الرياض (واس) : سجّلت محافظة جدة إرثاً زاخراً بشواهد الماضي العريق، وإيقاعات العصر المتطور بلغة الحاضر الجديد من خلال الجمع بين المتاحف العامة والخاصة، والكورنيش، وسور جدة التاريخي، وعالم الترفيه والرياضة المتمثلة في الغوص.
وتقف منطقة جدة التاريخية شامخة في مقدمة المتاحف المفتوحة التي تمثل الأبنية التراثية القديمة، وأساليب الحياة البسيطة بجانب المواقع التاريخية من مساجد أثرية وأسواق شعبية يرتادها أهالي جدة وزوارها ليستمتعوا بعراقة العادات القديمة.
ويقف متحف قصر خزام شامخاً ضمن قصر الملك عبد العزيز كأحد أهم المتاحف، مُعبراً عن الجمال المعماري كأول مبنى شُيد بالأسمنت المسلح قبل 85 عامًا، حيث قضى به الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - جانبًا من حياته العملية واستخدمه ديوانًا يستقبل فيه ضيوف الدولة وكبار المسؤولين وعامة الشعب، ويعد تراثاً معماريًا لمباني جدة في فترة مبكرة من التطوير العمراني.
وشهد القصر توقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن البترول بين حكومة المملكة العربية السعودية وشركة ستاندر أويل أوف كاليفورنيا في العام 1352هـ، واتفاقيات إقامة علاقات دبلوماسية بين المملكة والعديد من الدول، ويوجد به مكتب ومجلس ومصلى الملك عبد العزيز - رحمه الله -، كما استخدمه الملك سعود بعد وفاة المؤسس مكاتب إدارية حتى العام 1384هـ، ومن ثم ضُم بعد ذلك إلى قصر الضيافة.
وقد أنشأ الملك عبد العزيز - رحمه الله - عقب دخوله جدة أول رصيف بحري أمام مبنى البنط ترسو عنده المراكب بعد أن زار البنط، ووجد أن المنطقة التي ينزل بها الحجاج من المراكب ترابية وسبخه قبل دخولهم إلى البنط، فأمر بإنشاء الرصيف الذي يعد أول رصيف بحري بجدة، حيث أزيل الرصيف بعد التمدد العمراني ونقل الميناء إلى موقعه الحالي.
واكتسب مركز الملك عبد العزيز الثقافي "متحف أبرق الرغامة" شهرة واسعة لارتباطه بتاريخ المملكة، حيث شكل الموقع آخر نقطة وقف فيها الملك عبد العزيز - رحمه الله -، قبل دخول جدة وهو يقود مسيرة توحيد المملكة، فقد عسكّر الملك عبد العزيز بجيشه بهذا المكان ودخل جدة في سلام.
ويقع المتحف على مساحة 150 ألف متر مربع يُخلّد ذكرى دخول الملك عبد العزيز إلى جدة، ويحتوي على مبانٍ وساحات مفتوحة ومناطق خضراء ومداخل تتضمن المبنى الرئيس الذي يرمز إلى رباط الملك عبد العزيز، بموقع أبرق الرغامة، فيما ترمز الواجهة العليا بمكوناتها من السور والراية إلى مفهوم توحيد المملكة.
وتحتضن مدينة جدة سوق العلوي التاريخي الذي يضم البيوت التجارية من دكاكين العطارة والتوابل، لسوق العلوي أريج أخاذ يميزه عن باقي الأسواق التاريخية القديمة بجدة الأمر الذي يجعله يُعرف من قبل المرتادين بمجرد دخولهم السوق.
ويعد سوق العلوي همزة الوصل ما بين الميناء وباب مكة، وكان الحجيج ينطلقون من الميناء إلى باب مكة عن طريق سوق العلوي وفي عودتهم يدخلون من باب مكة إلى العلوي، ثم إلى الميناء وذلك عندما كانت قوافل الجمال تستخدم في نقل الحجاج آنذاك.
ومن بين المعالم البارزة بجدة متحف "بيت نصيف الأثري" أحد المعالم الأثرية بوسط جدة التاريخية، يحكي عن حقبة تاريخية من حقب التطوير المعماري القديم بجدة، يعود تاريخ بنائه إلى قبل 150 عاماً، حيث توجد أمام البيت شجرة النيم التي تعد الأولى بمدينة جدة منذ 70 عاماً، وتكمن أهميته منذ أن سكن به الملك عبد العزيز - رحمه الله - عقب دخوله جدة بضيافة صاحب البيت عمر أفندي نصيف الذي أهدى البيت للدولة التي قامت بترميمه.
وشهد "بيت نصيف الأثري" اتفاقية تسليم جدة، والعديد من اتفاقيات العلاقات والتعاون التي أبرمها الملك عبد العزيز آنذاك مع العديد من مبعوثي وسفراء عدد من الدول الصديقة.
ويحتوي البيت على العديد من التحف والصور القديمة والمجالس الجداوية التراثية والمشغولات اليدوية والحرفية والعديد من الأسلحة القديمة النادرة، كما يُنظم بالبيت العديد من المعارض التراثية لمختلف مناطق المملكة .
وتضم مدينة جدة أيضًا العديد من المتاحف العلمية كمتحف جامعة الملك عبد العزيز، ومتحفي كلية علوم البحار وكلية علوم الأرض، والعديد من المتاحف الخاصة المغلقة أبرزها متحف "مدينة الطيبات" الذي يعد أكبر المتاحف بجدة ويشكل مدينة تراثية مغلقة تقع على مساحة 10 آلاف متر مربع، وتضم أكثر من 14 ألف قطعة أثرية وتراثية موزعة على 67 قاعة تضم بيت التراث العربي والسعودي ومعرض للملابس والحرف التقليدية.
ويتكون المتحف من عدة مبانٍ رئيسة تمثل واجهة المتحف من الخارج ويحتويها سور خارجي صمم لتمكين المشاهد من رؤية الأعمال الخارجية للمتحف بكل سهولة، حيث يضم المتحف 19 وحدة، و15 نافورة متصلة ببعضها بجدول المياه المتحركة، ويعلو المتحف 9 مآذن بارتفاعات مختلفة والعديد من الأعمال الخشبية والجبسية والحجرية بمختلف أشكالها وأنماطها وتعكس حركة الإنسان داخل جدة القديمة.
ويجسّد متحف "صفية بن زقر" المزين باللوحات الفنية تراث جدة والعادات والتقاليد، فيما يحتوي متحف "قلعة الفنون التراثية" على مقتنيات أثرية وتراثية وأزياء تقليدية ومكتبة أدبية تضم مجموعة من الكتب والصحف والمجلات القديمة، ومجموعة من أشرطة الكاسيت والأسطوانات والآلات والأجهزة الموسيقية.
ويضم متحف الفنان التشكيلي الدكتور عبد الحليم رضوي العديد من اللوحات الفن التشكيلي الزيتية والمائية والمعدنية والخشبية والعديد من المجسمات الفنية، كما يعرف "متحف الفنون المنزلية" بطريقة عرض الفن المنزلي وكيفية إظهار الإبداع في تنسيق المقتنيات والألوان، وتضم مدينة جدة العديد من المتاحف التراثية الخاصة والعديد من المتاحف العلمية والثقافية الفلكية والبحرية بالترفية.
ويعد "سور جدة" من المعالم التي تُميّز مدينة جدة، حيث يقف شامخاً شاهداً على تاريخها القديم قبل وبعد بناء سورها المشهور، والتغيّر الذي شهدته المنطقة حتى أصبحت على ما هي عليه في الوقت الحاضر، الذي يعود تاريخ بداية جدة قبل بناء السور في الفترة من العام 26هـ و حتى 366 هـ التي بدأت فيها قرية صغيرة أنشأها الصيادون الذين أتوا إلى جدة وكوّنوا اتحاداً بينهم وبين صيادي المنطقة، وبدأت جدة التاريخية في الاتساع كمساكن بدائية من الجهة الغربية على البحر آخذةً في التوسع ناحية الجهة الشرقية لارتفاعها عن البحر، وبعدما انتقلت "الفرضة" في عهد الخليفة الراشد "عثمان بن عفان" رضي الله عنه إلى جدة وتحويل تلك القرية الصغيرة "جدة" إلى ميناء رئيس لمكة المكرمة، بدأت في الاتساع مع الأحداث المتلاحقة لها عبر العصور الأولى كميناء بحري لمكة المكرمة يستقبل الحجيج والمعتمرين قبل بناء سورها الأول.
ويحكي "سور جدة" إنشاء أول سور في جدة في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي وأصبحت جدة التاريخية قوة رباط وحامية لمكة المكرمة، واستمرت المدينة القديمة على هذا النحو قرابة ستة قرون إلا من بعض التوسع اليسير والردم من جهة البحر.
وكانت نهاية السور البحري عند منطقة رأس الضف البحري المرتفع في المنطقة الغربية لشارع الذهب حالياً عند مينائها القديم "أوقاف المعمار" شرق شارع الذهب، وتم التجديد الحديث للسور في عهد الملك المؤسس - رحمه لله - عام 1354 هـ حين جدد "الفرضة" ببناء جديد وكون ميناءً بمقاييس حديثة في عهده.
وتمتاز محافظة جدة بالواجهات البحرية التي أسهمت في تشكيل نطاق المحافظة، كان من أبرزها الكورنيش الشمالي بمراحله الأولى والثانية والثالثة الحائز على جوائز مشروعات الشرق الأوسط الكبرى بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ويتضمن الكورنيش الأوسط متحفاً مفتوحاً للمجسمات الجمالية سُجل في موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية كأكبر متحف مفتوح في العالم، فيما يتميز كورنيش السيف بجمال فريد من نوعه، يتجلى في الزراعة، والتشجير، والممرات الانسيابية ذات التصميم الحديث والمبتكر.
