انتقل إلى رحمة الله تعالى ظُهر اليوم الثلاثاء 8 شوال 1432هـ الموافق 6 سبتمبر 2011م شيخ الحنابلة العلامة الصالح الفقيه الشيخ عبد الله بن عقيل... وستكون الصلاة عليه عصر غدٍ الأربعاء في جامع الملك خالد بحي (أم الحمام) بالرياض،، نسأل الله تعالى له المغفرة والرحمة ورفعة الدرجات.... آمين! وإنا لله وإنا إليه راجعون..
وكان الشيخ ابن عقيل عضوا في هيئة الإفتاء، وتنقل بين عدد من محاكم المملكة في جازان وفرسان والخرج ثم في الرياض، إلى أن أصبح عضوا في هيئة التمييز.
هو: الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل بن عبد الله بن عبد الكريم آل عقيل.
مولده: ولــد الشيـــخ عبــدالله في مــدينة عــنيزة عــام 1335 هـ.
تعلمه وشيوخه:
نشأ في كنف والده الشيخ عبدالعزيز العقيل، الذي يعتبر من رجالات عنيزة المشهورين، ومن أدبائها وشعرائها، فكان والده هو معلمه الأول.
وقد هيأ الله -عز وجل- للشيخ عبدالله بن عقيل بيت علم، فإلى جانب والده الشيخ عبدالعزيز، فإن أخاه الأكبر هو الشيخ عقيل بن عبدالعزيز وهو من حملة العلم، وكان قاضيًا لمدينة العارضة في منطقة جيران جنوبي المملكة، كما أن عمه هو الشيخ عبدالرحمن بن عقيل الذي عين قاضيًا لمدينة جازان.
درس الشيخ عبدالله العلوم الأولية في مدرسة الأستاذ ابن صالح، ثم في مدرسة الداعية المصلح الشيخ عبدالله القرعاوي.
حفظ الشيخ عبدالله بن عقيل القرآن الكريم، وعددًا من المتون التي كان طلبة العلم يحفظونها في ذلك الوقت ويتدارسونها، مثل: عمدة الحديث، ومتن زاد المستقنع، وألفية ابن مالك في النحو... وغيرها.
وبعد اجتيازه لهذه المرحلة -بتفوق- التحق بحلقات شيخ عنيزة وعلّامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- وقد لازمه ملازمة تامة؛ فتعلم عليه القرآن الكريم، والتفسير، والتوحيد، والحديث، والفقه، واللغة ... وغيرها.
كما استفاد الشيخ عبدالله من مشايخ عنيزة الموجودين في ذلك الوقت مثل: الشيخ المحدث المعمر علي بن ناصر أبو وادي؛ فقرأ عليه: الصحيحين، والسنن، ومسند أحمد، ومشكاة المصابيح، وأخذ عنه الإجازة بها بسنده العالي عن شيخه محدّث الهند نذير حسين (ت 1299هـ) .
وفي الوقت الذي عمل فيه الشيخ عبدالله قاضيًا في مدينة الرياض لم يأل الشيخ جهدا في الاستفادة من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- فلازمه واستفاد منه علميا؛ حيث انضم إلى حلقاته التي كان يعقدها في فنون العلم المتعددة.
كما استفاد الشيخ عبدالله من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم أثناء العمل معه عضوًا في دار الإفتاء لمدة خـمسة عشر عامًا؛ فاستفاد من أخلاقه، وحسن تدبيره، وسياسته مع الناس.
واستفاد الشيخ عبدالله -أيضًا- من العلماء الأجلاء الوافدين لمدينة الرياض للتدريس في كلية الشريعة، أمثال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان (ت: 1393هـ) ، والشيخ عبدالرزاق عفيفي (ت: 1415هـ) وغيرهما.
وظائفه العملية:
اختير الشيخ عبدالله وهو في مطلع شبابه -في عام 1353هـ - مع المشايخ الذين أمر الملك عبدالعزيز بابتعاثهم قضاة ومرشدين في منطقة جيزان، فكان نصيب الشيخ عبدالله مع عمه الشيخ عبدالرحمن بن عقيل -قاضي جازان- أن عمل ملازمًا وكاتبًا، مع ما كان يقوم به من الإمامة، والخطابة، والحسبة، والوعظ، والتدريس.
