الأهرام : لعلنا في هذه الآونة أحوج ما نكون إلي أن نستعيد إلي الذاكرةـ عبارة الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام والنصرانية) تلك العبارة التي استعاذ فيها بالله تعالي من السياسة, ومن لفظ 'السياسة' ومعناها, ومن كل حرف يلفظ فيها, بل ومن ساس ويسوس ومشتقاتها!. وفي هذا المقام تأملات أربعة نجملها فيما يلي:
أولا: إن أكبر الظن أن هذه الاستعاذة من الأستاذ الإمام لم تكن نفورا من السياسة بالمعني السديد القويم الذي قصد إليه حجة الإسلام الغزالي في قوله (إنها ـ أي السياسة ـ استصلاح الخلق بإرشادهم إلي طريق النجاة في الدنيا والآخرة) كما لم تكن أيضا نفورا من السياسة الشرعية ـ كما يدعوها كثير من علماء المسلمين ـ تلك التي ينصب اهتمامها علي توجيه سلوك البشر بما يتفق مع قطعيات الشريعة ومقاصدها الرفيعة, بل إن أكبر اليقين أن استعاذة الأستاذ الإمام إنما هي من لعبة السياسة حيث المجال الفسيح للتوازنات والمقايضات والمناورات أيا كان نصيبها من الزيف والبهتان, وحيث يباح فيها كل ما ليس بمباح; حتي الكذب الصراح, والإفك البواح.
ثانيا: لو أن لعبة السياسة قد وقفت بلاعبيها عند هذا الحد فربما هان الخطب, ولكن هؤلاء اللاعبين يقومون 'باستدعاء' نصوص الكتاب والسنة بقدسيتها وعلويتها, وكذا أحداث السيرة النبوية العطرة بمهابتها وجلالتها ووقعها في القلوب, ثم توظيفهما جميعا توظيفا فجا في مستنقع السياسة الآسن; استدرارا لعواطف الجماهير وإثارة لانفعالاتهم, ثم توجيههم بوساطتها ـ بعد أن أصبحوا أدوات طيعة بايديهم ـ إلي ما يشتهون. وتأخذ منك الدهشة مأخذها حين يعمد هؤلاء اللاعبون إلي الآيات الكريمة, فإذا بالآيات التي تحمل وعدا ـ للنبي والصحابة ـ بالنصر وقد أصبحت ـ بفهمهم الكليل ـ وعدا مقفلا مقصورا عليهم خاصا بهم لا يتعداهم; وإذا بالآيات التي تحمل وعيدا لأعداء النبي وصحبه وقد أمست ـ بفهمهم هذا ـ وعيدا مقفلا أيضا علي من خالفهم, في اجتراء جلي علي هتك حجاب الغيب المكنون, الذي مرجعه إلي علام الغيوب, وحده ودون سواه. ثم إذا بأحداث السيرة العطرة ـ في تصورهم الكليل, وقد أصابها, علي أيديهم التحوير والتبديل مدعومة برؤي مدعاة وخوارق مزعومة, لكي تبدو أحداثها في عيون البسطاء السذج وكأنها تشهد لهموحدهم بالفوز والانتصار وتشهد علي من عداهم بالخسران والبوار.
إن أسلافنا من المحققين كانوا يحذرون 'من أن يتأول المتأولون القرءان الكريم بشيء يعرض من أمر الدنيا'كما يقرر صاحب الإتقان; بل إن أسلافنا من المحققين قد فطنوا إلي أن مبعث فتنة الخوارج علي الإمام علي, رضي الله عنه, هو أنهم كانوا يعمدون إلي الآيات التي نزلت في الكفار فيسقطونها علي أهل الإسلام ويستحلون بذلك دماءهم وأعراضهم وحرماتهم! وهكذا يفعل أخلافهم حتي يوم الناس هذا; فإذا بهم يجترئون علي الاتهام بالخروج علي الملة لكل من خالف ما يعتقدون, في غفلة عن قوله: (أيما أمريء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما, إن كان كما قال, وإلا رجعت عليه) رواه البخاري ومسلم.
إن المرء ليأخذه العجب من هذا التوظيف المغرض للنصوص القرءانية والأحاديث في غير موضعها, ومن الاستخدام العليل لأحداث السيرة النبوية العطرة علي غير وجهها; وكأن فقه النصوص علي النحو الذي شيد أركانه علماء المسلمين في شتي عصورهم: قد غاب عن الأذهان, بل وكأن التراث الإسلامي المحقق قد أضحي نهبا مستباحا لكل من يبتغي أن يلبس الحق بالباطل, وأن يخلط الصدق بالزيف.