ويستوعب كورنيش جدة 120 ألف نسمة، لاحتوائه على 17 منطقة بلازا، و14 نافورة، و5 أبراج مراقبة للشواطئ، و5 مبانٍ مرشحات لخدمة مرتادي مناطق السباحة، إضافة إلى التاكسي البحري من خلال إنشاء "مارين" مخصص للقوارب وملاعب ومجسمات جمالية وجسر مشاة حديدي معلق يربط بين الكورنيش وشارع الأمير فيصل بن فهد بطول 650 متراً.
كما يحتوي على إنارة أرضية و3 منحدرات للصعود لاستخدام المشاة وذوي الاحتياجات الخاصة وسلمين للطوارئ، بالإضافة إلى أنه يحوي رصيفاً بحرياً لصيد الأسماك بطول 125 متراً داخل البحر وغرفة اتصالات وتحكم تخدم جميع مراحل تطوير الكورنيش، وأماكن ترفيهية تناسب جميع الأعمار وألعاب تعليمية للأطفال بجوار الألعاب التقليدية إلى جانب منطقة خاصة بالمطاعم والعربات المتنقلة وأماكن للجلوس التي تم تصميمها على هيئة "الجلد" في شكلها الخارجي، إلى جانب إنارة أعمدة المشروع بالكامل بإضاءات الـ LED توفيراً لاستهلاك الكهرباء.
فيما يتميز كورنيش جدة بوجود 12 نافورة منها 4 نوافير تفاعلية و8 نوافير عادية وحديقة ألعاب مائية، ومسافة الطرق بالمشروع تصل لحوالي 9.4 كيلو متر، ويتضمن الكورنيش مواقف للسيارات تستوعب 1600 سيارة، فضلاً عن نظام التحكم والمراقبة والإنذار وشبكة مراقبة بالكاميرات لجميع مسطح المشروع بعدد 96 كاميرا ودورات مياه يصل عددها لحوالي 100 دورة مياه عامة روعي فيها الوصول الشامل منها 20 دورة مياه ذكية مدفوعة الأجر.
ويشتمل الكورنيش على ساحات للتنزه يصل عددها إلى 17 ساحة موزعة بإجمالي 247 ألف متر مربع وتستوعب 54 ألف شخص، وبها أماكن للجلوس ومساحات للاستثمار وأماكن مخصصة للصلاة ومظلات ومناطق ألعاب للأطفال بمسطح 8 آلاف متر مربع من ضمن الساحات الرئيسة، وتعد أكبر ساحة تنزه مفتوحة على شواطئ جدة بمساحة 53 ألف متر مربع، إلى جانب ضمه لـ 12 مجسماً جمالياً لفنانين سعوديين و25 "كشكاً" بتصميمات موحدة وبعيدة عن البحر بحوالي 15 متراً حتى لا تحجب الرؤية عن الزائرين إضافة لتميز المشروع بوجود حواجز حديدية تطل على البحر مباشرة بارتفاع 120 سنتمترًا .
ويتضمن الكورنيش وجود الجدار البحري بطول 4580 مترًا طوليًا، منشأ على كامل طول ممشى الكورنيش ويتكون من جدار خرساني أعلى قاعدة خرسانية شريطية، ويوجد حجارة متدرجة الأوزان أسفل القاعدة، والجدار معزول بواسطة مادة تسمى pvc غير منفذة تماماً للمياه كما يوجد طبقة من الأحجار أمام الجدار للحماية من البحر.
ويضم الكورنيش رصيفًا لصيد الأسماك والعبارة وسقالة صيد بطول 125 متراً طولياً ومتوسط عرض 50 متراً على الواجهة البحرية، يوجد بها 15 مظلة و6 جلسات مظللة والأرضيات من الخشب الصناعي ومرسى للصيد بمساحة 2450 متراً مربعاً بطاقة استيعابية للمرسى بنحو 814 فرداً، وإنشاء بنية تحتية تخدم كامل مسطح المشروع مع الربط على شبكات البنية التحتية المنفذة، وتتألف من شبكة تصريف السيول والأمطار بطول 14 كيلو متراً من خطوط رئيسة وفرعية ومصبات باتجاه البحر.
كما يشتمل كورنيش جدة على مرفأ مراكب التنزه مكون من جزئيين شمالي وجنوبي بمساحة 1800 متر مربع، ورصيف عائم يستخدم في صعود ونزول الركاب إلى القوارب،ومواقف للسيارات بمسطح 50 ألف متر مربع تستوعب 1600 سيارة إلى جانب تخصيص مسار للترام بعرض 12 متراً بكامل طول المشروع.
من جهة أخرى يجد الغواصون في قاع البحر الأحمر أحد أهم المناطق الجغرافية البحرية الغنية والمتنوعة، وما يحتضنه بداخله من كائنات بحرية والكسّارات البحرية والشعب المرجانية، في رياضة الغوص تحت الماء من أمتع وأجمل ما يميز السياحة في جدة، من خلال الثروة السمكية في منطقة جدة وشرم أبحر، وتجهيزها لممارسة رياضة الغوص تحت الماء.
ويجد الغواصون الرؤية تحت الماء تختلف من وقت لآخر بمعدل الرؤية في الأيام التي يكون الأمواج مرتفع تكون 30 متراً ولهذا لا يسمح بالغوص فيها، في حين تكون الأمواج هادئة فيُسمح بالغوص تحت الماء لأن الرؤية في الشعاب المرجانية القريبة تكون في حدود الـ10 أمتار.
ويجد محبو رياضة الغوص العديد من المزايا المتمثلة في وجود المراكز والمدربين المتخصصين بأسعار تدريب من 1000-1400 ريال، بشقيه النظري والعملي، بالإضافة إلى الرحلات البحرية اللازمة لذلك .
"درب زبيدة".. معلم تاريخي
تزخر المملكة العربية السعودية بعدد كبير من الدروب التاريخية التي كان يسلكها سكان الجزيرة العربية ومن حولها قبل الإسلام وبعده، بيد أن "درب زبيدة" ظل أشهرها على الإطلاق، نظير ما يحويه من معالم أثرية لا تزال باقية حتى الآن، مما استحق التسجيل في قائمة التراث العالمي بمنظمة "اليونسكو" في الوقت القريب، وذلك ضمن 10 مواقع طلبت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني تسجيلها بناءً على موافقة المقام السامي رقم 52984 وتاريخ 29 / 12 / 1435هـ، .
ويمتد درب زبيدة "طريق الحج الكوفي" من مدينة الكوفة في العراق مرورًا بشمال المملكة ووسطها وصولنا إلى مكة المكرمة، ويبلغ طوله في أراضي المملكة أكثر من 1400 كم، حيث يمر بخمس مناطق في المملكة هي مناطق الحدود الشمالية، وحائل، والقصيم، والمدينة المنورة، مكة المكرمة، وأدرج الدرب ضمن مشاريع برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري للمملكة، الذي تنفذه الهيئة، وضمن مبادراتها في برنامج التحول الوطني.
وسمّي "درب زبيدة" نسبة للسيدة زبيدة بنت جعفر زوج الخليفة العباسي هارون الرشيد، وذلك نظير الأعمال الخيرية التي قامت بها، إضافة إلى المحطات العديدة التي أمرت بإنشائها على امتداد الطريق، وكان درب زبيدة من الطرق التجارية قبل الإسلام وازدادت أهميته مع بزوغ فجر الإسلام، وشهد الطريق المزيد من الاهتمام وازدهر خلال عصور الخلافة الإسلامية المبكرة.
ووفق تقرير صدر عن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني فقد بلغ الدرب ذروة ازدهاره خلال الخلافة العباسية 132 - 656هـ / 750 - 1258م، عندما تم تحديد الطريق ورصفه كما تم إنشاء محطات الطريق وحفرت الآبار والبرك، وأقيمت السدود وبنيت المنازل والدور، وجرى حصر 27 محطة رئيسة ومن أهمها: الشيحيات، والجميمة، وفيد، والربذة، وذات عرق وخرابة.
ويملك الطريق قيمة عالمية استثنائية لأنه يجسّد فعلياً الأهمية الثقافية للتبادلات والحوار متعدد الأبعاد بين البلدان وذلك من خلال جمعها للعديد من الحجاج المسلمين من مختلف الأعراق والأجناس والبقاع ومن هنا تتشكل التبادلات الدينية والثقافية والعلمية بين الناس من مختلف بقاع الأرض، كما يبرز درب زبيدة تفاعل الحركة طوال الطريق من حيث المكان والوقت منذ عصور ما قبل الإسلام حتى نهاية الخلافة العباسية في القرن السابع الهجري / الثالث عشر للميلاد.
وكتب العديد من المؤرخين والجغرافيين والرحالة عن درب زبيدة، ومن أهم من كتب عنه: ابن خرداذبة، وابن رسته، واليعقوبي، والمقدسي، والحمداني، والحربي، وابن جبير، وابن بطوطة، كما استقطب الدرب عدداً من رحالة الغربيين ممن تمكنوا من سلوك هذا الدرب والكتابة عنه في القرنين التاسع عشر، والعشرين الميلاديين.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هدف هذا الدرب، خدمة حجاج بيت الله الحرام من بغداد "عاصمة الخلافة العباسية" إلى مكة المكرمة وإثراء الثقافات والعادة والتبادل التجاري في ذلك الوقت بطول يتجاوز الـ 1400 كلم تقريباً، حيث تم وضع علامات على الطريق لإرشاد الحجاج في ذلك الوقت وتم وضع برك لجمع الماء بطريقة ذكية جداً وفي أماكن مختارة بعناية فائقة وبمسافات مدروسة ليستفيد منها الحجاج للتزود بالماء، ويمر بالعديد من الجبال والرياض والمرتفعات والمنخفضات والتضاريس المختلفة، وذكر هذا الدرب في كتب الجغرافيين والرحالة القدامى من المسلمين وغيرهم، وذكره الرحالة الفنلندي جورج فالين وذكرته الليدي آن بلنت في كتابها "رحلة إلى بلاد نجد"، واندثرت بعض معالم هذا الطريق في حين تظهر أطلالها في أماكن أخرى.