وفي تــلك الفــترة وأثنــاء مكـــوثه في جـــازان خرج مع الهيئة التي قامت بتحديد الحدود بين المملكة واليمن، حيث ظلت تتجول بين الحدود والقبائل الحدودية بضعة أشهــر من سنة 1355هـ.
وفي عام 1357هـ رجع الشيخ عبدالله إلى وطنه عنيزة، ولازم شيخه ابن سعدي مرة أخرى بحضور دروسه ومحاضراته حتى عام 1358هـ، حيث جاءت برقية من الملك عبدالعزيز لأمير عنيزة بتعيين الشيخ لرئاسة محكمة جازان خلفا لعمه عبدالرحمن، فاعتذر الشيخ عن ذلك؛ فلم يقبل عذره، فاقترح على الشيخ عمر بن سليم التوسط بنقل الشيخ محمد بن عبدالله التويجري من أبو عريش إلى جازان، ويكون هو في أبو عريش، فهي أصغر حجمًا وأخف عملًا، فراقت هذه الفكرة للشيخ عمر بن سليم؛ فكتب للملك عبدالعزيز، الذي أصدر أوامره بذلك. ومن ثَمَّ سافر الشيخ عبدالله إلى أبوعريش مباشرًا عمله الجديد في محكمتها مع القيام بالتدريس والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ذلك في رمضان من سنة 1358هـ.
وفي سنة 1359هـ نقل الشيخ عبدالله إلى محكمة فرسان، لكنه لم يدم هناك طويلا، فما لبث أن أعيد إلى محكمة أبو عريش مرة أخرى ليمكث فيها قاضيا مدة خـمس سنوات متتالية.
وفي رمضان سنة 1365هـ نقل الشيخ بأمر من الملك عبدالعزيز إلى محكمة الخرج، وذلك باقتراح من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ولم يدم مكوث الشيخ عبدالله في محكمة الخرج إلا قرابة السنة، حيث تم نقله إلى المحكمة الكبرى في الرياض، وقد كان ذلك في شوال سنة 1366هـ.
ظل الشيخ عبدالله بن عقيل قاضيا في الرياض حتى سنة (1370هـ) ، إلى أن أمر الملك عبدالعزيز بنقله قاضيا لعنيزة مسقط رأسه، ومقر شيخه عبدالرحمن بن سعدي، حيث لم يمنعه موقعه -وهو قاضي عنيزة- من متابعة دروسه العلمية، والاستفادة منه طيلة المدة التي مكث فيها: بعنيزة. وقد أشرف خلال هذه الفترة على إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مدينة عنيزة.
وقد ظل الشيخ قاضيًا لعنيزة حتى سنة 1375هـ. وفي تلك الأثناء افتتحت دار الإفتاء في الرياض برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعين الشيخ عبدالله بن عقيل عضوًا فيها بأمر الملك سعود وباشر عمله في رمضان سنة 1375هـ.
وكان تعيين الشيخ في دار الإفتاء فرصة عظيمة له لملازمة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والاستمرار في الاستفادة منه.
وأثناء عمل الشيخ عبدالله في دار الإفتاء أصدر مجموعة من العلماء برئاسة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم صحيفة إسلامية سميت بالدعوة، وكان فيها صفحة للفتاوى، تولى الإجابة عليها أَوَّلَ أمرِها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم وكّل للشيخ عبدالله بن عقيل تحريرها، والإجابة على الفتاوى التي تَرِدُ من القراء، وقد كان من نتاجها هذه الفتاوى التي تطبع لأول مرة.
وبعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رئيس القضاة- أمر الملك فيصل بتشكيل لجنة للنظر في المعاملات الموجودة في مكتبه؛ كرئيس للقضاة فترأس الشيخ عبدالله تلك اللجنة، التي سميت اللجنة العلمية. وقد ضمت في عضويتها كلاً من الشيخ محمد بن عودة، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ عمر المترك.
وما إن أنهت اللجنة العلمية أعمالها حتى انتقل الشيخ عبدالله بن عقيل- في عام 1391هـ - بأمر من الملك فيصل إلى عضوية هيئة التمييز، بمعية كل من الشيخ محمد بن جبير، والشيخ محمد البواردي، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ محمد بن سليم، ورئيسهم الشيخ عبدالعزيز ابن ناصر الرشيد.
