ربيع محمود بشري
December 31st, 2019, 10:12
أم درمان - أحمد الياس حسين (الحوش) - هذا مقترع مشروع لدراسة تاريخ سكان السودان وتكوينهم الجيني ودراسة لغاتهم، والمقترح مقدم إلى كل المهتمين بتاريخ السودان مؤسسات وأفراد لكي تتضافر الجهود لإعداد خطط متكاملة في الجوانب التاريخية واللغوية والسلالات الجينية وكيفية تنفيذ تلك الخطط.
https://pbs.twimg.com/media/ENGSZ_KXYAApa_b?format=jpg
أهداف المشروع
يهدف هذا المشروع إلى دراسة تاريخ سكان السودان ولغاتهم القديمة والحالية وتكوينهم الجيني عبر العصور وبخاصة في الفترات السابقة للعصر الحديث. فدراسات تاريخ السودان لم تول اهتماماً كبيراً بالمكونات القديمة لسكان السودان، ورغم تناول بعضها لتاريخ السكان إلا أن شح المصادر وعدم اكتمال التعرف على اللغة الكوشية (المروية) حصرت نتائج الأبحاث في محاولة التعرف على أصول مؤسسي الكيانات السياسية المتعاقبة. ولم تستخدم أغلب تلك الدراسات نتائج أبحاث علم اللغة وعلم تاريخ المناخ وعلم السلالات الجينية (الحمض النووي DNA) التي أصبحت نتائجها من أهم مصادر التاريخ وبخاصة التاريخ القديم. ويسعى هذا المشروع إلى استخدام نتائج تلك العلوم في دراسة تاريخ سكان السودان ومكوناتهم الجينية ولغاتهم عبر العصور، وأقترح الآتي:
دراسة تاريخ كل مناخ السودان وبخاصة مناطق الصحارى الحالية مثل صحراء العتباي وصحارى غرب الولاية الشمالي وشمال دارفور وكردفان، ودراسة الأودية الجافة حالياً والتي كان بعضها أنهاراً دائمة الجريان مثل وادي هور. وتوضح مثل هذه الدراسات تاريخ سكان تلك المناطق وتراثهم الحضاري ومواطنهم المبكرة ومسار تحركاتهم مع تقلبات المناخ وتطور لغاتهم.
استخدام النتائج المتوفرة حالياً لعلم اللغات التاريخي Historical Linguistic والقيام بالمزيد من الدراسات للغات السودان الحالية وتصنيفها للتعرف على العلاقات وصلات القرابة بين مختلف مكونات السكان. فعلى سبيل المثال وضحت الدراسات أن لغة الانقسنا في جنوب شرق السودان ولغات النوبة في شمال السودان ولغات الفور والمساليت في غرب السودان ولغة الدينكا في دولة جنوب السودان تنتمي كلها لأسرة لغوية واحدة.
استخدام علم السلالات الجينية (الحمض النووي DNA) لدراسة التكوين الجيني لكل سكان السودان الحالين وما يتوفر من آثار السكان القدماء. ومثال ذلك دراسات هشام يوسف ومنتصر الطيب (2007-2009 و2008) والتي تم فيها أخذ عينات من بعض الهياكل العظمية التي ترجع إلى العصور القديمة، وعينات عشوائية لعدد من الذكور والإناث من أنحاء متفرقة من السودان. وأوضحت العينات القديمة أن أصحابها ينتمون إلى السلالات الأصيلة التي كونت سكان القارة الافريقية، كما أوضحت نتائج العينات الحديثة الصلات الجينية بين سكان الشمال والجنوب والشرق والغرب وبينهم وبين السكان القدماء. ورغم ان العينات التي تم فحصها – القديمة والحديثة – قليلة إلا أنها تعتبر مؤشراً لمكونات السكان. والمزيد من التحاليل للسكان يوضح بصورة جلية سلالات السكان الحاليين وعلاقتهم بالسكان القدماء.
