نمر القدومي (ديوان العرب) : أحاول قراءة سرّ الواقع والخيال، والنّوم الطّويل الخالي من الأحلام وأزيز الرّصاص، أبحث عن السّيادة في ترويض الأقوى وصولاً إلى نشوة الإنتصار. هو الذي تمكّن منّا وحشرنا تحت تسلّطه .. هو ساديّ يُمتّعه التمزيق، وكفّ الوسادة على فم النّشوة وخنقها. في دراما فلسطينيّة نابضة، خرج إلينا الرّوائي "سليم دبور" بروايته الجديدة "الهروب" التي صدرت بداية العام 2016 عن دار الجندي للنّشر والتوزيع في القدس، والتي تقع في 450 صفحة من الحجم المتوسط، هذه الرّواية تُعيد إلينا لحظات الألم والبؤس التي عاشها معظم أبناء الشّعب الفلسطينيّ إبّان سنين الإنتفاضة الثّانية.
لم أعد أستطيع الخروج من ذاتي لكثرة تحليلي لما يدور في هذه المنطقة من أحداث ودمار وخراب، يُصيب فقط الشّعوب الضّعيفة المُتآمر عليها. أمّا على هذه الأرض فقصص أهلها كثيرة وكبيرة ومؤلمة، فقد إختار الكاتب حكايته الإجتماعيّة السّياسيّة الدّراميّة الحافلة بالأحداث المفصّلة، والتي تدور على محاور عديدة، شخصيّات رئيسة وأخرى ثانويّة، بأسلوب السّرد الرّوائيّ والحوار المكثّف، حكاية أبناء المخيّمات والقرى الفلسطينيّة ومقارعتهم للّحياة أيّام المدرسة والجامعة بحثا عن الأعمال الشّحيحة، وبناء المستقبل كسائر شعوب العالم. لكن يبدو أنَّ العالم نسي أو تناسى أنَّ هناك شعبا واحدا ووحيدا لا زال يجثم تحت نير الأحتلال، كما يُشير الكاتب، وأنَّ هذا الإحتلال يعيث في الأرض والجسد والنّفس فسادا مريرا لا يقاس بالمكاييل.
دمج الرّاوي مجريات روايته بالتسلسل التاريخيّ لأحداث الإنتفاضة، كسرد موجز لأخبار الوطن آنذاك من إقتحامات وتدمير وإغلاقات، ومحاصرة شعبنا في مدن الضّفة الغربيّة والقرى والمخيّمات. دمجها مع بعض الحكايات المجتمعيّة وحياة الأفراد والعائلات وصنوف العذاب، التي طالت حياتهم وبيوتهم، وذلك بأسلوب عاطفيّ أثار لدينا مآسي ما عانيناه ورأيناه. الكاتب "سليم دبور" إبن الزّمان والمكان، إبن مخيّم الجلزون الصّامد، عاش جميع لحظات روايته بصدق وواقع حقيقيّ، أحيانا كان يتنقّل بنا بلغة سهلة مع توتير أعصاب عالٍ، وأحيانا أخرى عَبْرَ سيارة إسعاف تحمل شيئا ما، مريضا أو ميتاً\ أو خبزا، وربما يكون عريسا وعروسه في أوج زينتهما؟ وضع الكاتب لنفسه الأدوات المساعدة الكثيرة لضبط مجريات الرّواية، بعضها كانت غير مُقنعة، والبعض الآخر كانت تحت قاعدة "الضّرورات تبيح المحظورات". نظرا لطول الرّواية وتعدّد شخصيّاتها، كان تقاطع خطوط الأحداث كثيرة ونتائجها متناثرة ومترامية الأطراف. وعليه كان على الكاتب أن يتدخّل لوضع حدّ لنزيف التّشتت الذي قد يصيب القارئ للرّواية. أمّا إذا تكلّمنا عن عنصر التّشويق، فكان في البداية كبيرا ومثيرا، لكن مع الإقتراب من أحداث النّهاية، أصبحت توقعاتنا للنّتائج وإستباقنا للأحداث صائبة، وهذا بالتالي قد يكون خللا بسيطا في بناء الحبكة الرّوائية؛ تأكدنا أخيرا أنَّ "صابر" و "جرعوش" و "أيوب" لن ينقطعوا لا من أكل ولا من أموال، ولا حتى من الحمير كوسيلة نقل، وأمورهم ستبقى سالكة طول أحداث الرّواية. بتر قدم "أيوب" كانت متوقّعة من ذِكر نوع الرصاص، أمّا تدفّق الدولارات على "صابر" و "أيوب" بشكل غير منطقيّ، وتداخل الحرام بالحلال في مسألة دينيّة لم يخرج بها الكاتب بحل ناجح ومُرض. ومسألة سلب "نضال" للملايين من الدّولارات بسبب الوكالة التي يمتلكها، فكانت متوقّعة وواضحة جدا. بينما العودة لنقطة الصّفر والتّشرّد في نهاية الرّواية، فهذا المصير المحتوم ضمن الكبت السياسيّ والإجتماعيّ القائمين.