وقد قال عالم الآثار السعودي البروفيسور سعد الراشد عن درب زبيدة إن مساره خطط بطريقة علمية وهندسية متقنة، حيث حددت اتجاهاته، وأقيمت على امتداده المحطات والمنازل والاستراحات، ورصفت أرضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، ونظف الطريق من الجلاميد الصخرية والعوائق في المناطق الوعرة والمرتفعات الجبلية، كما زود الطريق بأسلوب هندسي ونظام دقيق بتوزيع المنشآت المائية من سدود وآبار وبرك وعيون وقنوات، ووضعت على مساره بطريق حسابية موزونة الأعلام والمنارات والأميال "أحجار المسافة" والضوى والمشاعل والمواقد، ليهتدي بها المسافرون ليلًا ونهارًا.
ورصد الجغرافيون والرحالة المسلمون محطات الطريق ومنازله بين الكوفة ومكة المكرمة، فبلغت 27 محطة رئيسة، و 27 منزلاً "أي محطة ثانوية" وهي محطة استراحة تقام على مسافة محددة بين كل محطتين رئيستين، هذا عدا المنازل والمرافق الأخرى المقامة على امتداد الطريق، كما رصد الجغرافيون كذلك المحطات والمنازل على الطرق المتفرعة من الطريق الرئيس لدرب زبيدة، ويلتقي أحد فروع طريق البصرة مع طريق الكوفة في معدن النقرة، ويتفرع الطريق من ذلك المكان إلى مكة المكرمة جنوباً أو إلى المدينة المنورة غرباً، كما يلتقي طريق الحج البصري الرئيس مع درب زبيدة بالقرب من مكة المكرمة عند ميقات ذات عرق.
وتجمع المصادر التاريخية والجغرافية المبكرة على أن طريق الكوفة - مكة "درب زبيدة" بلغ أوج ازدهاره في العصر العباسي المبكر، وشعر المسافرون على الطريق والقادمون من أقصى المشرق الإسلامي بالأمن والطمأنينة. ولهذا يقول المؤرخ ابن كثير: "كانت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها"، ولكن الطريق وغيره من الطرق الرئيسة والفرعية، تعرض في فترات متعاقبة لهجمات القبائل، وذلك بسبب الخلل في الأمن ولم يكن باستطاعة الحجاج والمسافرين اجتياز الطريق الرئيس أو أي من فروعه إلا بتوفر رعاية وحماية عسكرية من عاصمة الخلافة، وقد تعطل الطريق بشكل كبير بعد سـقوط بغداد على يد الـمغول سنة 656هـ/1258م، ولم يعد الـطريق مسـتخدماً إلا في فترات متقطعة، وبالتدريج اندثرت معظم محطات الطريق وتقلصت المحطات والمنازل إلى أطلال دارسة، وبقيت بعض الآبار والبرك صالحة للاستعمال ولكن الغالبية العظمى منها غطتها الرمال مع مرور الزمن.
وعلى الصعيد الأثري، فقد أجرى الدكتور سعد الراشد دراسة موسعة وشاملة لطريق الكوفة - مكة "درب زبيدة"، وشملت الدراسة المواقع الأثرية على الطريق والمنشآت المائية وآثار الرصف والتمهيد ومواقع أعالم الطريق.
وعن نتائج هذه الدراسة قال الدكتور الراشد: تم العثور على عدد من أحجار المسافة "الأميال المكتوبة" التي تحدد المسافات بقياس وحدات "البريد" و "الميل" و "الفرسخ"، وعثر على شواهد أثرية توضح إصلاحات الخليفة المهدي العباسي وأعمال الصيانة والتجديد التي تمت في عهد الخليفة المقتدر بالله، وتشكل الأعلام التي لا تزال آثارها باقية دلالة واضحة على تحديد مسار الطريق وفروعه.
وبنيت الأعلام بالحجارة على شكل أبراج دائرية في معظمها، وترتفع على سطح الأرض حوالي ثلاثة أمتار، محددة، حيث المسافة بين العلم والآخر حوالي الميل 2 كم تقريباً وتقترب الأعلام بعضها من بعض في بعض الأماكن بحوالي نصف الميل "1 كم تقريباً"، كما أن الأعلام تزداد بالقرب من المحطات الرئيسة التي تتجمع فيها الطرق أو تتفرع إلى جهات أخرى، أو بالقرب من مواضع الآبار والبرك، ويمكن مشاهدة عشرات الأعلام على امتداد الطريق وقد تساقط البعض منها على أشكال أكوام حجرية.
وكشفت الدراسات وأعمال المسوحات والحفريات الأثرية عن أنماط من القصور والتحصينات والمنازل والمساكن والمساجد في عدد من المواقع الأثرية التي كانت محطات رئيسة على الطريق.
وكانت هذه المواقع عبارة عن مدن وقرى تخدم سكان تلك المناطق وقوافل الحجاج والتجارة والمسافرين، ويتوفر لهم فيها ما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس وأعلاف للدواب، كما أن الكثير منها كانت تشكل أسواقاً عامرة بالمنتجات الزراعية والحيوانية والصناعات المتنوعة.
ومن أشهر المواقع الأثرية التي كانت تمثّل مدناً ومحطات رئيسة كبيرة: زبالة، والثعلبية، وفيد، وسميراء، والنقرة، والربذة، ومعدن بني سليم، وأثمرت الكشوفات الأثرية في مدينة فيد التاريخية عن شبكة متطورة من الآبار والعيون والقنوات، والبرك، وفيها مظاهر معمارية متنوعة تتركز في تشييد القصور المحصنة والمنازل والدور والمساجد والطرقات لمدينة عربية كبيرة الحجم، وتم الكشف عن أنماط متنوعة من المعثورات واللقى الأثرية للأواني الفخارية والخزفية والزجاجية والأدوات المعدنية والحجرية والمسكوكات وهذه المكتشفات تتوافق مع المعلومات التي أوردتها المصادر التاريخية والجغرافية وكتابات الرحالة المسلمين عن هذه المدينة التي كانت من أقدم المدن الإسلامية في قلب الجزيرة العربية التي كانت أيضاً تشكل محطة رئيسة في منتصف طريق "درب زبيدة" بين الكوفة ومكة المكرمة.
أما موقع "الربذة" الأثري، فقد أجريت فيه حفريات أثرية شاملة استمرت لأكثر من عشرين عاماً كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع عن المسجد الجامع ومسجد المدينة السكنية، ووحدات بنائية للمنازل الكبيرة والقصور، وأسواق ومواقع للتصنيع ومخازن وأحواض وخزانات المياه الأرضية.
وتشكل المكتشفات الأثرية في الربذة من القطع والأواني الخزفية والفخارية والزجاجية والمعدنية والحلي وأدوات الزينة والمسكوكات والنقوش، مصدراً مهماً للدارسين والباحثين لكون الربذة واحدة من المدن المبكرة في الإسلام، وكانت الربذة بالإضافة لكونها مدينة ومحطة رئيسة في النقطة التي تحدد ثلث الطريق من الكوفة فقد كانت أيضاً حمىً لإبل الصدقة وخيل المسلمين، وقـد اسـتمرت الـحياة في الربذة من بداية عصر صدر الإسلام حتى سنة 319هـ/ 917م، حيث خربت ورحل عنها أهلها.
وأوضحت الدراسات الأثرية أن المنشآت المعمارية على طريق حج الكوفة - مكة تمثل نمطاً معمارياً فريداً للعمارة الإسلامية المبكرة في جزيرة العرب، ويتمثل ذلك في أسلوب التخطيط المعماري والوظائف المختلفة، كما تميزت المباني بسماكة الجدران وأبراج الحماية، وزودت الوحدات البنائية للمنازل والدور السكنية، كما هو الحال في الربذة، بخزانات لحفظ مياه الشرب تحت مستوى أرضيات الغرف والساحات والممرات، كما أن العديد من المحطات كانت تشتمل على الأسواق والحمامات العامة وغير ذلك من المرافق الأخرى.
وفيما يتعلق لبرك المياه فقد أوضحت الدراسات التوثيقية أن البرك والأحواض حفرت وبنيت على امتداد الطريق على مسافات متفاوتة ومحددة، بعضها بالقرب من المحطات والمنازل والبعض الآخر في أماكن نائية عنها، ولا تزال معظم تلك البرك واضحة للعيان بمعالمها وتفاصيلها المعمارية الدقيقة وبعضها الآخر قد طمرتها الرمال.
وتتنوع مساحات البرك وأشكالها، حيث صمم بعضها بشكل دائري، وبعضها الآخر بني بشكل رباعي ومستطيل التخطيط، وزودت البرك بأحواض ترسيب "مصافٍ"، ودعمت جدران البرك من الداخل بأكتاف نصف دائرية أو نصف مربعة، للحفاظ عليها من ضغط مياه السيول التي تصب بداخلها، كما أن بعض البرك صممت بحيث تكون جدرانها الداخلية مدرجة بكاملها، وزودت البرك بقنوات وسدود، تجلب إليها مياه الإمطار والسيول من الأودية المجاورة لها، ويدل بناء هذه البرك على براعة المسلمين الأوائل في العمارة والخبرة الجيدة في إقامة الإنشاءات المائية.