ثالثا: ثم إن المرء ليأخذ منه العجب كل مأخذ حين تأخذ لعبة السياسة بتلابيب لاعبيها, فتتحول السياسة الشرعية, التي أجملنا ملامحها منذ قليل, علي يديهم إلي استغراق في عشق السلطة, وولع بأهداب الحكم مهما كان السبيل إلي ذلك من دماء وأشلاء, وبدلا من بذل الجهد واستفراغ الوسع في إصلاح البشر, واستلال بواعث الانحراف من دخائلهم الخافية, وعلاج دوافع الفساد في ذواتهم الباطنة فإذا: بعشق السلطة والولع بالحكم وقد أصبحا عندهم الهدف الأسمي والمقصد الأسني; في غفلة عن أن السلطة والحكم في الإسلام إنما يمثلان مجرد وسيلة إلي الإصلاح الحقيقي في دنيا البشر, وإلي ترسيخ القيم الشرعية والخلقية في دخائلهم; بينما تمثل السياسة الشرعية الحقيقية: الهدف الأسمي والغاية المثلي, فإذا بتلك الغاية الرفيعة وقد أصبحت في الدرجة الأدني من الأهمية, بينما انقلبت الوسيلة, أعني السلطة والحكم, إلي أن تكون الغاية القصوي والهدف الأوحد الذي تبذل في سبيلها الدماء وترخص الأرواح!
رابعا: إن الإسلام ليس 'سلطة وحكما' فقط, بل إنه ليس نظاما اجتماعيا فحسب; بل هو منجزات حضارية, وثمرات عقلية فكرية, وخفقات مشاعر, إنه عصارة عقول, وسواعد, وقلوب; بل ربما كانت تلك الجوانب تحمل من النور والهدي ما يلبي أشواق البشرية إلي الحرية والعدل والتقدم; وهي الجوانب التي يحملها الإسلام إلي الناس جميعا علي اختلاف ألسنتهم وألوانهم, ويستشرف بها إلي البشرية المعذبة بما يبشرها بالفردوس المفقود الذي يحلم به الظامئون إلي العدل والحرية والسلام في كل مكان.
بقلم : د. محمد عبدالفضيل القوصى
أولا: إن أكبر الظن أن هذه الاستعاذة من الأستاذ الإمام لم تكن نفورا من السياسة بالمعني السديد القويم الذي قصد إليه حجة الإسلام الغزالي في قوله (إنها ـ أي السياسة ـ استصلاح الخلق بإرشادهم إلي طريق النجاة في الدنيا والآخرة) كما لم تكن أيضا نفورا من السياسة الشرعية ـ كما يدعوها كثير من علماء المسلمين ـ تلك التي ينصب اهتمامها علي توجيه سلوك البشر بما يتفق مع قطعيات الشريعة ومقاصدها الرفيعة, بل إن أكبر اليقين أن استعاذة الأستاذ الإمام إنما هي من لعبة السياسة حيث المجال الفسيح للتوازنات والمقايضات والمناورات أيا كان نصيبها من الزيف والبهتان, وحيث يباح فيها كل ما ليس بمباح; حتي الكذب الصراح, والإفك البواح.
ثانيا: لو أن لعبة السياسة قد وقفت بلاعبيها عند هذا الحد فربما هان الخطب, ولكن هؤلاء اللاعبين يقومون 'باستدعاء' نصوص الكتاب والسنة بقدسيتها وعلويتها, وكذا أحداث السيرة النبوية العطرة بمهابتها وجلالتها ووقعها في القلوب, ثم توظيفهما جميعا توظيفا فجا في مستنقع السياسة الآسن; استدرارا لعواطف الجماهير وإثارة لانفعالاتهم, ثم توجيههم بوساطتها ـ بعد أن أصبحوا أدوات طيعة بايديهم ـ إلي ما يشتهون. وتأخذ منك الدهشة مأخذها حين يعمد هؤلاء اللاعبون إلي الآيات الكريمة, فإذا بالآيات التي تحمل وعدا ـ للنبي والصحابة ـ بالنصر وقد أصبحت ـ بفهمهم الكليل ـ وعدا مقفلا مقصورا عليهم خاصا بهم لا يتعداهم; وإذا بالآيات التي تحمل وعيدا لأعداء النبي وصحبه وقد أمست ـ بفهمهم هذا ـ وعيدا مقفلا أيضا علي من خالفهم, في اجتراء جلي علي هتك حجاب الغيب المكنون, الذي مرجعه إلي علام الغيوب, وحده ودون سواه. ثم إذا بأحداث السيرة العطرة ـ في تصورهم الكليل, وقد أصابها, علي أيديهم التحوير والتبديل مدعومة برؤي مدعاة وخوارق مزعومة, لكي تبدو أحداثها في عيون البسطاء السذج وكأنها تشهد لهموحدهم بالفوز والانتصار وتشهد علي من عداهم بالخسران والبوار.