أحدثَ الكاتب "الدبور" فجوة إجتماعيّة سلبيّة تُثير الكراهيّة والحسد بين النّاس، حين أدخلَ مسألة الرأسماليّة داخل المخيّم بإعتباره شعب مثاليّ، وهذا أيضا يصبّ في عالم الخيال ويخمد لهيب العاطفة المتأجّج داخل قلوب القرّاء تجاه المخيّمات.
إحتوت الرّواية على نصوص بلاغيّة قويّة المعنى والمضمون، تأخذ القارئ للبحث عن مكنون المعاني التي يرمز إليها الكاتب، الست سنوات لم تكن عبثا، فهي سنوات المخاض في الإنتفاضة الأولى تُسفر عن حمل واهم وولادة كاذبة. الكثيرون مثل "صابر" تماما يودّون وبلهفة العودة إلى المصحّة وإنهاء المسرحيّة الهزليّة المُشبّعة برائحة دم الأبرياء. أفاض الكاتب من خلال الشخصيّات بما يجول في نفسه وخاطره، فصرخ بصوتٍ كاتم يُسمع به فقط الأموات، ويناجي فيهم وطنيتهم وتاريخهم وإيمانهم المساعدة في نَيل أدنى حقوق العيش بكرامة على تراب الوطن. تزيّنت الرّواية بالصور البلاغيّة الجميلة، ومعاني المفردات العميقة الهادفة، تلك الرّموز الفنيّة المؤلمة هي نتاج حصاد سنين المعاناة من الإحتلال الأول مدعوما بإحتلال ثانٍ؛ فلو كان الحمار يملك ذرّة عقل لأدرك أنَّ كلينا مُستهدف من قِبل الوحوش البشريّة، ولن نتحرّر أبدا إلاّ إذا أنصفنا بعضنا، وتوقّفت الكلاب عن النباح أثناء سير القافلة.
تساؤلات فلسفيّة كثيرة يطرحها الكاتب في الرّواية، وتبقى إجاباتها مُعلّقة تَبَعا للظّروف المُتغيّرة على أرض الواقع. فالسّياسة لعبة يُسيّرها مُهرّج محترف، يُجيد الرّقص على الحبال ويمزج العجل بالقدم بالصوت بالإنسان، ويصبح أمرا واقعيّا لا يفهمه أحد. أمّا الحديث المتواصل مع أموات غائبين حاضرين، إنما رمز عظيم ودروس في الإنسانيّة التي انفرد بها فقط شعبنا المناضل.
يراعكَ الجميل أيها الكاتب "الدبور" كان بمثابة ذلك التّنويم المغناطيسيّ العاطفيّ الذي ضرب الدّمعة من سباتها، ونفّض المشاعر من معاقلها، وسلب الرّوح إلى حيث تهيم الأحلام في سمائها .. (الهروب) يا أديبنا كان من المخيّم إلى المخيّم، من الحلم إلى الكابوس، من الضّياع إلى الفقدان ومن وجه الأرض إلى القبر؟
لم أعد أستطيع الخروج من ذاتي لكثرة تحليلي لما يدور في هذه المنطقة من أحداث ودمار وخراب، يُصيب فقط الشّعوب الضّعيفة المُتآمر عليها. أمّا على هذه الأرض فقصص أهلها كثيرة وكبيرة ومؤلمة، فقد إختار الكاتب حكايته الإجتماعيّة السّياسيّة الدّراميّة الحافلة بالأحداث المفصّلة، والتي تدور على محاور عديدة، شخصيّات رئيسة وأخرى ثانويّة، بأسلوب السّرد الرّوائيّ والحوار المكثّف، حكاية أبناء المخيّمات والقرى الفلسطينيّة ومقارعتهم للّحياة أيّام المدرسة والجامعة بحثا عن الأعمال الشّحيحة، وبناء المستقبل كسائر شعوب العالم. لكن يبدو أنَّ العالم نسي أو تناسى أنَّ هناك شعبا واحدا ووحيدا لا زال يجثم تحت نير الأحتلال، كما يُشير الكاتب، وأنَّ هذا الإحتلال يعيث في الأرض والجسد والنّفس فسادا مريرا لا يقاس بالمكاييل.