وبالنسبة لتخطيط مسار طريق "درب زبيدة" وتفرعاته، فقد تمكن المهندسون من تحديد مساراته بشكل مستقيم في معظم أجزائه، ويجتاز أراضي سهلية مستوية ومناطق وعرة وخشنة وصحاري كثيفة مقفرة حتى يصل إلى جبال الحجاز ذات التضاريس الصعبة التي تخترقها الأودية الضيقة والعميقة، وقد تم تسهيل الطريق بقطع الممرات بين الثنايا والجبال، وتم حماية مسار الطريق بجدران مرتفعة على جانبيه، ووضعت مدرجات عريضة في مواضع الصعود والنزول في المناطق الجبلية الوعرة، وقد برع المهندسون في رسم الطريق بتفادي مساقط السيول الجارفة، وتدل آثار التمهيد والرصف على خبرة المهندسين المسلمين في تحديد الطرق ورسمها بأساليب هندسية دقيقة.
من جهته أوضح المستشار بقطاع والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني الدكتور حسين أبو الحسن، أن الهيئة قامت بإجراء مسح كامل لدرب زبيدة الأثري وترميم بعض معالم الطريق، وتأهيلها ضمن مشروع "طرق التجارة والحج القديمة بالمملكة".
وقال الدكتور حسين أبو الحسن : إن درب زبيدة من المواقع التي حظيت باهتمام الهيئة منذ مدة طويلة، حيث بدئ بإجراء مسح كامل على معالم الطريق، ووضع خرائط له وأجريت العديد من الدراسات العلمية، كما أن الهيئة ممثلة في قطاع الآثار قامت بترميم بعض معالم الطريق، وتنفيذ أعمال بحثية علمية في بعض المواقع الرئيسة على درب زبيدة، ومنها أعمال التنقيب الأثري والترميم والتهيئة لموقع فيد الأثري في منطقة حائل الذي يعد محطة رئيسة على امتداد طريق درب زبيدة، حيث قامت الهيئة بالتنسيق مع إمارة منطقة والهيئة العليا لتطوير منطقة حائل بإجراء تنقيبات أثرية وترميم للمعالم الأثرية المكتشفة، وتنظيف البرك وترميمها، وإيجاد ممرات للسيّاح داخل الموقع ووضع لوحات تعريفية، ويجري العمل على إنشاء متحف خاص بالموقع، وكل هذه الأعمال لا تزال تجري وفقاً لاتفاقية موقعة بين هيئة السياحة وهيئة تطوير حائل.
"نقوش صخرية تكشف عن مسيرة الحضارات الإنسانية في المملكة قبل التاريخ"
تعد أرض الجزيرة العربية حسب ما أجمعت كتب التاريخ القديم من أغنى دول العالم في نقوش الفنون الصخرية التي دلت تفاصيلها على وجود حضارات إنسانية قامت على أرضها خلال زمن ما قبل التاريخ أي قبل اكتشاف الكتابة، وبرزت بعضها في نقوش صخرية وجدت في : "الحناكية" بمنطقة المدينة المنورة، و"الشويمس، وجبة" في منطقة حائل المدرجتين ضمن قائمة مواقع التراث العالمي بمنظمة "اليونسكو".
وتعد موطنًا للعديد من الحضارات الإنسانية، ومهدًا للرسالات السماوية والرسل، ومسرحًا للعديد من الأحداث التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وُعرف تاريخ أول هجرة للإنسان في الجزيرة العربية قبل نحو 17 ألف سنة، وعدت هذه الهجرة.. الأولى له بسبب الجفاف الذي حل بها في ذلك الوقت.
وما لبثت السنين تمضي حتى عادت الكثير من الهجرات إلى الجزيرة بعد ازدهار أرضها، فتعاقبت الحضارات الإنسانية على أرضها، وخلّدت خلفها مجموعة من الآثار بقيت حتى عصرنا هذا في صورة : مبان، ونقوش صخرية، وكتابات، وعملات، وأوان، ومقابر، وسدود، وأسوار وقفت تجابه رياح التعرية آلاف السنين.
وبحسب ما ذكر الباحثون في التاريخ، فإن أكثر المناطق في الجزيرة العربية التي انطلقت منها الهجرات البشرية هي المناطق التي اكتشفت فيها مواقع العصر الحجري القديم الأوسط، كما في منطقتي : حائل، والجوف، إذ وجد فيهما أدوات "موستيرية"، وهي أدوات حجرية تتبع مرحلة ذلك العصر، لكن هذه الهجرات عادت إليها في بداية العصر الحجري الحديث، بسبب تحسّن أوضاع المناخ على أرضها.
ويعرف تأريخ بعض العينات العضوية وغير العضوية التي تكتشف في الأماكن الأثرية بواسطة تحليل (C14) الدولي الذي يُعطي رقمًا دقيقًا لها، في حين أظهرت الاكتشافات الأثرية التي وجدت في شبه الجزيرة العربية وجود نوع من الاتصال بين الحضارات التي عاشت على أرضها قبل التاريخ أي قبل 2300سنة قبل الميلاد، والحضارات الأخرى خارج الجزيرة.
وقد احتفت دارة الملك عبد العزيز في يناير الماضي بالانتهاء من إصدارات مشروع "الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية" وهو نتاج معلومات تاريخية عن الجزيرة العربية في المصادر الإغريقية والرومانية واليونانية كتبت بلغاتها القديمة المعروفة قبل أكثر من 2500 عام، وعد المشروع مرجعًا لدراسة تاريخ الجزيرة العربية من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن السادس الميلادي، ويفتح المجال أمام دراسات متعمقة في تاريخها.
وفي إطار ذلك كشفت دراسة تحليلية أعدتها الباحثة سارة بنت فالح الدوسري لنيل درجة الدكتوراه تحت عنوان ( أسلوب جبّة بمنطقة حائل في الفنون الصخرية بالجزيرة العربية.. دراسة آثارية تحليلية)، بين فترتي البحيرات الأولى التي كانت في الجزيرة العربية قبل أكثر من 36 ألف سنة، والبحيرات الأخيرة التي تراوح عمرها ما بين 6 آلاف - 9 آلاف عام مضت تقريبًا، إلى وجود تشابه كبير ما بين النقوش الموجودة على الصخور في مناطق: "الحناكية" و"الشويمس"، و"جبة"، والنقوش الموجودة في أقصى بلدان الشام والعراق التي تعود إلى ما قبل 13 ألف سنة أي خلال فترات الهجرة من الجزيرة العربية.
وتناولت الدراسة أسلوب "جبّة" الفني الذي نُقشت به الصخور في الجزيرة العربية في فترة ما قبل التاريخ، وكشفت عن وجود نشاط كبير لجماعات بشرية عاشت فيها، وكانوا يمارسون الصيد بالعصى الملتوية، والقوس، والسهم، والرمح، والشبكات، والقوس المستعرض الذي يعد اكتشافًا جديداً للفنون الصخرية في الجزيرة العربية وخارجها، لأن أقدم قوس مستعرض اكتشف في الصين قبل 600 سنة قبل الميلاد، ويعد ذلك حديثًا نسبيًا بالمقارنة مع ما وجد في "الجبة".
وقالت الدكتورة سارة في حديثها لـ"واس": لقد عاش الإنسان في جبة في فترة ما قبل التاريخ على صيد الحيوانات، وتربية الأنعام، وظهرت مكانة هذه الحيوانات جلية في عصره على الصخور التي وجدت في مناطق البحث بجبّة، لكن لم يثبت بالدليل الأثري إلى الآن ما إذا كان الاستئناس البشري بالحيوانات قد حدث بالفعل في الجبّة أو أن الجماعات التي سكنتها قد أحضرتها معها حينما نزلت بها بعد عودتها من هجرة الجزيرة العربية.
وأشارت الباحثة إلى إنها وجدت العديد من مواقع العصر الحجري القديم الأوسط في الجبة، مبينة أنها استخدمت في تصوير "نقوش الفنون الصخرية" مقياس الرسم العالمي المعتمد من منظمة الاتحاد الدولي للفنون الصخرية "IFRAO"، ودلت على وجود كثافة سكانية في ذلك العصر الذي كان في فترة مطيرة إلى أن جفت البحيرات، وحدثت هجرات كبيرة جدًا من الجزيرة العربية.
وأفادت أن بعض الجماعات المهاجرة من الجزيرة العربية ذهبت من ناحية الجنوب إلى دول إفريقية عن طريق مضيق باب المندب، وعندما تحسنت الظروف المناخية في الجزيرة عادت معظم هذه الجماعات البشرية المهاجرة حتى التي في الشمال، مصحوبة بقطعان من الحيوانات الداجنة، وبثقافاتها المتطورة، وعاداتها الاجتماعية المستحدثة، وانتشرت في أماكنها الجديدة في أنحاء الجزيرة.
واليوم وضعت رؤية المملكة 2030 منذ إعلانها في 25 أبريل 2016، التراث القديم والتراث الوطني على وجه التحديد أحد أهم العناصر الأساسية في استراتيجيتها التنموية، بوصفهما رافدًا من روافد الاقتصاد الوطني نظير ما تتمتع به المملكة من ثروات تاريخية تعد امتدادًا لتاريخ الأمم والحضارات التي تعاقبت على أرضها منذ آلاف السنين وذكرت معظمها في القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ودعت رؤية المملكة إلى العمل على إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي القديم وتسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي، وتمكين الجميع من الوصول إليها على اعتبار أنها من الشواهد الحية على إرثنا العريق، والموقع البارز للمملكة على خريطة الحضارة الإنسانية التي منها طرق التجارة التي ربطت شبه الجزيرة وسواحلها بحضارات وادي النيل وبلاد ما بين النهرين، وازدهرت على أثرها بعض المدن في المملكة.
