الرياض - عادل الكلباني (الرياض) : في قضية الحجاب التي شغلت الرأي العام، وأشعلت حمى الردود خلال أسبوعين تقريبا، حتى أذهلت الناس عن قضايا مهمة ومحورية، لفت انتباهي أنه لا كبير في المجتمع يقضي بين الناس فيما اختلفوا فيه ! في حين تطايرت شهب الشتائم وسهام الاتهامات، وتنوعت اتجاهات النظر إلى المسألة بطرفين متضادين، كل منهما يزعم امتلاك الحق، والانفراد به، ويدعي جهلَ الآخر وعدمَ فهمه، بل تجاوز الأمر إلى قذف وشتم ومخالفة صريحة لما ثبت في الدين حرمته، وجاء النص الصريح بالبعد عنه، والنهي عن اقترافه، فكل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه ! وكل من المختلفين يعلم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق شارب الخمر، وهي المنكر الذي لا خلاف فيه عند أهل الملة أجمعين، حيث نهى من سبه، وهو يقيم عليه حدا من حدود الله تعالى، فقال : لا تلعنه . وفي رواية : لا تعينوا الشيطان على أخيكم .
كل ذلك وغيره مما غاب أو غُيّب عن القضية التي أخذت حيزا أكبر من حجمها، وصور للناس أن الدين سينهدم، والعفة ستنهار بمجرد الأخذ بقول للآخذ به سلف، وكثير من بلاد الإسلام تعمل به، ولم تزل محافظة على دينها، وشرف نسائها.
هذه المقدمة أردت منها بيان أن الحراك الذي عكر صفاء الألفة، وكدر نهر المحبة، وسد منابع حسن الظن، والرفق، والأناة، وحسن الحوار، وأدب الخلاف، كل ذلك إنما ضيعه غياب الكبير، الكبير الذي يُوقِف صراعَ الصغار، ويؤدب من أخطأ، ويأخذ بيده برفق وحنان ليريه الصواب، ويعينه على العمل به، وإذا اقتضى الأمر معاقبته فعلا، ويوقف تهور المتشددين، أو الغيورين الذين تأخذهم الغيرة إلى أبعد من منكر يريدون تغييره، كما في قصة الرجلين من بني إسرائيل حيث كان أحدهما يكثر من المعصية، والآخر ينصحه وينهاه، حتى رآه يوما ما على منكر كبُر في عينه، وتعاظم في نظره على مغفرة الله، فقال كلمة قال عنها أبو هريرة رضي الله عنه : أوبقت دنياه وأخراه ! قال هذا الغيور الناصح لأخيه المذنب العاصي : والله لا يغفر الله لك . فقال جل في علاه : من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان ؟ قد غفرت له، وأحبطت عملك! سقته بمعناه، لأن أصل القصة معلوم عند عامة الناس، فكيف بطلبة العلم منهم، فكيف بالعلماء.
إن الغيرة التي ملأت قلب ذاك الناصح لم تسعفه ليقف حيث أراد الشرع أن يقف عنده، فتعدى حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. ولا شك عندي في غيرة الجميع، وحرصهم على حماية حياض الفضيلة، ومنع تسرب نجاسات الرذيلة إليه، وتعكير صفوه، وتغيير لونه أو طعمه أو رائحته، لكنّ الغيرة وحدها لا تكفي لكي تزم نفس الغيور بزمام الشريعة، بل قد تكون سببا لإحباط عمله، وضياع ما تعبت نفسه في جمعه من حسنات، فيصبح مفلسا يوم العرض على الله، ويربح من كان يظن أنه سيهلك لتجاوزه ما كنا نظنه تجاوزا، وكما قيل :
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بحسن الظن بأنفسهم كما جاء في قصة الإفك { (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) ولا يُردُّ على ذلك بأن هذا المنكر قد ظهر وفشا، فإنه منكر في رأيك لا في رأي من فعله ! لهذا كان الحوار والنقاش الحل الأمثل في مثل هذه الأمور.
لكن الذي حدث غير ذلك، فكان بعض طلبة العلم ممن حملوا لواء التشنيع والتخوين، بل شاركهم في تأجيج نار الفرقة والاختلاف بعض أهل العلم ممن كان يرجى منهم أن يمسكوا بالزمام، ويتولوا مسألة الخطام، ويجمعوا الكلمة، أو على أقل تقدير بأن يكون الإنكار منهم بالحلم والأناة، وبيان الدليل والراجح من الأقوال، ولجم أفواه المخالفين للشريعة بالقذف والشتيمة، وبيان أن ليس ذلك هو خلق المسلم الحق، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمؤمن الحق هو الذي يحرص على الأخذ بيد المخطئ إن ثبت خطؤه .