تكثيف البحث عن المصادر التاريخية والآثارية عن السكان، وحث أقسام التاريخ والمراكز المتخصصة للتوجه نحو دراسات تاريخ السكان وتاريخ المدن القديمة ودراسة التراث الثقافي الشفهي والمادي. وضرورة العمل على اسهام الدولة ودعم ميزانيات الهيئة القومية للآثار وأقسام الآثار في الجامعات لضرورة المسح الآثاري والتنقيب للكشف عن الماضي الغائب والمستوطنات البشرية القديمة. فعلى سبيل المثال أدى المسح الاثرى المحدود الذي صاحب تعبيد طريق شريان الشمال بين أم درمان والملتقى (قنتي) إلى اكتشاف الاستيطان البشري المتواصل في صحراء بيوضة منذ العصر الحجري الحديث وحتى العصر المسيحي.
وسأشرع بإلقاء بعض الضوء على بعض جوانب المشروع كمقدمات ومداخل لدراسة الموضوعات المقترحة.
https://almoheet.net/wp-content/uploads/2019/01/%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86.jpg
مقـــدمة
التعرف على تركيبة سكان السودان وتحركاتهم عبر العصور يتطلب التعرف على تركيبة تاريخ سكان افريقيا جنوب الصحراء لأن سكان السودان تواصلوا وتفاعلوا عبر العصور مع سكان مناطق جنوب الصحراء وبخاصة المنطقة الواقعة بين بحيرة تشاد والبحر الأحمر والتي سنشير إليها هنا بالجزء الشرقي من الصحراء الكبرى. فقد أدت الأوضاع الطبيعية إلى تحركات السكان المتواصلة عبر العصور في هذه المنطقة. ويلاحظ أن تاريخ التكوين السكاني لافريقيا جنوب الصحراء يختلف عن التكوين السكاني لغرب أوربا الذي كون سكان فرنسا والبِنِلُكس الذين تعرضنا لهما في مقالنا السابق.
فالتركيبة السكانية في فرنسا والبِنِلُكس تنتمي إلى تركيبة سكان غرب أوربا التي تكونت عبر العصور من خليط من شعوب البحر المتوسط وهجرات من شمال أوربا مثل هجرات القبائل الجرمانية، وهجرات من أواسط آسيا مثل هجرات الهون. ولذلك يبدو عدم التجانس في مكونات شعوب البِنِلُكس وفرنسا لتعرضهم لهجرات شعوب ذات أصول مختلفة من شمال وجنوب أوربا ومن خارجها، بخلاف التكوين الجيني لسكان السودان والذي أراه متجانساً. فسكان السودان لم يتعرضوا في تاريخهم القديم لهجرات من خارج القارة كما حدث لفرنسا والبنلكس، أو كما حدث في شمال افريقيا.
فالمكون الجيني لسكان افريقيا القدماء ينتمي إلى السلالات المحلية التي نشأت في افريقيا وعمرتها وهي السلالات A وB وE إلى جانب السلالات الأخرى التي انتشرت في افريقيا وحوض البحر المتوسط مثل السلالة R. فسكان منطقة ما بين البحر الأحمر ودولة تشاد ترجع أصولهم للسلالات المحلية القديمة التي كونت سكان افريقيا، وخرجت سلالاتهم - كما وضحت ذلك نتائج أبحاث الحمض النووي - لتُكَون باقي سكان العالم. كما توصلت نتائج أبحاث الحمض النووي إلى أن سكان المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر وبحيرة تشاد يمثلون أقدم السلالات البشرية في العالم. فسكان السودان ينتمون إلى هذه السلالات المحلية القديمة، ولم يتعرض سكان السودان في تاريخهم المبكر إلى هجرات من خارج القارة.
فلم يرصد الباحثون حدوث هجرات من خارج القارة ما عدا ما ورد عن بعض هجرات العودة إلى افريقيا في بدايات العصر الحجري الحديث من منطقتي غرب آسيا وغرب أوربا التي تأثرت بها بهض مناطق شمال افريقيا. والهجرات التي دخلت افريقيا في العصور القديمة عبر سيناء أو من البحر المتوسط لم تصل إلى السودان، بل ظل تأثيرها محصوراً في شمال افريقيا. والهجرات العربية القديمة التي دخلت الحبشة لم يصل أثرها للسودان. فالهجرات القديمة من اليمن تأثرت بها منطقة الحبشة وساحل البحر ألحمر الجنوبي حتى أصبحت بعض لغات تلك المناطق تنتمي إلى أسرة اللغات السامية بخلاف اللغات السودانية القديمة في مناطق الشرق والتي ل تنتمي إلى اللغة السامية بل تنتمي إلى اللغات الكوشية والسودانية الشمالية الشرقية.