وتقف منطقة جدة التاريخية شامخة في مقدمة المتاحف المفتوحة التي تمثل الأبنية التراثية القديمة، وأساليب الحياة البسيطة بجانب المواقع التاريخية من مساجد أثرية وأسواق شعبية يرتادها أهالي جدة وزوارها ليستمتعوا بعراقة العادات القديمة.
ويقف متحف قصر خزام شامخاً ضمن قصر الملك عبد العزيز كأحد أهم المتاحف، مُعبراً عن الجمال المعماري كأول مبنى شُيد بالأسمنت المسلح قبل 85 عامًا، حيث قضى به الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - جانبًا من حياته العملية واستخدمه ديوانًا يستقبل فيه ضيوف الدولة وكبار المسؤولين وعامة الشعب، ويعد تراثاً معماريًا لمباني جدة في فترة مبكرة من التطوير العمراني.
وشهد القصر توقيع اتفاقية الامتياز للتنقيب عن البترول بين حكومة المملكة العربية السعودية وشركة ستاندر أويل أوف كاليفورنيا في العام 1352هـ، واتفاقيات إقامة علاقات دبلوماسية بين المملكة والعديد من الدول، ويوجد به مكتب ومجلس ومصلى الملك عبد العزيز - رحمه الله -، كما استخدمه الملك سعود بعد وفاة المؤسس مكاتب إدارية حتى العام 1384هـ، ومن ثم ضُم بعد ذلك إلى قصر الضيافة.
وقد أنشأ الملك عبد العزيز - رحمه الله - عقب دخوله جدة أول رصيف بحري أمام مبنى البنط ترسو عنده المراكب بعد أن زار البنط، ووجد أن المنطقة التي ينزل بها الحجاج من المراكب ترابية وسبخه قبل دخولهم إلى البنط، فأمر بإنشاء الرصيف الذي يعد أول رصيف بحري بجدة، حيث أزيل الرصيف بعد التمدد العمراني ونقل الميناء إلى موقعه الحالي.
واكتسب مركز الملك عبد العزيز الثقافي "متحف أبرق الرغامة" شهرة واسعة لارتباطه بتاريخ المملكة، حيث شكل الموقع آخر نقطة وقف فيها الملك عبد العزيز - رحمه الله -، قبل دخول جدة وهو يقود مسيرة توحيد المملكة، فقد عسكّر الملك عبد العزيز بجيشه بهذا المكان ودخل جدة في سلام.
ويقع المتحف على مساحة 150 ألف متر مربع يُخلّد ذكرى دخول الملك عبد العزيز إلى جدة، ويحتوي على مبانٍ وساحات مفتوحة ومناطق خضراء ومداخل تتضمن المبنى الرئيس الذي يرمز إلى رباط الملك عبد العزيز، بموقع أبرق الرغامة، فيما ترمز الواجهة العليا بمكوناتها من السور والراية إلى مفهوم توحيد المملكة.
وتحتضن مدينة جدة سوق العلوي التاريخي الذي يضم البيوت التجارية من دكاكين العطارة والتوابل، لسوق العلوي أريج أخاذ يميزه عن باقي الأسواق التاريخية القديمة بجدة الأمر الذي يجعله يُعرف من قبل المرتادين بمجرد دخولهم السوق.
ويعد سوق العلوي همزة الوصل ما بين الميناء وباب مكة، وكان الحجيج ينطلقون من الميناء إلى باب مكة عن طريق سوق العلوي وفي عودتهم يدخلون من باب مكة إلى العلوي، ثم إلى الميناء وذلك عندما كانت قوافل الجمال تستخدم في نقل الحجاج آنذاك.
ومن بين المعالم البارزة بجدة متحف "بيت نصيف الأثري" أحد المعالم الأثرية بوسط جدة التاريخية، يحكي عن حقبة تاريخية من حقب التطوير المعماري القديم بجدة، يعود تاريخ بنائه إلى قبل 150 عاماً، حيث توجد أمام البيت شجرة النيم التي تعد الأولى بمدينة جدة منذ 70 عاماً، وتكمن أهميته منذ أن سكن به الملك عبد العزيز - رحمه الله - عقب دخوله جدة بضيافة صاحب البيت عمر أفندي نصيف الذي أهدى البيت للدولة التي قامت بترميمه.
وشهد "بيت نصيف الأثري" اتفاقية تسليم جدة، والعديد من اتفاقيات العلاقات والتعاون التي أبرمها الملك عبد العزيز آنذاك مع العديد من مبعوثي وسفراء عدد من الدول الصديقة.
ويحتوي البيت على العديد من التحف والصور القديمة والمجالس الجداوية التراثية والمشغولات اليدوية والحرفية والعديد من الأسلحة القديمة النادرة، كما يُنظم بالبيت العديد من المعارض التراثية لمختلف مناطق المملكة .
وتضم مدينة جدة أيضًا العديد من المتاحف العلمية كمتحف جامعة الملك عبد العزيز، ومتحفي كلية علوم البحار وكلية علوم الأرض، والعديد من المتاحف الخاصة المغلقة أبرزها متحف "مدينة الطيبات" الذي يعد أكبر المتاحف بجدة ويشكل مدينة تراثية مغلقة تقع على مساحة 10 آلاف متر مربع، وتضم أكثر من 14 ألف قطعة أثرية وتراثية موزعة على 67 قاعة تضم بيت التراث العربي والسعودي ومعرض للملابس والحرف التقليدية.
ويتكون المتحف من عدة مبانٍ رئيسة تمثل واجهة المتحف من الخارج ويحتويها سور خارجي صمم لتمكين المشاهد من رؤية الأعمال الخارجية للمتحف بكل سهولة، حيث يضم المتحف 19 وحدة، و15 نافورة متصلة ببعضها بجدول المياه المتحركة، ويعلو المتحف 9 مآذن بارتفاعات مختلفة والعديد من الأعمال الخشبية والجبسية والحجرية بمختلف أشكالها وأنماطها وتعكس حركة الإنسان داخل جدة القديمة.
ويجسّد متحف "صفية بن زقر" المزين باللوحات الفنية تراث جدة والعادات والتقاليد، فيما يحتوي متحف "قلعة الفنون التراثية" على مقتنيات أثرية وتراثية وأزياء تقليدية ومكتبة أدبية تضم مجموعة من الكتب والصحف والمجلات القديمة، ومجموعة من أشرطة الكاسيت والأسطوانات والآلات والأجهزة الموسيقية.
ويضم متحف الفنان التشكيلي الدكتور عبد الحليم رضوي العديد من اللوحات الفن التشكيلي الزيتية والمائية والمعدنية والخشبية والعديد من المجسمات الفنية، كما يعرف "متحف الفنون المنزلية" بطريقة عرض الفن المنزلي وكيفية إظهار الإبداع في تنسيق المقتنيات والألوان، وتضم مدينة جدة العديد من المتاحف التراثية الخاصة والعديد من المتاحف العلمية والثقافية الفلكية والبحرية بالترفية.
ويعد "سور جدة" من المعالم التي تُميّز مدينة جدة، حيث يقف شامخاً شاهداً على تاريخها القديم قبل وبعد بناء سورها المشهور، والتغيّر الذي شهدته المنطقة حتى أصبحت على ما هي عليه في الوقت الحاضر، الذي يعود تاريخ بداية جدة قبل بناء السور في الفترة من العام 26هـ و حتى 366 هـ التي بدأت فيها قرية صغيرة أنشأها الصيادون الذين أتوا إلى جدة وكوّنوا اتحاداً بينهم وبين صيادي المنطقة، وبدأت جدة التاريخية في الاتساع كمساكن بدائية من الجهة الغربية على البحر آخذةً في التوسع ناحية الجهة الشرقية لارتفاعها عن البحر، وبعدما انتقلت "الفرضة" في عهد الخليفة الراشد "عثمان بن عفان" رضي الله عنه إلى جدة وتحويل تلك القرية الصغيرة "جدة" إلى ميناء رئيس لمكة المكرمة، بدأت في الاتساع مع الأحداث المتلاحقة لها عبر العصور الأولى كميناء بحري لمكة المكرمة يستقبل الحجيج والمعتمرين قبل بناء سورها الأول.
ويحكي "سور جدة" إنشاء أول سور في جدة في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي وأصبحت جدة التاريخية قوة رباط وحامية لمكة المكرمة، واستمرت المدينة القديمة على هذا النحو قرابة ستة قرون إلا من بعض التوسع اليسير والردم من جهة البحر.
وكانت نهاية السور البحري عند منطقة رأس الضف البحري المرتفع في المنطقة الغربية لشارع الذهب حالياً عند مينائها القديم "أوقاف المعمار" شرق شارع الذهب، وتم التجديد الحديث للسور في عهد الملك المؤسس - رحمه لله - عام 1354 هـ حين جدد "الفرضة" ببناء جديد وكون ميناءً بمقاييس حديثة في عهده.
وتمتاز محافظة جدة بالواجهات البحرية التي أسهمت في تشكيل نطاق المحافظة، كان من أبرزها الكورنيش الشمالي بمراحله الأولى والثانية والثالثة الحائز على جوائز مشروعات الشرق الأوسط الكبرى بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ويتضمن الكورنيش الأوسط متحفاً مفتوحاً للمجسمات الجمالية سُجل في موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية كأكبر متحف مفتوح في العالم، فيما يتميز كورنيش السيف بجمال فريد من نوعه، يتجلى في الزراعة، والتشجير، والممرات الانسيابية ذات التصميم الحديث والمبتكر.