وفي عام 1392هـ تشكلت الهيئة القضائية العليا برئاسة الشيخ محمد ابن جبير، وعضوية الشيخ عبدالله بن عقيل، والشيخ عبدالمجيد بن حسن، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ غنيم المبارك.
ومن الهيئة القضائية العليا انتقل عمل الشيخ إلى مجلس القضاء الأعلى الذي تشكل برئاسة وزير العدل في ذلك الوقت الشيخ محمد الحركان، حيث تعين فيه الشيــخ عبدالله عضوًا، إضافة إلى عضويته في الهيئة الدائمة لمجلس القضاء الأعلى، وذلك في أواخر عام 1392هـ.
ثم عين الشيخ رئيسا للهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى إثر انتقال الشيخ محمد الحركان إلى رابطة العالم الإسلامي، وتعيين الشيخ عبدالله بن حميد خلفًا له في رئاسة المجلس، كما كان الشيخ عبدالله بن عقيل يترأس المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الشيخ عبدالله بن حميد أيام انتدابه، وأيام سفره للعلاج.
وقد اختير الشيخ عبدالله بن عقيل لعضوية مجلس الأوقاف الأعلى إبّان إنشائه في سنة 1387هــ، واستمر في عضويته إلى جانب أعماله التي تقلدها حتى بلغ السن النظامي للتقاعد في سنة 1405هـ.
ولم يكن التقاعد عن العمل الوظيفي تقاعدًا عن الأعمال عند الشيخ عبدالله، فها هو يترأس الهيئة الشرعية التي أنشئت للنظر في معاملات شركة الراجحي المصرفية للاستثمار، ومن ثم تصحيح معاملاتها بما يوافق الشريعة، وكانت اللجنة تضم في عضويتها كُلًّا من الشيخ صالح الحصين -نائبًا للرئيس- والشيخ مصطفى الزرقاء، والشيخ عبدالله بن بسام، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ يوسف القرضاوي. وقد تولى أمانة هذه اللجنة الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ عبدالله بن عقيل.
ولما عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة موضوع تحديد حرم المدينة النبوية، رأى المجلس الاكتفاء بقرار اللجنة العلمية الأسبق المؤيَّد من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، والتي كان الشيخ عبدالله بن عقيل مندوبا عنه فيها، وقد رأى مجلس كبار العلماء تشكيل لجنة جديدة لتعيين الحدود على الطبيعة تضم -بالإضافة إلى الشيخ عبدالله بن عقيل- كلًّا من الشيخ عبدالله البسام، والشيخ عبدالله بن منيع، والشيخ عطية محمد سالم، والشيخ أبو بكر الجزائري، والسيد حبيب محمود أحمد، وقد تولى الشيخ عبدالله رئاسة هذه اللجنة، كما تولى سكرتارية اللجنة الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ عبدالله بن عقيل.
وقد فرَّغ الشيخ عبدالله نفسه -منذ أن تقاعد عن العمل الرسمي- للعلم وأهله وطلبته، فلا تكاد تجده إلا مشغولًا بالعلم تعلمًا وتعليمًا، بالإضافة إلى إجابة المستفتين حضوريًّا وعلى الهاتف، حفظه الله وأثابه، ومتع به على طاعته، وأحسن خاتمته.
فضيلة الشيخ عبد الله بن عقيل في حديث الذكريات
أشغلتني الوظائف عن التأليف.. وعلماؤنا لا يولون الإجازات العلمية عناية كبيرة،، يعتبر فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل أحد أهم كبار الشخصيات العلمية القضائية في المملكة العربية السعودية، وعاصر فضيلته نشأة المؤسسات الدينية في البلاد وأسهم في وضع اللبنات الأساسية في مجالات القضاء والإفتاء والدعوة.
وللشيخ عبدالله بن عقيل تجربة ثرية في العلم الشرعي ودور بارز في نشره وتعليمه، كما أن لسماحته إسهاماً كبيراً في تأسيس الصيرفة الإسلامية من خلال ترؤسه للهيئة الشرعية بأحد المصارف الإسلامية.