فالتركيب السكاني للسودان القديم تأثر بتحركات السكان المحليين من وقت لآخر بسبب التغيرات المناخية المبكرة والتي تأثرت بها قارة افريقيا. فالتكوين الجيني لسكان افريقيا جنوب الصحراء تأثر إلى حد بعيد بالتغيرات المناخية. فقد تعاقبت في العالم فترات متتالية من التغيرات المناخية الكبرى كان آخرها التغير المناخي الرطب المعروف بعصر الهُلوسين نحو عشر ألف سنة مضت والذي لا نزال نعيش امتداد عصره. (Szabo, B. J. 1995, 227)
وقد توفرت مصادر المياه في بداية هذا العصر في المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي. وبدأت دورة جديدة من الحياة تمتعت فيها المنطقة بمناخ رطب، وظهر إقليم السافنا المدارية في المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر وبحيرة تشاد، وانتشرت الحشائش إلى نحو 600 كم شمال امتدادها الحالي، وارتفع الفاصل المداري بنحو 800 كيلو متر فبلغ خط عرض 24 درجة شمالاً، أي وصل إلى شمال حدود السودان الحالية، فارتفعت نسبت هطول الأمطار وتكونت البحيرات والأنهار. وكان طرف الصحراء الشمالي يمتد شمال موقعه الحالي بنحو 500 كيلو متر. (Yletyinen, p 21 ,Neumann, 1989, p 13)
ولذلك فقد تمتعت المناطق الصحراوية الحالية في السودان بنسب عالية من الأمطار، وتكونت فيها الأنهار دائمة الجريان والبحيرات العذبة حيث لا تزال آثارها باقية في الواحات الحالية والأودية المنتشرة في المنطقة. (Manning, and Timpson, p 28 Pachur,1997; El Skeikh et al)
فعلى سبيل المثال كان وادي هور كان نهراً دائم الجريان أطلق عليه الباحثون النهر الأصفر، وكانت الحياة عليه عامرة منذ بداية عصر الهُلوسين، وكانت توجد بحيرة مساحتها نحو ستة كيلو متر مربع جنوب النيل الأصفر بينه وبين جبل تقرو تؤرخ بقايا الأحياء المائية فيها بنحو الألف الثامن قبل الميلاد. وقد جفت البحيرة نحو منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. (Pachur and Kropelin, p 300) و(احمد الياس، وادي هور)
وتحف بالجهة الشرقية لجبل تقرو حمادة ومصارف مياه صغيرة. أما الجانب الغربي لجبل تقرو فيتكون فيه سهل يمتد غرباً وجنوباً من بقايا مياه الجبل والمياه الآتية من جبل ميدوب إلى وادي مجرور. ويُكوِّن هذا المنخفض بيئة نهرية وبحرية بمستنقعات وبحيرات غير عميقة. وفي هذه المنطقة أيضاً وادي الخُديرة العميق. وقد تمتعت كل صحارى شمال كردفان ودارفور - بمناخ رطب منذ الألف الثامن قبل الميلاد. (Nicoll p 571, Kedding, p 94)
وكان وادي الملك أحد روافد النيل المهمة في الفترة بين الألفين الخامس والثالث قبل الميلاد. Nicoll, 2004, 568; Yletyinen, 2009, p 9 كما كان في صحراء بيوضة عدد من البحيرات ومجاري المياه الدائمة والموسمية التي لا زالت آثارها باقية حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ تُلاحَظ تلك الآثار في الملاحات المتواجدة بالقرب من النيل وفي وسط الصحراء، (El-Toum) وفي مجاري الأودية مثل وادي أبدوم ووادي المقدم.