وإني لأتساءل أليس في بني قومي رجل رشيد، يعمد إلى هذه السجالات الغوغائية فيكتم ضجيجها بالكلمة الطيبة والتوجيه الحسن ؟
أليس من علماء الأمة الذين يشار إليهم بالبنان من يستطيع جمع الناس على مائدته، أو في مجلسه، ويحاورهم ويوجههم، ويعطي تعليماته وفتواه لمن أصغى إليه الناس كي يرشدهم ويدلهم على الحق بطريق الحق لا بمخالفته والتجاوز لحدوده ؟
هل تكتفي اللجنة الدائمة للإفتاء بإصدار الفتاوى والوقوف عند ذلك، ألا يمكنها أن تمسك بحبل المجتمع لتلفه حول عنق الفتنة فتخنقها، وتوجه سير الخلاف إلى الطريق السليم الذي يحترم فيه كل من المخالفين رأي أخيه ويظن به خيرا، ويسعى معه إلى الاتفاق، فإن لم يمكن ذلك فلا أقل من أن يعذر بعضهم بعضا، وتبقى وشائج الأخوة وصفاء القلوب مشعا على أهل الإيمان، جامعا لكلمتهم موحدا لصفهم، مع احتفاظ كل منهم برأيه.
ألسنا نسوق قصص السلف في العذر مع اختلاف أقوالهم إلى حد التنافر، ويبقى الود بينهم، ويثني بعضهم على بعض ويصر كل منهم على قوله وصوابه.
ثم إن من العجيب أن يشتهر عند الجميع أن هذه القضايا إنما يراد منها إشغال الناس عما هو أشد وأقوى وأهم، ثم ما يلبث الناس يتسابقون لينشغلوا وليُشغلوا بمثل هذه المسائل التي يعلم جميعهم أنهم لن يصلوا فيها إلى اتفاق كلمة على رأي واحد، حتى وإن أقنعت أناسا برأيك فإنك لن تستطيع تغيير آراء الناس كلهم، وسيبقى هناك من يتبع القول الذي تراه مرجوحا، ويرى مخالفك رجحانه.
فليت كبيرا من كبراء أهل العلم يحمل راية جمع الكلمة ورص الصف، واحتضان المخالفين، ومحاورتهم، وقيادة الناس بلطف إلى ما يظن أنه الحق، ومراعيا أن اختلاف الفتوى رحمة، وربما كان القول المرجوح عندنا أنسب وأرفق بغيرنا.
هي أمنية لا أظنها مستحيلة، لكنني أظنها عسيرة غير يسيرة.
والله المستعان.
كل ذلك وغيره مما غاب أو غُيّب عن القضية التي أخذت حيزا أكبر من حجمها، وصور للناس أن الدين سينهدم، والعفة ستنهار بمجرد الأخذ بقول للآخذ به سلف، وكثير من بلاد الإسلام تعمل به، ولم تزل محافظة على دينها، وشرف نسائها.
هذه المقدمة أردت منها بيان أن الحراك الذي عكر صفاء الألفة، وكدر نهر المحبة، وسد منابع حسن الظن، والرفق، والأناة، وحسن الحوار، وأدب الخلاف، كل ذلك إنما ضيعه غياب الكبير، الكبير الذي يُوقِف صراعَ الصغار، ويؤدب من أخطأ، ويأخذ بيده برفق وحنان ليريه الصواب، ويعينه على العمل به، وإذا اقتضى الأمر معاقبته فعلا، ويوقف تهور المتشددين، أو الغيورين الذين تأخذهم الغيرة إلى أبعد من منكر يريدون تغييره، كما في قصة الرجلين من بني إسرائيل حيث كان أحدهما يكثر من المعصية، والآخر ينصحه وينهاه، حتى رآه يوما ما على منكر كبُر في عينه، وتعاظم في نظره على مغفرة الله، فقال كلمة قال عنها أبو هريرة رضي الله عنه : أوبقت دنياه وأخراه ! قال هذا الغيور الناصح لأخيه المذنب العاصي : والله لا يغفر الله لك . فقال جل في علاه : من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان ؟ قد غفرت له، وأحبطت عملك! سقته بمعناه، لأن أصل القصة معلوم عند عامة الناس، فكيف بطلبة العلم منهم، فكيف بالعلماء.