"الدعوة" ظفرت بدقائق من وقت فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل وأجرت معه حواراً قصيراً وفق ما سمحت به حالته الصحية أمد الله في عمره على طاعته.
نشكر لفضيلتكم إتاحة الفرصة ونأمل تعريف القارئ برحلتهم العلمية والعملية؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فأنا: عبد الله بن عبد العزيز بن عَقيل العَقيل، وُلدت في عنيزة سنة 1335، ونشأت بها في كنف والدي رحمه الله، وكان من مشايخ عنيزة وشعرائها وأدبائها المعروفين، فتعلمت الكتابة ومبادئ العلوم على يديه، وعلى يد أخي الشيخ عقيل قاضي العارضة. ثم دخلت كُتّاب المطوع عبدالعزيز بن دامغ، في مسجد أم حمار، ولما فُتحت مدرسة الأستاذ صالح بن صالح في البرغوش سنة 1348 دخلت معهم في الفوج الأول، وتعلمت فيها ما شاء الله، إلى أن فتح شيخنا عبدالله القرعاوي مدرسة في جانب بيته في سوق الفَرْعي، وذلك بعد قدومه من الهند، وجعل التعليم مجاناً، وكان يعلم في مدرسته العلوم الشرعية والتربية على نمط المدرسة الرحمانية الشهيرة التي درس فيها هناك، فأدخلني الوالد مدرسته، لأنه يعلّم الناس العلوم الشرعية: الفقه والحديث والتفسير والنحو، مع بقية العلوم الأخرى التي تُعلّمها المدارس، فاستفدنا منه علوما وآدابا وأخلاقا، وحفظنا عنده عددا من المتون. بعد ذلك التحقت في دروس الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله، وهو شيخنا وأستاذنا ومعلمنا، وذلك في سنة 1349، وتعلمنا عنده علوماً كثيرة، من الفقه والتوحيد والتفسير والنحو وغيرها. ودرست على غيره من علماء بلدنا عنيزة، مثل قاضيها الشيخ عبد الله بن مانع، والشيخ محمد بن علي التركي، والشيخ سليمان العمري، وأخذت منهم الفقه والعقيدة وغيرهما، بل أدركت الشيخ صالح القاضي واستفدت من خطبه ودروسه بعد الصلوات، في مشكاة المصابيح والتفسير.
متى كان انتقال فضليتكم من عنيزة لمكة؟
• بقيت أطلب العلم في عنيزة إلى آخر سنة 1353، عندما أوعز الملك عبدالعزيز رحمه الله لشيخنا الشيخ عمر بن سليم رحمه الله رئيس قضاة القصيم بأن يختار عدداً من طلبة العلم والمشايخ ليكونوا قضاة ودعاة وأئمة وخطباء في منطقة جازان، فكنت فيمن اختارهم، وكان منهم عمي الشيخ عبدالرحمن بن عقيل، فسافرنا مع الشيخ عمر بن سليم رحمه الله للحج سنة 1353، وحججنا مع الملك عبدالعزيز، وقابلناه مراراً، وحضرنا مجالسه رحمه الله ودروسه التي كان تُلقى في مجلسه بعد صلاة العشاء، وقرأنا هناك على شيخنا ابن سليم مدة بقائه في مكة من ذي القعدة 1353 إلى ربيع الأول 1354هـ. ثم بعد ذلك سافرنا مع عمي إلى جيزان، فتولى القضاء هناك، وكنت أساعده وأقوم بالوعظ والإرشاد، وبقيت إلى سنة 1357هـ.
وبعدها رجعت إلى عنيزة، وواصلت دراستي على شيخنا ابن سعدي، وقرأت في الحديث على شيخنا المعمر علي بن ناصر أبو وادي، وأجازنا بمروياته.
