشجار العود ذات قيمة بعد إصابة جذعها وأفرعها الكبيرة بأنواع معينة من الفطريات، تهاجم جذوع الأشجار نتيجة وجود القنوات الطولية والمتعرجة التي تصل إلى عمق الجذع، والتي تحدثها يرقات حفار الساق، أو نتيجة الجروح أو الإصابات الميكانيكية. في البدء، تبدو الإصابة في الخشب على شكل شرائط بنية اللون، وكلما اشتدت الإصابة تكبر المساحة المصابة؛ حتى يصل التعفن إلى الخشب الصميمي، الذي هو في قلب الجذع والأفرع الكبيرة، وعندها تفرز الأشجار راتنج زيتي يتجمّع في المناطق المصابة، ويبدأ لون الخشب بالتحول إلى البني، ثم الأسود. ولهذه الإفرازات الراتنجية رائحة عطرة عبقة نفّاذة. ويتحول لون قسم كبير من الخشب الصميمي إلى البني الداكن أو الأسود، وهو ما يُسمَّى بـ(خشب العود).
شجرة العود كالمرأة الحصينة، لا تُفصح بسهولة عن خباياها العطرة؛ إذ لا يمكن معرفة وجود العود داخل جذع الشجرة إلا بعد قطعها، وشقّ جذعها. وليس في كلّ الأشجار يتم إيجاد خشب العود العطر؛ لأن شجرة واحدة فقط من بين كلّ عشرة أشجار تحمل في أحشائها خشب العود النفيس والثمين. وخشب العود المستخرج داكن اللون، ثقيل الوزن، وللحصول على عطره يتم طحنه ونقعه في صهاريج الماء خمسة أيام، بعدها يُطبخ في الماء على نار هادئة، فتطفو طبقة دهنية يتم جمعها بعد تبريد الماء، ثم تُعبّأ في زجاجات صغيرة، ويتم بيعها وتسويقها على أنها عطر العود. هذه هي الطريقة القديمة التقليدية، التي يُقال: إنها الأفضل. أما الطريقة الحديثة، فهي أن يُنقع الخشب شهراً كاملاً، بعدها يُوضع في أباريق، ويُمرّر عليه بخار الماء، عندها يُفرز زيته، ويتبخّر، ثم يُكثّف للحصول على عطر العود الثمين. وإلى الآن لم تُعرف طبيعة الراتنج الزيتي الذي تفرزه الأشجار، والذي يعطي الرائحة العبقة المميزة؛ لذلك لا يمكن مختبرياً تركيب عطور تشبه عطور العود، وهو ما يزيد من ندرتها وغلاء سعرها.
أما خشب العود نفسه، فيستعمل في إعداد البخور بإحراقه بالجمر وحده، أو بخلطه مع أنواع أخرى من الأخشاب والأصماغ وأنواع من التوابل، ويعطّر الجسم والملابس ببخوره المحروق الذي تتصاعد منه روائح نفّاذة عبقة تدوم على الأجسام المبخرة أسبوعاً على الأقلّ. ويُحرق البخور عند استقبال الضيوف، وجرت العادة تقديمه في نهاية جلسة السمر؛ إذ بعد شمّ بخور العود يليق بالضيوف الانصراف؛ لذلك يقول المثل: «ما بعد العود قعود». ويُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفيةٍ: يُسْتَعَطُ به من العُذْرَةِ، ويُلَدُّ به من ذاتِ الجَنْبِ».
خشب العود وعطره ليس لرائحتهما وجود بين كلّ العطور؛ فهو هدية الطبيعة الآتية من الماضي لتعطّر الحاضر بعبق التاريخ. ولندرته سُطِّرت القصص والحكايات والأساطير؛ إذ كان يُقال: العود هو خشب مطمور تحت التربة في الغابات الاستوائية الممطرة منذ مئات السنين، وللحصول عليه يتم البحث عنه في هذه الغابات، والتنقيب عنه تحت التراب. وهناك أسطورة عربية تقول: إن سيدنا آدم عندما نزل من الجنة إلى الأرض كان في يده عود من شجرة الجنة زرعه في الهند، وبهذه الصورة جاءت شجرة العود إلى الوجود؛ فهي منذ وجود البشرية إلى الآن تمنح الإنسان شيئاً من رائحة الجنة الطيبة.