إن الغيرة التي ملأت قلب ذاك الناصح لم تسعفه ليقف حيث أراد الشرع أن يقف عنده، فتعدى حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. ولا شك عندي في غيرة الجميع، وحرصهم على حماية حياض الفضيلة، ومنع تسرب نجاسات الرذيلة إليه، وتعكير صفوه، وتغيير لونه أو طعمه أو رائحته، لكنّ الغيرة وحدها لا تكفي لكي تزم نفس الغيور بزمام الشريعة، بل قد تكون سببا لإحباط عمله، وضياع ما تعبت نفسه في جمعه من حسنات، فيصبح مفلسا يوم العرض على الله، ويربح من كان يظن أنه سيهلك لتجاوزه ما كنا نظنه تجاوزا، وكما قيل :
قَد يهلكُ الإنسانُ مِن حَيثُ مأمَنِه
وَينجو بإذن اللهِ مِن حيثُ يَحذرُ
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بحسن الظن بأنفسهم كما جاء في قصة الإفك { (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) ولا يُردُّ على ذلك بأن هذا المنكر قد ظهر وفشا، فإنه منكر في رأيك لا في رأي من فعله ! لهذا كان الحوار والنقاش الحل الأمثل في مثل هذه الأمور.
لكن الذي حدث غير ذلك، فكان بعض طلبة العلم ممن حملوا لواء التشنيع والتخوين، بل شاركهم في تأجيج نار الفرقة والاختلاف بعض أهل العلم ممن كان يرجى منهم أن يمسكوا بالزمام، ويتولوا مسألة الخطام، ويجمعوا الكلمة، أو على أقل تقدير بأن يكون الإنكار منهم بالحلم والأناة، وبيان الدليل والراجح من الأقوال، ولجم أفواه المخالفين للشريعة بالقذف والشتيمة، وبيان أن ليس ذلك هو خلق المسلم الحق، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمؤمن الحق هو الذي يحرص على الأخذ بيد المخطئ إن ثبت خطؤه .
وقد قيل لبعضهم : طلابك فيهم الصالح والطالح !
فقال : أما الصالح فهو عون لنا، وأما الطالح فنحن عون له.
فقال : أما الصالح فهو عون لنا، وأما الطالح فنحن عون له.
وإني لأتساءل أليس في بني قومي رجل رشيد، يعمد إلى هذه السجالات الغوغائية فيكتم ضجيجها بالكلمة الطيبة والتوجيه الحسن ؟
أليس من علماء الأمة الذين يشار إليهم بالبنان من يستطيع جمع الناس على مائدته، أو في مجلسه، ويحاورهم ويوجههم، ويعطي تعليماته وفتواه لمن أصغى إليه الناس كي يرشدهم ويدلهم على الحق بطريق الحق لا بمخالفته والتجاوز لحدوده ؟
هل تكتفي اللجنة الدائمة للإفتاء بإصدار الفتاوى والوقوف عند ذلك، ألا يمكنها أن تمسك بحبل المجتمع لتلفه حول عنق الفتنة فتخنقها، وتوجه سير الخلاف إلى الطريق السليم الذي يحترم فيه كل من المخالفين رأي أخيه ويظن به خيرا، ويسعى معه إلى الاتفاق، فإن لم يمكن ذلك فلا أقل من أن يعذر بعضهم بعضا، وتبقى وشائج الأخوة وصفاء القلوب مشعا على أهل الإيمان، جامعا لكلمتهم موحدا لصفهم، مع احتفاظ كل منهم برأيه.
ألسنا نسوق قصص السلف في العذر مع اختلاف أقوالهم إلى حد التنافر، ويبقى الود بينهم، ويثني بعضهم على بعض ويصر كل منهم على قوله وصوابه.
ليت كبيرا من كبراء أهل العلم يحمل راية جمع الكلمة ورص الصف، واحتضان المخالفين، ومحاورتهم، وقيادة الناس بلطف إلى ما يظن أنه الحق، ومراعيا أن اختلاف الفتوى رحمة، وربما كان القول المرجوح عندنا أنسب وأرفق بغيرنا
ثم إن من العجيب أن يشتهر عند الجميع أن هذه القضايا إنما يراد منها إشغال الناس عما هو أشد وأقوى وأهم، ثم ما يلبث الناس يتسابقون لينشغلوا وليُشغلوا بمثل هذه المسائل التي يعلم جميعهم أنهم لن يصلوا فيها إلى اتفاق كلمة على رأي واحد، حتى وإن أقنعت أناسا برأيك فإنك لن تستطيع تغيير آراء الناس كلهم، وسيبقى هناك من يتبع القول الذي تراه مرجوحا، ويرى مخالفك رجحانه.
فليت كبيرا من كبراء أهل العلم يحمل راية جمع الكلمة ورص الصف، واحتضان المخالفين، ومحاورتهم، وقيادة الناس بلطف إلى ما يظن أنه الحق، ومراعيا أن اختلاف الفتوى رحمة، وربما كان القول المرجوح عندنا أنسب وأرفق بغيرنا.
هي أمنية لا أظنها مستحيلة، لكنني أظنها عسيرة غير يسيرة.
والله المستعان.