متى بدأت علاقة فضيلتكم بالقضاء؟
• بقينا في عنيزة إلى رجب سنة 1358 وبعدها أُلزمت بالقضاء في جيزان بعد استعفاء عمي الشيخ عبد الرحمن، وبحمد الله استطعت في قصة طريفة أن أحوّر التعيين من قضاء جيزان إلى قضاء أبي عريش، وبقيت فيها قرابة ست سنين، ومنها تنقلت في وظائف قضائية على ما هو مفصل في ترجمتي المذكورة في ثبتي "فتح الجليل"
وملخصها: أنني توليت قضاء أبي عريش من سنة 1358 إلى سنة 1364، تخللها عدة أشهر في قضاء فَرَسان، ثم عدت لعنيزة أطلب العلم على شيخنا ابن سعدي، ثم توليت قضاء الخرج سنة 1365، ثم قضاء الرياض من سنة 1366 إلى 1370، ثم قضاء عنيزة إلى سنة 1375، حيث عينت في دار الإفتاء بالرياض عند شيخنا سماحة المفتي محمد بن إبراهيم، وبقيت ألازمه في العمل، ثم بعد وفاته رحمه الله تعينت سنة 1391 في هيئة التمييز، وبعد سنة لما تأسست الهيئة القضائية العليا عينت عضوا فيها، إلى أن تشكل مجلس القضاء الأعلى سنة 1395، فتعينت عضوا فيه وفي الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، وأنوب عن رئيسه شيخنا عبد الله بن حميد في حياته وبعد وفاته رحمه الله سنة 1402 مدة حتى كُلف وزير العدل بالرئاسة، وتقاعدت سنة 1406، ثم رأست الهيئة الشرعية بمصرف الراجحي منذ تأسيسه سنة 1409 إلى الآن، وهناك أعمال أخرى مذكورة في ترجمتي.
وماذا عن التأليف والكتابة؟
• وأما الإنتاج العلمي فقد انشغلت بالوظائف ثم بالتدريس عن التأليف، ولي رسائل ومؤلفات أكثرها مخطوط، ومما طبع: الفتاوى في مجلدين، ورسالة في حكم الصلاة على الراحلة، كما طبعت رسائل شيخنا ابن سعدي التي كتبها لي، باسم الأجوبة النافعة، ومنها محاضرة طبعت بعنوان: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كما عرفته. وخرّج لي بعض طلابنا رسائل وأربعينات في الرواية الحديثية، منهم الشيخ محمد زياد بن عمر التكلة، ألف كتابا كبيرا في ترجمتي وثبت مروياتي، اسمه: فتح الجليل، وله رسالة مختصرة في مروياتي اسمها النوافح المسكية، ومنهم المشايخ: صالح العصيمي، ومحمد بن ناصر العجمي، وبدر العتيبي، وباسل الرشود، جزاهم الله خيرا.
وجمع أخونا الشيخ محمد زياد عدداً من مقالاتي والمقابلات التي أجريت معي وأعدها للطبع. وطبع الشيخ الدكتور وليد المنيس كتابين عن وقائع رحلاته إلي مع زملائه من مشايخ الكويت، أسمى الأول بالإكليل، ثم ألحقه بكتاب: التكميل.
أسأل الله أن ينفع بهذه الجهود ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.
ما هي نصيحتكم لطالب العلم المبتدئ؟
• نصيحتي أولا وآخرا تقوى الله تبارك وتعالى، والحرص على البدء بالقرآن الكريم حفظا وتدبراً، ويبدأ على المشايخ بالسلّم العلمي التدريجي المعروف، ويعتني بالمتون، والتحضير للدروس، فبها يحصل الفهم والتحصيل وترسخ المعلومات، ويصبر على الطلب، ولا يستعجل النتائج. وعليه بحفظ الوقت، فهو رأس مال المرء، كما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله:
الوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه
وأراه أسهلُ ما عليك يَضيعُ
وعلى طالب العلم التحلي بالأخلاق الحسنة، وبذل النصح للجميع، والحرص على نفع إخوانه، فالعلم كما قال الشاعر:
يَزيد بكثرة الإنفاق منه
ويَنقص إن به كفًّا شَددتا
وعليه بالعمل بما علم، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، وقالوا: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. ويحذر من الرياء والكبر والعجب، فإنها وبال على صاحبها، وتقود للحرمان والخسران.
ما هو توجيهكم لطلاب العلم في الاهتمام بالسنّة؟
• إن العلم الشرعي يعتمد على الكتاب والسنّة، فبقدر علم الإنسان فيهما تكون منزلته، والتفقه دون العناية بالدليل يعتبر علما ناقصا، بل هو تقليد محض، ولا يميّز المقلّد بين الخطأ من الصواب من كلام العلماء، لأنهم رحمهم الله بشر غير معصومين. ثم إن تطلب الدليل يقتضي معرفة الصحيح من الضعيف.