السندروس
تنتشر أشجار السندروس Tetraclinis articulate في جبال الأطلسي في المغرب العربي حيث موطنها الأصلي، كما توجد هذه الأشجار في الجزائر، وتونس، وإسبانيا، ومالطا. والسندروس أشجار من المخروطيات قريبة الشبه بأشجار السرو والثويا، تاجها مخروطيّ الشكل، ويراوح ارتفاعها بين 12 متراً و15 متراً، خشبها صلب وعطري، وأوراقها حرشفية صغيرة جداً. وتحتوي أشجار السندروس في خشبها ولحائها على نسغ نباتي يرشح من الجذوع والأغصان الكبيرة للشجرة، وتتجمد هذه العصارة النباتية عند تعرّضها للهواء، وتصبح على شكل أصماغ صلبة طولية الشكل، معدّل طولها أربعة سنتيمترات، لونها أصفر ذهبي، ولها بريق الذهب. تستعمل أصماغ السندروس مثل أصماغ المر واللبان بحرقها لإعداد البخور في المنازل والمعابد، ولبخورها تأثير مطهّر، إضافةً إلى العبق الذي يعطيه هذا البخور. كما تستعمل الأصماغ بعد تذويبها مادةً حافظةً وملمعةً يطلى بها الأثاث الثمين والرسومات الزيتية. وأصماغ السندروس معروفة مشهورة، تحدثت عنها كتب الطب العربي القديم؛ فداود الأنطاكي يقول: السندروس مجفّف نزلات الدماغ، ومذهبة الربو والنفس وأوجاع الصدر والطحال، ويحفظ قوام المصارعين وأعصابهم، وإذا أُخذ مع السكنجبين يؤدي إلى هزل البدناء. أما ابن سينا، فإنه يؤيد تأثير هذه الأصماغ في تخفيف الوزن إذا أخذ مع السكنجبين، وابن البيطار يقول: إنه ينفع في تجفيف البواسير، وعلاج الزكام إذا دخن به.
الدراكينا: شجرة دم الأخوين
تنتشر أشجار الدراكينا Dracaena draco في مناطق جغرافية صغيرة محددة من جزر الكناري الواقعة في المحيط الأطلسي القريبة من شمال غرب القارة الإفريقية. كما تنتشر هذه الأشجار في سقطرى، وهي أرخبيل من الجزر التي تقع في بحر العرب التابعة إلى اليمن. وقد اكتسبت هذه الجزر أهميتها وشهرتها من وفرة نباتاتها النادرة، ومنها شجرة الدراكينا، التي يسمّونها (دم الأخوين)، حتى إنه يُطلق على (سقطرى) اسم (جزيرة دم الأخوين)، وسُمِّيت بذلك للاعتقاد بأنها رُويت من دم الأخوين هابيل وقابيل، أو أن عصارتها السائلة القرمزية اللون هي كدم الأخوين هابيل وقابيل.
والدراكينا عند سكان جزر الكناري أشجار مقدسة. أما في سقطرى، فهي أشجار أسطورية مباركة، كما هي سقطرى، الأرض التي تنمو عليها هذه الأشجار، مباركة من الآلهة حسب اعتقاد سكانها. كما تسمى بـ(الشجرة المعجزة، وسيدة الأشجار). وتعمّر أشجار الدراكينا طويلاً؛ إذ يصل عمر أعتقها إلى عدة آلاف من السنين، وإحدى الأشجار وصل عمرها إلى ستة آلاف سنة، وقد قُطعت قبل مدة وجيزة. وللشجرة جذع سميك، يتفرّع منه عدد قليل من الأفرع الغليظة والسميكة، التي تفقد بالتدريج أوراقها، فتتجمع الأوراق الجديدة الرمحية الطويلة عند نهاية الأفرع الطرفية القائمة؛ لذا تصبح الشجرة قريبة من شكل التنين المتعدد الرؤوس. وتحتوي أنسجة الشجرة على نسغ نباتي أحمر اللون تفرزه الأشجار عند خدش جذعها وأغصانها، ولجمعه يعمد السكان إلى إحداث جروح فيها لاستخراج هذه العصارة، وتجميع أصماغها، ثم يتم غليها وتركها لتبرد، فتصبح أقراصاً تُعرض للبيع عند العطارين، وتسمى هذه الأصماغ: دم الأخوين، ودم الغزال، ودم الثعبان، ودم التنين، وكثيراً ما تصدر أصماغ دم الأخوين الحمراء اللون من جزر سقطرى إلى دول الخليج العربي حيث يكثر الطلب عليها، وتستعمل لفوائدها العلاجية؛ فهي تقوّي المعدة واللثة، وتُستعمل لعلاج الجروح والقروح ووقف النزيف الدموي. وقد كتب عن صفاتها العلاجية ابن البيطار، وداود الأنطاكي، وابن سينا.