إن أسلافنا من المحققين كانوا يحذرون 'من أن يتأول المتأولون القرءان الكريم بشيء يعرض من أمر الدنيا'كما يقرر صاحب الإتقان; بل إن أسلافنا من المحققين قد فطنوا إلي أن مبعث فتنة الخوارج علي الإمام علي, رضي الله عنه, هو أنهم كانوا يعمدون إلي الآيات التي نزلت في الكفار فيسقطونها علي أهل الإسلام ويستحلون بذلك دماءهم وأعراضهم وحرماتهم! وهكذا يفعل أخلافهم حتي يوم الناس هذا; فإذا بهم يجترئون علي الاتهام بالخروج علي الملة لكل من خالف ما يعتقدون, في غفلة عن قوله: (أيما أمريء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما, إن كان كما قال, وإلا رجعت عليه) رواه البخاري ومسلم.
إن المرء ليأخذه العجب من هذا التوظيف المغرض للنصوص القرءانية والأحاديث في غير موضعها, ومن الاستخدام العليل لأحداث السيرة النبوية العطرة علي غير وجهها; وكأن فقه النصوص علي النحو الذي شيد أركانه علماء المسلمين في شتي عصورهم: قد غاب عن الأذهان, بل وكأن التراث الإسلامي المحقق قد أضحي نهبا مستباحا لكل من يبتغي أن يلبس الحق بالباطل, وأن يخلط الصدق بالزيف.
ثالثا: ثم إن المرء ليأخذ منه العجب كل مأخذ حين تأخذ لعبة السياسة بتلابيب لاعبيها, فتتحول السياسة الشرعية, التي أجملنا ملامحها منذ قليل, علي يديهم إلي استغراق في عشق السلطة, وولع بأهداب الحكم مهما كان السبيل إلي ذلك من دماء وأشلاء, وبدلا من بذل الجهد واستفراغ الوسع في إصلاح البشر, واستلال بواعث الانحراف من دخائلهم الخافية, وعلاج دوافع الفساد في ذواتهم الباطنة فإذا: بعشق السلطة والولع بالحكم وقد أصبحا عندهم الهدف الأسمي والمقصد الأسني; في غفلة عن أن السلطة والحكم في الإسلام إنما يمثلان مجرد وسيلة إلي الإصلاح الحقيقي في دنيا البشر, وإلي ترسيخ القيم الشرعية والخلقية في دخائلهم; بينما تمثل السياسة الشرعية الحقيقية: الهدف الأسمي والغاية المثلي, فإذا بتلك الغاية الرفيعة وقد أصبحت في الدرجة الأدني من الأهمية, بينما انقلبت الوسيلة, أعني السلطة والحكم, إلي أن تكون الغاية القصوي والهدف الأوحد الذي تبذل في سبيلها الدماء وترخص الأرواح!
رابعا: إن الإسلام ليس 'سلطة وحكما' فقط, بل إنه ليس نظاما اجتماعيا فحسب; بل هو منجزات حضارية, وثمرات عقلية فكرية, وخفقات مشاعر, إنه عصارة عقول, وسواعد, وقلوب; بل ربما كانت تلك الجوانب تحمل من النور والهدي ما يلبي أشواق البشرية إلي الحرية والعدل والتقدم; وهي الجوانب التي يحملها الإسلام إلي الناس جميعا علي اختلاف ألسنتهم وألوانهم, ويستشرف بها إلي البشرية المعذبة بما يبشرها بالفردوس المفقود الذي يحلم به الظامئون إلي العدل والحرية والسلام في كل مكان.