ولذلك فعلى طالب العلم أن يهتم بمعرفة دليل المسألة وتعليلها، ويهتم بصحة الحديث والأثر، ويستعين بمصنفات وتخريجات العلماء الذين خرجوا الأحاديث الفقهية، ومنهم الألباني في إرواء الغليل وغيره.
الصحابة رضي الله عنهم الذين عاصروا التنزيل ولازموا رسول الله صلي الله عليه وسلم في السفر والحضر هم أعلم من غيرهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهمية قول الصحابي في الترجيح؟
• قال العلماء: إن الراوي أدرى بمرويه، وهذا واضح، فالصحابي هو شاهد وقائع التشريع، ورأى ملابسات الحادثة، أو سمعها من غيره من الصحابة، وهم القرون المفضلة، وأقرب الناس بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا التطبيق العملي للسنّة وكيف كان التعامل معها واقعيا، ثم فيهم من الديانة وصفاء النفس واللغة ما يفوق مَنْ بعدَهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
الإجازات العلمية:
يهتم بعض طلاب العلم ويسعى جاهداً في الحصول على الإجازات من الشيوخ، ونعلم أن لكم في هذا اهتماماً مميزاً، ما قيمة هذه الإجازات في مسيرة الطالب العلمية؟
• الرواية من سنن السلف وطرائق أهل العلم قديما وحديثا، وهي أنواع كما هو مفصّل في المصطلح، وأعلاها القراءة والسماع، وهذا أكثر ما ينبغي أن يحرص عليه طالب العلم، وهو الأنفع، ومن أنواعه الإجازات، وطالب العلم يقدّم الأهم على المهم، فيصرف همّته أولا إلى العلم الشرعي، ثم يأخذ الرواية ولا يجعلها أكبر همّه، ولا يكتفي بمجرد الرواية فقط، أو تعدد الإجازات، بل يهتم بالدراية.
والإجازات إن صدرت من عالم معروف مهتم بالسنّة لطالبٍ لازمه طويلا وحصّل عنده تُعتبر أشبه بالتزكية العلمية، وما كان سوى ذلك فهي رواية تحمّل.
وأنا لم أهتم لها كثيرا أول الأمر، فأول ما أخذت الرواية بحديث المحبة فقط من شيخنا القرعاوي قبل ثمانين سنة، في 10 شعبان سنة 1349، هو ابتدأنا، ثم أجازنا بعد ذلك بمدة، وكانت إجازة شيخنا أبو وادي بسعاية شيخنا عبد الله المطرودي رحمه الله، ولم يكن مشايخنا يولون الإجازات عناية كبيرة، وغالب إجازاتنا تأخرت عن ذلك، مثل إجازة الشيخ عبد الحق الهاشمي رحمه الله، ومَن بَعده.
الأمة والتحديات:
إن الأمة الإسلامية تواجه اليوم تحديات ومؤامرات وكيداً وتشويهاً لدينها ونبيها بل لقرآنها قد تترك أثراً سلبياً على بعض أفراد أبنائها ما توجيهكم حيال هذه الحملات؟
• منذ بزغ نور الإسلام ومنذ أكرم الله البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والأعداء لا يفترون عن محاربته والكيد له بشتّى الوسائل، ولكن الله حافظٌ دينه، وسيبقى قائماً حتى تقوم الساعة إن شاء الله، وسبيل النجاح والفلاح هو الاعتصام بحبل الله جميعا، وعدم التنازع، وإعداد القوة بجميع سبلها، ومنها العلم الشرعي والدعوة؛ وتنبيه المسلمين وإعادتهم إلى المحجة البيضاء، على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتصفية الدين من كل الشوائب الدخيلة من بدع وأفكار، وتزكية الأنفس، فالأعداء لا يحاربوننا بسلاح الجيوش فقط، بل بسلاح التجهيل والشهوات والشبهات والغزو الفكري، ولكن الله ناصر دينه ولو كره الكافرون.
المصدر: نشر الحوار في مجلة الدعوة، العدد : 2181 الخميس 24 صفر 1430هـ