شجرة الطلح: الصمغ العربي
لهذه الشجرة أسماء كثيرة؛ فهي إضافةً إلى الطلح تسمى: السنط، وسمرة، وجمعها: سمرات، وقَرَظ، والسِّبْت، وشجرة الشوك، والشوك المصري، والميموسا المصرية، والأكاسيا العربية، وأكاسيا النيل، وأكاسيا الصمغ. ومن أنواعها: الطلح العراقي، والنجدي، والعسيري، والحبشي، والنوبي، والنيلي، وطلح الحسك، والطلح الطويل، والطلح السناري، والطلح الزاهي، والطلح العسلي. وهي من أشهر الأشجار في الجزيرة العربية؛ ففيها يقول امرؤ القيس في مطلع معلّقته الشهيرة:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ بسقط اللِّوى بين الدَّخُول فحوملِ
كأني غداة البين يوم تحمّلوا إلى سَمراتِ الحيّ ناقفٍ حَنظَلِ
كأني غداة البين يوم تحمّلوا إلى سَمراتِ الحيّ ناقفٍ حَنظَلِ
فالسَّمرات هي أشجار السنط كما ذكرنا، ومفردها: سمرة. وهي إحدى الأشجار المقدسة عند العرب قبل الإسلام، كما هي مكرمة في الإسلام؛ إذ ذكرت في القرآن الكريم مرةً واحدةً؛ فقد قال الله تعالى: ﴿فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ (الواقعة: 28، 29). والطلح المنضود هو أشجار الطلح المتّسقة أغصانها، والنامية بشكل جميل مرتّب. وذكرت أسطورة فرعونية كيف تحوّلت نقطتا دم عجل مقدّس عند ذبحه، فتناثرتا ذات اليمين وذات الشمال إلى شجرتي سنط كبيرتين تنتصبان أمام باب قصر الفرعون.
وهناك أنواع كثيرة من أشجار الطلح، ويشمل جنس السنط Acacia عدداً كبيراً من الأنواع تبلغ 1300 نوع، معظمها أشجار وشجيرات، منها الشوكي، ومنها غير الشوكي. وتنتشر أنواع كثيرة منها في الجزيرة العربية، والعراق، وإيران، وفي المناطق الجافة في الشرق الأوسط عامةً.
وتوجد شجرة الطلح (الصمغ العربي) Acacia arabica بشكل طبيعي في الجزيرة العربية، وبادية الشام، وفي العراق، والسودان، ومصر. وهي شجرة متوسطة الحجم، أفرعها شوكية، وهي أحد أكثر النباتات مقاومةً للجفاف، وتستطيع العيش في المناطق القاحلة التي تسقط فيها كميات قليلة من الأمطار. ولهذه الأشجار أهمية بالغة في المناطق الصحراوية؛ فهي توفّر الظلّ، وتحافظ بجذورها المتعمقة على تماسك التربة، وتمنعها من الانجرافات التي تحدث بواسطة الرياح. كما أنها مصدر لكثير من المواد الأولية الضرورية والمهمة، التي عُرف استعمالها منذ أزمنة بعيدة؛ فقلف الأشجار تحتوي على مادة التانين العفصية، وهو ما يجعلها من أفضل المواد التي تستخدم في دباغة الجلود، وإليها تُنسب النعال السبتية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتعل بها؛ إذ تُسمَّى أشجار الطلح في اللغة العربية الفصحى بـ(أشجار السِّبْت). وأهم ما تشتهر به أشجار الطلح هو الصمغ العربي، المعروف في كلّ بقاع الدنيا، الذي أعطاها شهرةً عالميةً واسعةً؛ لذلك سُمِّيت شجرة الطلح بـ(شجرة الصمغ العربي). ويُحصل على الصمغ العربي بعمل ثلم أو جرح غير عميق على شكل شريط أخدودي طوله في قلف (لحاء) الجذوع والأفرع الرئيسة لأشجار الطلح، فتسيل منها العصارة الصمغية التي تتجمد عند تعرّضها للهواء مكونةً قطعاً صمغيةً جافةً تكون بحجم بيضة الحمام أو أصغر، أشكالها غير منتظمة، ذات لون أبيض نصف شفاف، وأحياناً يكون مشوباً باللون الأصفر أو الأحمر المؤكسد. ويُجمع من الأشجار أو من على الأرض؛ إذ تسقط الأصماغ من تلقاء نفسها أحياناً. وأفضل أنواع الصمغ العربي ذلك الذي يُسمَّى (كردفان)، ويُجمع في السودان في منطقة كردفان، كما يُجمع في مصر وظفار وفي الجزيرة العربية. وللصمغ العربي فوائد علاجية كثيرة؛ فهو طارد للبلغم، ويفيد في التخلص من السعال، ووقف النزيف، والتخلص من أمراض المجاري البولية والتناسلية، ويعالج به الإسهال، والديزانتريا، والحمى، وأمراض اللثة، والقرحة، والبواسير، والحروق، وهو مقوٍّ للنشاط الجنسي. كما يدخل في تحضير مجموعة واسعة من الأدوية التي تستعمل في علاج أمراض شتى ومتنوعة. ويستعمل الصمغ في اللصق، كما يُستعمل في تثبيت الألوان الزيتية في اللوحات المرسومة بها.
(كنعان محمد) - (بيكس - المجر)