دمج الرّاوي مجريات روايته بالتسلسل التاريخيّ لأحداث الإنتفاضة، كسرد موجز لأخبار الوطن آنذاك من إقتحامات وتدمير وإغلاقات، ومحاصرة شعبنا في مدن الضّفة الغربيّة والقرى والمخيّمات. دمجها مع بعض الحكايات المجتمعيّة وحياة الأفراد والعائلات وصنوف العذاب، التي طالت حياتهم وبيوتهم، وذلك بأسلوب عاطفيّ أثار لدينا مآسي ما عانيناه ورأيناه. الكاتب "سليم دبور" إبن الزّمان والمكان، إبن مخيّم الجلزون الصّامد، عاش جميع لحظات روايته بصدق وواقع حقيقيّ، أحيانا كان يتنقّل بنا بلغة سهلة مع توتير أعصاب عالٍ، وأحيانا أخرى عَبْرَ سيارة إسعاف تحمل شيئا ما، مريضا أو ميتاً\ أو خبزا، وربما يكون عريسا وعروسه في أوج زينتهما؟ وضع الكاتب لنفسه الأدوات المساعدة الكثيرة لضبط مجريات الرّواية، بعضها كانت غير مُقنعة، والبعض الآخر كانت تحت قاعدة "الضّرورات تبيح المحظورات". نظرا لطول الرّواية وتعدّد شخصيّاتها، كان تقاطع خطوط الأحداث كثيرة ونتائجها متناثرة ومترامية الأطراف. وعليه كان على الكاتب أن يتدخّل لوضع حدّ لنزيف التّشتت الذي قد يصيب القارئ للرّواية. أمّا إذا تكلّمنا عن عنصر التّشويق، فكان في البداية كبيرا ومثيرا، لكن مع الإقتراب من أحداث النّهاية، أصبحت توقعاتنا للنّتائج وإستباقنا للأحداث صائبة، وهذا بالتالي قد يكون خللا بسيطا في بناء الحبكة الرّوائية؛ تأكدنا أخيرا أنَّ "صابر" و "جرعوش" و "أيوب" لن ينقطعوا لا من أكل ولا من أموال، ولا حتى من الحمير كوسيلة نقل، وأمورهم ستبقى سالكة طول أحداث الرّواية. بتر قدم "أيوب" كانت متوقّعة من ذِكر نوع الرصاص، أمّا تدفّق الدولارات على "صابر" و "أيوب" بشكل غير منطقيّ، وتداخل الحرام بالحلال في مسألة دينيّة لم يخرج بها الكاتب بحل ناجح ومُرض. ومسألة سلب "نضال" للملايين من الدّولارات بسبب الوكالة التي يمتلكها، فكانت متوقّعة وواضحة جدا. بينما العودة لنقطة الصّفر والتّشرّد في نهاية الرّواية، فهذا المصير المحتوم ضمن الكبت السياسيّ والإجتماعيّ القائمين.
أحدثَ الكاتب "الدبور" فجوة إجتماعيّة سلبيّة تُثير الكراهيّة والحسد بين النّاس، حين أدخلَ مسألة الرأسماليّة داخل المخيّم بإعتباره شعب مثاليّ، وهذا أيضا يصبّ في عالم الخيال ويخمد لهيب العاطفة المتأجّج داخل قلوب القرّاء تجاه المخيّمات.
إحتوت الرّواية على نصوص بلاغيّة قويّة المعنى والمضمون، تأخذ القارئ للبحث عن مكنون المعاني التي يرمز إليها الكاتب، الست سنوات لم تكن عبثا، فهي سنوات المخاض في الإنتفاضة الأولى تُسفر عن حمل واهم وولادة كاذبة. الكثيرون مثل "صابر" تماما يودّون وبلهفة العودة إلى المصحّة وإنهاء المسرحيّة الهزليّة المُشبّعة برائحة دم الأبرياء. أفاض الكاتب من خلال الشخصيّات بما يجول في نفسه وخاطره، فصرخ بصوتٍ كاتم يُسمع به فقط الأموات، ويناجي فيهم وطنيتهم وتاريخهم وإيمانهم المساعدة في نَيل أدنى حقوق العيش بكرامة على تراب الوطن. تزيّنت الرّواية بالصور البلاغيّة الجميلة، ومعاني المفردات العميقة الهادفة، تلك الرّموز الفنيّة المؤلمة هي نتاج حصاد سنين المعاناة من الإحتلال الأول مدعوما بإحتلال ثانٍ؛ فلو كان الحمار يملك ذرّة عقل لأدرك أنَّ كلينا مُستهدف من قِبل الوحوش البشريّة، ولن نتحرّر أبدا إلاّ إذا أنصفنا بعضنا، وتوقّفت الكلاب عن النباح أثناء سير القافلة.
تساؤلات فلسفيّة كثيرة يطرحها الكاتب في الرّواية، وتبقى إجاباتها مُعلّقة تَبَعا للظّروف المُتغيّرة على أرض الواقع. فالسّياسة لعبة يُسيّرها مُهرّج محترف، يُجيد الرّقص على الحبال ويمزج العجل بالقدم بالصوت بالإنسان، ويصبح أمرا واقعيّا لا يفهمه أحد. أمّا الحديث المتواصل مع أموات غائبين حاضرين، إنما رمز عظيم ودروس في الإنسانيّة التي انفرد بها فقط شعبنا المناضل.
يراعكَ الجميل أيها الكاتب "الدبور" كان بمثابة ذلك التّنويم المغناطيسيّ العاطفيّ الذي ضرب الدّمعة من سباتها، ونفّض المشاعر من معاقلها، وسلب الرّوح إلى حيث تهيم الأحلام في سمائها .. (الهروب) يا أديبنا كان من المخيّم إلى المخيّم، من الحلم إلى الكابوس، من الضّياع إلى الفقدان ومن وجه الأرض إلى القبر؟
بقلم المؤلسس : عادل سالم