ويستوعب كورنيش جدة 120 ألف نسمة، لاحتوائه على 17 منطقة بلازا، و14 نافورة، و5 أبراج مراقبة للشواطئ، و5 مبانٍ مرشحات لخدمة مرتادي مناطق السباحة، إضافة إلى التاكسي البحري من خلال إنشاء "مارين" مخصص للقوارب وملاعب ومجسمات جمالية وجسر مشاة حديدي معلق يربط بين الكورنيش وشارع الأمير فيصل بن فهد بطول 650 متراً.
كما يحتوي على إنارة أرضية و3 منحدرات للصعود لاستخدام المشاة وذوي الاحتياجات الخاصة وسلمين للطوارئ، بالإضافة إلى أنه يحوي رصيفاً بحرياً لصيد الأسماك بطول 125 متراً داخل البحر وغرفة اتصالات وتحكم تخدم جميع مراحل تطوير الكورنيش، وأماكن ترفيهية تناسب جميع الأعمار وألعاب تعليمية للأطفال بجوار الألعاب التقليدية إلى جانب منطقة خاصة بالمطاعم والعربات المتنقلة وأماكن للجلوس التي تم تصميمها على هيئة "الجلد" في شكلها الخارجي، إلى جانب إنارة أعمدة المشروع بالكامل بإضاءات الـ LED توفيراً لاستهلاك الكهرباء.
فيما يتميز كورنيش جدة بوجود 12 نافورة منها 4 نوافير تفاعلية و8 نوافير عادية وحديقة ألعاب مائية، ومسافة الطرق بالمشروع تصل لحوالي 9.4 كيلو متر، ويتضمن الكورنيش مواقف للسيارات تستوعب 1600 سيارة، فضلاً عن نظام التحكم والمراقبة والإنذار وشبكة مراقبة بالكاميرات لجميع مسطح المشروع بعدد 96 كاميرا ودورات مياه يصل عددها لحوالي 100 دورة مياه عامة روعي فيها الوصول الشامل منها 20 دورة مياه ذكية مدفوعة الأجر.
ويشتمل الكورنيش على ساحات للتنزه يصل عددها إلى 17 ساحة موزعة بإجمالي 247 ألف متر مربع وتستوعب 54 ألف شخص، وبها أماكن للجلوس ومساحات للاستثمار وأماكن مخصصة للصلاة ومظلات ومناطق ألعاب للأطفال بمسطح 8 آلاف متر مربع من ضمن الساحات الرئيسة، وتعد أكبر ساحة تنزه مفتوحة على شواطئ جدة بمساحة 53 ألف متر مربع، إلى جانب ضمه لـ 12 مجسماً جمالياً لفنانين سعوديين و25 "كشكاً" بتصميمات موحدة وبعيدة عن البحر بحوالي 15 متراً حتى لا تحجب الرؤية عن الزائرين إضافة لتميز المشروع بوجود حواجز حديدية تطل على البحر مباشرة بارتفاع 120 سنتمترًا .
ويتضمن الكورنيش وجود الجدار البحري بطول 4580 مترًا طوليًا، منشأ على كامل طول ممشى الكورنيش ويتكون من جدار خرساني أعلى قاعدة خرسانية شريطية، ويوجد حجارة متدرجة الأوزان أسفل القاعدة، والجدار معزول بواسطة مادة تسمى pvc غير منفذة تماماً للمياه كما يوجد طبقة من الأحجار أمام الجدار للحماية من البحر.
ويضم الكورنيش رصيفًا لصيد الأسماك والعبارة وسقالة صيد بطول 125 متراً طولياً ومتوسط عرض 50 متراً على الواجهة البحرية، يوجد بها 15 مظلة و6 جلسات مظللة والأرضيات من الخشب الصناعي ومرسى للصيد بمساحة 2450 متراً مربعاً بطاقة استيعابية للمرسى بنحو 814 فرداً، وإنشاء بنية تحتية تخدم كامل مسطح المشروع مع الربط على شبكات البنية التحتية المنفذة، وتتألف من شبكة تصريف السيول والأمطار بطول 14 كيلو متراً من خطوط رئيسة وفرعية ومصبات باتجاه البحر.
كما يشتمل كورنيش جدة على مرفأ مراكب التنزه مكون من جزئيين شمالي وجنوبي بمساحة 1800 متر مربع، ورصيف عائم يستخدم في صعود ونزول الركاب إلى القوارب،ومواقف للسيارات بمسطح 50 ألف متر مربع تستوعب 1600 سيارة إلى جانب تخصيص مسار للترام بعرض 12 متراً بكامل طول المشروع.
من جهة أخرى يجد الغواصون في قاع البحر الأحمر أحد أهم المناطق الجغرافية البحرية الغنية والمتنوعة، وما يحتضنه بداخله من كائنات بحرية والكسّارات البحرية والشعب المرجانية، في رياضة الغوص تحت الماء من أمتع وأجمل ما يميز السياحة في جدة، من خلال الثروة السمكية في منطقة جدة وشرم أبحر، وتجهيزها لممارسة رياضة الغوص تحت الماء.
ويجد الغواصون الرؤية تحت الماء تختلف من وقت لآخر بمعدل الرؤية في الأيام التي يكون الأمواج مرتفع تكون 30 متراً ولهذا لا يسمح بالغوص فيها، في حين تكون الأمواج هادئة فيُسمح بالغوص تحت الماء لأن الرؤية في الشعاب المرجانية القريبة تكون في حدود الـ10 أمتار.
ويجد محبو رياضة الغوص العديد من المزايا المتمثلة في وجود المراكز والمدربين المتخصصين بأسعار تدريب من 1000-1400 ريال، بشقيه النظري والعملي، بالإضافة إلى الرحلات البحرية اللازمة لذلك .
"درب زبيدة".. معلم تاريخي
تزخر المملكة العربية السعودية بعدد كبير من الدروب التاريخية التي كان يسلكها سكان الجزيرة العربية ومن حولها قبل الإسلام وبعده، بيد أن "درب زبيدة" ظل أشهرها على الإطلاق، نظير ما يحويه من معالم أثرية لا تزال باقية حتى الآن، مما استحق التسجيل في قائمة التراث العالمي بمنظمة "اليونسكو" في الوقت القريب، وذلك ضمن 10 مواقع طلبت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني تسجيلها بناءً على موافقة المقام السامي رقم 52984 وتاريخ 29 / 12 / 1435هـ، .
ويمتد درب زبيدة "طريق الحج الكوفي" من مدينة الكوفة في العراق مرورًا بشمال المملكة ووسطها وصولنا إلى مكة المكرمة، ويبلغ طوله في أراضي المملكة أكثر من 1400 كم، حيث يمر بخمس مناطق في المملكة هي مناطق الحدود الشمالية، وحائل، والقصيم، والمدينة المنورة، مكة المكرمة، وأدرج الدرب ضمن مشاريع برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري للمملكة، الذي تنفذه الهيئة، وضمن مبادراتها في برنامج التحول الوطني.
وسمّي "درب زبيدة" نسبة للسيدة زبيدة بنت جعفر زوج الخليفة العباسي هارون الرشيد، وذلك نظير الأعمال الخيرية التي قامت بها، إضافة إلى المحطات العديدة التي أمرت بإنشائها على امتداد الطريق، وكان درب زبيدة من الطرق التجارية قبل الإسلام وازدادت أهميته مع بزوغ فجر الإسلام، وشهد الطريق المزيد من الاهتمام وازدهر خلال عصور الخلافة الإسلامية المبكرة.
ووفق تقرير صدر عن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني فقد بلغ الدرب ذروة ازدهاره خلال الخلافة العباسية 132 - 656هـ / 750 - 1258م، عندما تم تحديد الطريق ورصفه كما تم إنشاء محطات الطريق وحفرت الآبار والبرك، وأقيمت السدود وبنيت المنازل والدور، وجرى حصر 27 محطة رئيسة ومن أهمها: الشيحيات، والجميمة، وفيد، والربذة، وذات عرق وخرابة.
ويملك الطريق قيمة عالمية استثنائية لأنه يجسّد فعلياً الأهمية الثقافية للتبادلات والحوار متعدد الأبعاد بين البلدان وذلك من خلال جمعها للعديد من الحجاج المسلمين من مختلف الأعراق والأجناس والبقاع ومن هنا تتشكل التبادلات الدينية والثقافية والعلمية بين الناس من مختلف بقاع الأرض، كما يبرز درب زبيدة تفاعل الحركة طوال الطريق من حيث المكان والوقت منذ عصور ما قبل الإسلام حتى نهاية الخلافة العباسية في القرن السابع الهجري / الثالث عشر للميلاد.
وكتب العديد من المؤرخين والجغرافيين والرحالة عن درب زبيدة، ومن أهم من كتب عنه: ابن خرداذبة، وابن رسته، واليعقوبي، والمقدسي، والحمداني، والحربي، وابن جبير، وابن بطوطة، كما استقطب الدرب عدداً من رحالة الغربيين ممن تمكنوا من سلوك هذا الدرب والكتابة عنه في القرنين التاسع عشر، والعشرين الميلاديين.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هدف هذا الدرب، خدمة حجاج بيت الله الحرام من بغداد "عاصمة الخلافة العباسية" إلى مكة المكرمة وإثراء الثقافات والعادة والتبادل التجاري في ذلك الوقت بطول يتجاوز الـ 1400 كلم تقريباً، حيث تم وضع علامات على الطريق لإرشاد الحجاج في ذلك الوقت وتم وضع برك لجمع الماء بطريقة ذكية جداً وفي أماكن مختارة بعناية فائقة وبمسافات مدروسة ليستفيد منها الحجاج للتزود بالماء، ويمر بالعديد من الجبال والرياض والمرتفعات والمنخفضات والتضاريس المختلفة، وذكر هذا الدرب في كتب الجغرافيين والرحالة القدامى من المسلمين وغيرهم، وذكره الرحالة الفنلندي جورج فالين وذكرته الليدي آن بلنت في كتابها "رحلة إلى بلاد نجد"، واندثرت بعض معالم هذا الطريق في حين تظهر أطلالها في أماكن أخرى.
