الحلقة الثامنة والعشرون
الجـوع
برغم التطورات العلمية المذهلة سواء في مجال الفضاء أو في مجال التكنولوجيا الصناعية أو في مجال الإتصالات أو غيرها من المجالات والتي تعطي بدورها انطباعا عن إنسان العصر الحديث بأنه قد حقق الرفاه ، مقارنة بأجيال أخرى عاشت على الأرض طيلة القرون الماضية ، إلا أننا ويا للعجب نتابع عن كثب – باعتبار أن العالم أصبح قرية صغيرة - أنواع من الأزمات التي تطعن في صميم اتجاهاتنا الأخلاقية ، ومن أسوا ما يمكن متابعته هو أن هناك ملايين من البشر تموت جوعا.
المشكلة لا تكمن في ضعف المواثيق الدولية التي تكفل للإنسان – أي إنسان – الحق في الحياة ، فهناك الكثير من البنود مثل ما نص عليه في الإتفاق الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية, الاجتماعية و الثقافية 1966 بالمادة 11
(تؤكد على حق الجميع إلى مستوى معيشة كافي لنفسه و عائلته,بما في ذلك توفر غذاء كاف ... و التحسن المستمر للأوضاع المعيشية)
يموت الناس جوعا لأسباب عدة منها الكوارث الطبيعية كالفيضانات والأعاصير والتصحر والجفاف وبسبب الحروب أيضا ، وفي كل الأحوال يظل الموت جوعا مسئولية على كل الأحياء ، يموت يوميا بسبب الجوع 25000 إنسان .. وهو رقم مرعب ومخجل .. رغم أن الموارد الغذائية الموجودة بالأرض قادرة على إطعام ضعف عدد سكانها
أشار تقرير صادر عن المعهد العالمي لأبحاث السياسات الغذائية إلى أن ما ينفقه العالم على التسلح في أسبوع واحد يكفي لحل مشكلة المجاعة في أرجاء المعمورة، وقال: "إنه بزيادة إنفاق قدرها 10 بلايين دولار سنويا -أي ما يعادل الإنفاق العسكري العالمي لأقل من أسبوع- يمكن تخفيض نسب سوء التغذية في العالم بنسبة 42%" .
كما توجد مؤسسات غربية تعمل على محاربة الجوع ويذهب ناشطوها إلى مناطق المجاعات لغوث الناس بالطحين والماء الصالح للشرب وباللقاحات ، فكذلك توجد مؤسسات إسلامية ذات غرض إغاثي وخيري بحت ، الأنشطة الإسلامية الإغاثية لا تتحرك من خلال أجندة دعوية ، إذ أن الدين الإسلامي يعد المسلم بجزاء وافر على إطعام الجوعى بصرف النظر عمن هم ومن أي دين ، ولا تسمح تعاليم الإسلام بابتزاز الجائعين وإغرائهم لاعتناق الدين الإسلامي ، ويعتبر المسلمون مساهماتهم في هذا المضمار الخيري عملا إنسانيا لإعطاء الجوعى فرصة للحياة ، كما أنه يعتبر بالنسبة للأشخاص الطبيعيين والإعتباريين منهم هو اداء لفرض تفرضه تعاليم الدين . أي إنه شكل من أشكال العبادة لله يجب أن يؤدى ، وعليه فالجهات الإسلامية الإغاثية تعمل وفقا لهذا المفهوم بدون تسييس للإغاثة .
الإسلام لا يعتبر إطعام الجوعى عملا تطوعيا ، ولا يجعل الإنسان في حل من المساءلة أمام الله عن الموتى جوعا ولو صلى ولو صام . وفي القرآن كان من ضمن السجل الأسود للمعذبين في جهنم هو عدم إطعامهم للمساكين ، البند الثاني مباشرة بعد الصلاة “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ” (1)
وفي آية أخري كان السبب في التعذيب في جهنم عدم الحض على إطعام المسكين ، بعد عدم الإيمان بالله مباشرة
(خذُوهُ فَغُلُّوه. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) (2) .
لقد جعل النبي محمد ( ) الزراعة نفسها - رغم أنها حرفة اقتصادية - وسيلة عظيمة لاكتساب رضا الله ، ليس لإطعام البشر وحدهم ولكن لشركائهم في الأرض أيضا ، لقد قال (من غرس غرسا أو زرع زرعا فأكل منه إنسان أو سبع أو دابة أو طير إِلا كان له به صدقة ) ، بل وسئل مرة عن أي أعمال الإسلام خير فابتدر بإطعام الطعام .
وفي الإسلام كفارة بعض أنواع الذنوب هي إطعام المساكين ، وسواء صدقات مقدمة أو كفارة لأخطاء يكون الطعام مما يأكل منه المتصدق أو المكفٍر عن ذنبه .
بل أن النبي محمد( ) جعل من شبع وجاره جاره خارجا عن الجماعة الإسلامية ، جاره على العموم وليس جاره المسلم ( ليس منا من بات شبعانا وجاره جائع وهو يعلم )
إن هذا الحديث خطير جدا إذا وضعنا في حسباننا أن الأرض أصبحت قرية صغيرة بفعل ثورة الإتصالات ، إن هذا يضع معنى موجع للجوار وللمسئولية عن الجوع ، هذا الحديث إذا أُخذ في الحسبان فإنه يعني أنه يتساقط حولنا في ذات قريتنا الصغيرة 25000 جائعا يوميا ، إن الحديث يضيف دلالة مؤلمة لصغر العالم نتيجة ثورة الإتصالات ، بجانب الدلالة الحالية التي رسختها الشركات الكبرى ، ألا وهي سرعة النفاذ للأسواق .
________________________________________
(1) المدثر 38 -44 (2) الحاقة 30 -34