وقد قال عالم الآثار السعودي البروفيسور سعد الراشد عن درب زبيدة إن مساره خطط بطريقة علمية وهندسية متقنة، حيث حددت اتجاهاته، وأقيمت على امتداده المحطات والمنازل والاستراحات، ورصفت أرضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، ونظف الطريق من الجلاميد الصخرية والعوائق في المناطق الوعرة والمرتفعات الجبلية، كما زود الطريق بأسلوب هندسي ونظام دقيق بتوزيع المنشآت المائية من سدود وآبار وبرك وعيون وقنوات، ووضعت على مساره بطريق حسابية موزونة الأعلام والمنارات والأميال "أحجار المسافة" والضوى والمشاعل والمواقد، ليهتدي بها المسافرون ليلًا ونهارًا.
ورصد الجغرافيون والرحالة المسلمون محطات الطريق ومنازله بين الكوفة ومكة المكرمة، فبلغت 27 محطة رئيسة، و 27 منزلاً "أي محطة ثانوية" وهي محطة استراحة تقام على مسافة محددة بين كل محطتين رئيستين، هذا عدا المنازل والمرافق الأخرى المقامة على امتداد الطريق، كما رصد الجغرافيون كذلك المحطات والمنازل على الطرق المتفرعة من الطريق الرئيس لدرب زبيدة، ويلتقي أحد فروع طريق البصرة مع طريق الكوفة في معدن النقرة، ويتفرع الطريق من ذلك المكان إلى مكة المكرمة جنوباً أو إلى المدينة المنورة غرباً، كما يلتقي طريق الحج البصري الرئيس مع درب زبيدة بالقرب من مكة المكرمة عند ميقات ذات عرق.
وتجمع المصادر التاريخية والجغرافية المبكرة على أن طريق الكوفة - مكة "درب زبيدة" بلغ أوج ازدهاره في العصر العباسي المبكر، وشعر المسافرون على الطريق والقادمون من أقصى المشرق الإسلامي بالأمن والطمأنينة. ولهذا يقول المؤرخ ابن كثير: "كانت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها"، ولكن الطريق وغيره من الطرق الرئيسة والفرعية، تعرض في فترات متعاقبة لهجمات القبائل، وذلك بسبب الخلل في الأمن ولم يكن باستطاعة الحجاج والمسافرين اجتياز الطريق الرئيس أو أي من فروعه إلا بتوفر رعاية وحماية عسكرية من عاصمة الخلافة، وقد تعطل الطريق بشكل كبير بعد سـقوط بغداد على يد الـمغول سنة 656هـ/1258م، ولم يعد الـطريق مسـتخدماً إلا في فترات متقطعة، وبالتدريج اندثرت معظم محطات الطريق وتقلصت المحطات والمنازل إلى أطلال دارسة، وبقيت بعض الآبار والبرك صالحة للاستعمال ولكن الغالبية العظمى منها غطتها الرمال مع مرور الزمن.
وعلى الصعيد الأثري، فقد أجرى الدكتور سعد الراشد دراسة موسعة وشاملة لطريق الكوفة - مكة "درب زبيدة"، وشملت الدراسة المواقع الأثرية على الطريق والمنشآت المائية وآثار الرصف والتمهيد ومواقع أعالم الطريق.
وعن نتائج هذه الدراسة قال الدكتور الراشد: تم العثور على عدد من أحجار المسافة "الأميال المكتوبة" التي تحدد المسافات بقياس وحدات "البريد" و "الميل" و "الفرسخ"، وعثر على شواهد أثرية توضح إصلاحات الخليفة المهدي العباسي وأعمال الصيانة والتجديد التي تمت في عهد الخليفة المقتدر بالله، وتشكل الأعلام التي لا تزال آثارها باقية دلالة واضحة على تحديد مسار الطريق وفروعه.
وبنيت الأعلام بالحجارة على شكل أبراج دائرية في معظمها، وترتفع على سطح الأرض حوالي ثلاثة أمتار، محددة، حيث المسافة بين العلم والآخر حوالي الميل 2 كم تقريباً وتقترب الأعلام بعضها من بعض في بعض الأماكن بحوالي نصف الميل "1 كم تقريباً"، كما أن الأعلام تزداد بالقرب من المحطات الرئيسة التي تتجمع فيها الطرق أو تتفرع إلى جهات أخرى، أو بالقرب من مواضع الآبار والبرك، ويمكن مشاهدة عشرات الأعلام على امتداد الطريق وقد تساقط البعض منها على أشكال أكوام حجرية.
وكشفت الدراسات وأعمال المسوحات والحفريات الأثرية عن أنماط من القصور والتحصينات والمنازل والمساكن والمساجد في عدد من المواقع الأثرية التي كانت محطات رئيسة على الطريق.
وكانت هذه المواقع عبارة عن مدن وقرى تخدم سكان تلك المناطق وقوافل الحجاج والتجارة والمسافرين، ويتوفر لهم فيها ما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس وأعلاف للدواب، كما أن الكثير منها كانت تشكل أسواقاً عامرة بالمنتجات الزراعية والحيوانية والصناعات المتنوعة.
ومن أشهر المواقع الأثرية التي كانت تمثّل مدناً ومحطات رئيسة كبيرة: زبالة، والثعلبية، وفيد، وسميراء، والنقرة، والربذة، ومعدن بني سليم، وأثمرت الكشوفات الأثرية في مدينة فيد التاريخية عن شبكة متطورة من الآبار والعيون والقنوات، والبرك، وفيها مظاهر معمارية متنوعة تتركز في تشييد القصور المحصنة والمنازل والدور والمساجد والطرقات لمدينة عربية كبيرة الحجم، وتم الكشف عن أنماط متنوعة من المعثورات واللقى الأثرية للأواني الفخارية والخزفية والزجاجية والأدوات المعدنية والحجرية والمسكوكات وهذه المكتشفات تتوافق مع المعلومات التي أوردتها المصادر التاريخية والجغرافية وكتابات الرحالة المسلمين عن هذه المدينة التي كانت من أقدم المدن الإسلامية في قلب الجزيرة العربية التي كانت أيضاً تشكل محطة رئيسة في منتصف طريق "درب زبيدة" بين الكوفة ومكة المكرمة.
أما موقع "الربذة" الأثري، فقد أجريت فيه حفريات أثرية شاملة استمرت لأكثر من عشرين عاماً كشفت التنقيبات الأثرية في الموقع عن المسجد الجامع ومسجد المدينة السكنية، ووحدات بنائية للمنازل الكبيرة والقصور، وأسواق ومواقع للتصنيع ومخازن وأحواض وخزانات المياه الأرضية.
وتشكل المكتشفات الأثرية في الربذة من القطع والأواني الخزفية والفخارية والزجاجية والمعدنية والحلي وأدوات الزينة والمسكوكات والنقوش، مصدراً مهماً للدارسين والباحثين لكون الربذة واحدة من المدن المبكرة في الإسلام، وكانت الربذة بالإضافة لكونها مدينة ومحطة رئيسة في النقطة التي تحدد ثلث الطريق من الكوفة فقد كانت أيضاً حمىً لإبل الصدقة وخيل المسلمين، وقـد اسـتمرت الـحياة في الربذة من بداية عصر صدر الإسلام حتى سنة 319هـ/ 917م، حيث خربت ورحل عنها أهلها.
وأوضحت الدراسات الأثرية أن المنشآت المعمارية على طريق حج الكوفة - مكة تمثل نمطاً معمارياً فريداً للعمارة الإسلامية المبكرة في جزيرة العرب، ويتمثل ذلك في أسلوب التخطيط المعماري والوظائف المختلفة، كما تميزت المباني بسماكة الجدران وأبراج الحماية، وزودت الوحدات البنائية للمنازل والدور السكنية، كما هو الحال في الربذة، بخزانات لحفظ مياه الشرب تحت مستوى أرضيات الغرف والساحات والممرات، كما أن العديد من المحطات كانت تشتمل على الأسواق والحمامات العامة وغير ذلك من المرافق الأخرى.
وفيما يتعلق لبرك المياه فقد أوضحت الدراسات التوثيقية أن البرك والأحواض حفرت وبنيت على امتداد الطريق على مسافات متفاوتة ومحددة، بعضها بالقرب من المحطات والمنازل والبعض الآخر في أماكن نائية عنها، ولا تزال معظم تلك البرك واضحة للعيان بمعالمها وتفاصيلها المعمارية الدقيقة وبعضها الآخر قد طمرتها الرمال.
وتتنوع مساحات البرك وأشكالها، حيث صمم بعضها بشكل دائري، وبعضها الآخر بني بشكل رباعي ومستطيل التخطيط، وزودت البرك بأحواض ترسيب "مصافٍ"، ودعمت جدران البرك من الداخل بأكتاف نصف دائرية أو نصف مربعة، للحفاظ عليها من ضغط مياه السيول التي تصب بداخلها، كما أن بعض البرك صممت بحيث تكون جدرانها الداخلية مدرجة بكاملها، وزودت البرك بقنوات وسدود، تجلب إليها مياه الإمطار والسيول من الأودية المجاورة لها، ويدل بناء هذه البرك على براعة المسلمين الأوائل في العمارة والخبرة الجيدة في إقامة الإنشاءات المائية.
وبالنسبة لتخطيط مسار طريق "درب زبيدة" وتفرعاته، فقد تمكن المهندسون من تحديد مساراته بشكل مستقيم في معظم أجزائه، ويجتاز أراضي سهلية مستوية ومناطق وعرة وخشنة وصحاري كثيفة مقفرة حتى يصل إلى جبال الحجاز ذات التضاريس الصعبة التي تخترقها الأودية الضيقة والعميقة، وقد تم تسهيل الطريق بقطع الممرات بين الثنايا والجبال، وتم حماية مسار الطريق بجدران مرتفعة على جانبيه، ووضعت مدرجات عريضة في مواضع الصعود والنزول في المناطق الجبلية الوعرة، وقد برع المهندسون في رسم الطريق بتفادي مساقط السيول الجارفة، وتدل آثار التمهيد والرصف على خبرة المهندسين المسلمين في تحديد الطرق ورسمها بأساليب هندسية دقيقة.
من جهته أوضح المستشار بقطاع والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني الدكتور حسين أبو الحسن، أن الهيئة قامت بإجراء مسح كامل لدرب زبيدة الأثري وترميم بعض معالم الطريق، وتأهيلها ضمن مشروع "طرق التجارة والحج القديمة بالمملكة".
وقال الدكتور حسين أبو الحسن : إن درب زبيدة من المواقع التي حظيت باهتمام الهيئة منذ مدة طويلة، حيث بدئ بإجراء مسح كامل على معالم الطريق، ووضع خرائط له وأجريت العديد من الدراسات العلمية، كما أن الهيئة ممثلة في قطاع الآثار قامت بترميم بعض معالم الطريق، وتنفيذ أعمال بحثية علمية في بعض المواقع الرئيسة على درب زبيدة، ومنها أعمال التنقيب الأثري والترميم والتهيئة لموقع فيد الأثري في منطقة حائل الذي يعد محطة رئيسة على امتداد طريق درب زبيدة، حيث قامت الهيئة بالتنسيق مع إمارة منطقة والهيئة العليا لتطوير منطقة حائل بإجراء تنقيبات أثرية وترميم للمعالم الأثرية المكتشفة، وتنظيف البرك وترميمها، وإيجاد ممرات للسيّاح داخل الموقع ووضع لوحات تعريفية، ويجري العمل على إنشاء متحف خاص بالموقع، وكل هذه الأعمال لا تزال تجري وفقاً لاتفاقية موقعة بين هيئة السياحة وهيئة تطوير حائل.
"نقوش صخرية تكشف عن مسيرة الحضارات الإنسانية في المملكة قبل التاريخ"
تعد أرض الجزيرة العربية حسب ما أجمعت كتب التاريخ القديم من أغنى دول العالم في نقوش الفنون الصخرية التي دلت تفاصيلها على وجود حضارات إنسانية قامت على أرضها خلال زمن ما قبل التاريخ أي قبل اكتشاف الكتابة، وبرزت بعضها في نقوش صخرية وجدت في : "الحناكية" بمنطقة المدينة المنورة، و"الشويمس، وجبة" في منطقة حائل المدرجتين ضمن قائمة مواقع التراث العالمي بمنظمة "اليونسكو".
وتعد موطنًا للعديد من الحضارات الإنسانية، ومهدًا للرسالات السماوية والرسل، ومسرحًا للعديد من الأحداث التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وُعرف تاريخ أول هجرة للإنسان في الجزيرة العربية قبل نحو 17 ألف سنة، وعدت هذه الهجرة.. الأولى له بسبب الجفاف الذي حل بها في ذلك الوقت.
وما لبثت السنين تمضي حتى عادت الكثير من الهجرات إلى الجزيرة بعد ازدهار أرضها، فتعاقبت الحضارات الإنسانية على أرضها، وخلّدت خلفها مجموعة من الآثار بقيت حتى عصرنا هذا في صورة : مبان، ونقوش صخرية، وكتابات، وعملات، وأوان، ومقابر، وسدود، وأسوار وقفت تجابه رياح التعرية آلاف السنين.
وبحسب ما ذكر الباحثون في التاريخ، فإن أكثر المناطق في الجزيرة العربية التي انطلقت منها الهجرات البشرية هي المناطق التي اكتشفت فيها مواقع العصر الحجري القديم الأوسط، كما في منطقتي : حائل، والجوف، إذ وجد فيهما أدوات "موستيرية"، وهي أدوات حجرية تتبع مرحلة ذلك العصر، لكن هذه الهجرات عادت إليها في بداية العصر الحجري الحديث، بسبب تحسّن أوضاع المناخ على أرضها.
ويعرف تأريخ بعض العينات العضوية وغير العضوية التي تكتشف في الأماكن الأثرية بواسطة تحليل (C14) الدولي الذي يُعطي رقمًا دقيقًا لها، في حين أظهرت الاكتشافات الأثرية التي وجدت في شبه الجزيرة العربية وجود نوع من الاتصال بين الحضارات التي عاشت على أرضها قبل التاريخ أي قبل 2300سنة قبل الميلاد، والحضارات الأخرى خارج الجزيرة.
وقد احتفت دارة الملك عبد العزيز في يناير الماضي بالانتهاء من إصدارات مشروع "الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية" وهو نتاج معلومات تاريخية عن الجزيرة العربية في المصادر الإغريقية والرومانية واليونانية كتبت بلغاتها القديمة المعروفة قبل أكثر من 2500 عام، وعد المشروع مرجعًا لدراسة تاريخ الجزيرة العربية من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن السادس الميلادي، ويفتح المجال أمام دراسات متعمقة في تاريخها.
وفي إطار ذلك كشفت دراسة تحليلية أعدتها الباحثة سارة بنت فالح الدوسري لنيل درجة الدكتوراه تحت عنوان ( أسلوب جبّة بمنطقة حائل في الفنون الصخرية بالجزيرة العربية.. دراسة آثارية تحليلية)، بين فترتي البحيرات الأولى التي كانت في الجزيرة العربية قبل أكثر من 36 ألف سنة، والبحيرات الأخيرة التي تراوح عمرها ما بين 6 آلاف - 9 آلاف عام مضت تقريبًا، إلى وجود تشابه كبير ما بين النقوش الموجودة على الصخور في مناطق: "الحناكية" و"الشويمس"، و"جبة"، والنقوش الموجودة في أقصى بلدان الشام والعراق التي تعود إلى ما قبل 13 ألف سنة أي خلال فترات الهجرة من الجزيرة العربية.
وتناولت الدراسة أسلوب "جبّة" الفني الذي نُقشت به الصخور في الجزيرة العربية في فترة ما قبل التاريخ، وكشفت عن وجود نشاط كبير لجماعات بشرية عاشت فيها، وكانوا يمارسون الصيد بالعصى الملتوية، والقوس، والسهم، والرمح، والشبكات، والقوس المستعرض الذي يعد اكتشافًا جديداً للفنون الصخرية في الجزيرة العربية وخارجها، لأن أقدم قوس مستعرض اكتشف في الصين قبل 600 سنة قبل الميلاد، ويعد ذلك حديثًا نسبيًا بالمقارنة مع ما وجد في "الجبة".
وقالت الدكتورة سارة في حديثها لـ"واس": لقد عاش الإنسان في جبة في فترة ما قبل التاريخ على صيد الحيوانات، وتربية الأنعام، وظهرت مكانة هذه الحيوانات جلية في عصره على الصخور التي وجدت في مناطق البحث بجبّة، لكن لم يثبت بالدليل الأثري إلى الآن ما إذا كان الاستئناس البشري بالحيوانات قد حدث بالفعل في الجبّة أو أن الجماعات التي سكنتها قد أحضرتها معها حينما نزلت بها بعد عودتها من هجرة الجزيرة العربية.
وأشارت الباحثة إلى إنها وجدت العديد من مواقع العصر الحجري القديم الأوسط في الجبة، مبينة أنها استخدمت في تصوير "نقوش الفنون الصخرية" مقياس الرسم العالمي المعتمد من منظمة الاتحاد الدولي للفنون الصخرية "IFRAO"، ودلت على وجود كثافة سكانية في ذلك العصر الذي كان في فترة مطيرة إلى أن جفت البحيرات، وحدثت هجرات كبيرة جدًا من الجزيرة العربية.
وأفادت أن بعض الجماعات المهاجرة من الجزيرة العربية ذهبت من ناحية الجنوب إلى دول إفريقية عن طريق مضيق باب المندب، وعندما تحسنت الظروف المناخية في الجزيرة عادت معظم هذه الجماعات البشرية المهاجرة حتى التي في الشمال، مصحوبة بقطعان من الحيوانات الداجنة، وبثقافاتها المتطورة، وعاداتها الاجتماعية المستحدثة، وانتشرت في أماكنها الجديدة في أنحاء الجزيرة.
واليوم وضعت رؤية المملكة 2030 منذ إعلانها في 25 أبريل 2016، التراث القديم والتراث الوطني على وجه التحديد أحد أهم العناصر الأساسية في استراتيجيتها التنموية، بوصفهما رافدًا من روافد الاقتصاد الوطني نظير ما تتمتع به المملكة من ثروات تاريخية تعد امتدادًا لتاريخ الأمم والحضارات التي تعاقبت على أرضها منذ آلاف السنين وذكرت معظمها في القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ودعت رؤية المملكة إلى العمل على إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي القديم وتسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي، وتمكين الجميع من الوصول إليها على اعتبار أنها من الشواهد الحية على إرثنا العريق، والموقع البارز للمملكة على خريطة الحضارة الإنسانية التي منها طرق التجارة التي ربطت شبه الجزيرة وسواحلها بحضارات وادي النيل وبلاد ما بين النهرين، وازدهرت على أثرها بعض المدن في المملكة.
تقرير وكالة الأنباء السعودية ضمن ملفات النشرة السياحية للاتحاد وكالات الأنباء العربية "فانا"
تم تعديل (45) خطأ في هذا التقرير