وقد أوضحت الدراسات التي تمت في وادي المقدم أنه تمتع بفترة رطبة في فترة الهلوسين ويعتقد أنه كانت هنالك بحيرة في عصر الهلوسين المبكر جنوب منطقة الخرطوم يخرج منها نهر يتجه نحو الشمال الغربي وهو ما بعرف الآن بوادي المقدم الذي يصب في النيل في منطقة كورتي الحالية. ويرى بعض الباحثين أن وادي المقدم كان قناة ربطت النيل الأبيض بالنيل. (Fuller and Smith p 26)
ولم تكن كل فترة الهلوسين رطبة بل تخللتها فترات جفاف ورطوبة، وقد بدأ الجفاف الدائم يضرب المناطق غرب دولة مصر الحالية ويتجه ببطء جنوباً منذ منتصف الألف السادس قبل الميلاد، فقلت نسبة هطول الأمطار وبدأت البحيرات في الجفاف (Rilly 2009) وبدأت التحركات السكانية. كما بدأ الجفاف أيضاً في منطقة شرق النيل (صحراء العتباي الحالية) أدى كل ذلك إلى تحركات سكانية متتالية في كل هذه المناطق وفقاً للتقلبات المناخية. وقد لعبت تلك التحركات دوراً كبيراً عبر العصور في تركيبة سكان افريقيا جنوب الصحراء بما في ذلك سكان السودان.
ونتابع --- تحركات السكان في السودان
https://alhowsh.com/contents/newsm/92028.jpg
بقلم: د. أحمد الياس حسين
المـراجع (https://alhowsh.com/news.php?action=show&id=92028)
https://pbs.twimg.com/media/ENGSZ_KXYAApa_b?format=jpg
أهداف المشروع
يهدف هذا المشروع إلى دراسة تاريخ سكان السودان ولغاتهم القديمة والحالية وتكوينهم الجيني عبر العصور وبخاصة في الفترات السابقة للعصر الحديث. فدراسات تاريخ السودان لم تول اهتماماً كبيراً بالمكونات القديمة لسكان السودان، ورغم تناول بعضها لتاريخ السكان إلا أن شح المصادر وعدم اكتمال التعرف على اللغة الكوشية (المروية) حصرت نتائج الأبحاث في محاولة التعرف على أصول مؤسسي الكيانات السياسية المتعاقبة. ولم تستخدم أغلب تلك الدراسات نتائج أبحاث علم اللغة وعلم تاريخ المناخ وعلم السلالات الجينية (الحمض النووي DNA) التي أصبحت نتائجها من أهم مصادر التاريخ وبخاصة التاريخ القديم. ويسعى هذا المشروع إلى استخدام نتائج تلك العلوم في دراسة تاريخ سكان السودان ومكوناتهم الجينية ولغاتهم عبر العصور، وأقترح الآتي:
دراسة تاريخ كل مناخ السودان وبخاصة مناطق الصحارى الحالية مثل صحراء العتباي وصحارى غرب الولاية الشمالي وشمال دارفور وكردفان، ودراسة الأودية الجافة حالياً والتي كان بعضها أنهاراً دائمة الجريان مثل وادي هور. وتوضح مثل هذه الدراسات تاريخ سكان تلك المناطق وتراثهم الحضاري ومواطنهم المبكرة ومسار تحركاتهم مع تقلبات المناخ وتطور لغاتهم.
استخدام النتائج المتوفرة حالياً لعلم اللغات التاريخي Historical Linguistic والقيام بالمزيد من الدراسات للغات السودان الحالية وتصنيفها للتعرف على العلاقات وصلات القرابة بين مختلف مكونات السكان. فعلى سبيل المثال وضحت الدراسات أن لغة الانقسنا في جنوب شرق السودان ولغات النوبة في شمال السودان ولغات الفور والمساليت في غرب السودان ولغة الدينكا في دولة جنوب السودان تنتمي كلها لأسرة لغوية واحدة.
استخدام علم السلالات الجينية (الحمض النووي DNA) لدراسة التكوين الجيني لكل سكان السودان الحالين وما يتوفر من آثار السكان القدماء. ومثال ذلك دراسات هشام يوسف ومنتصر الطيب (2007-2009 و2008) والتي تم فيها أخذ عينات من بعض الهياكل العظمية التي ترجع إلى العصور القديمة، وعينات عشوائية لعدد من الذكور والإناث من أنحاء متفرقة من السودان. وأوضحت العينات القديمة أن أصحابها ينتمون إلى السلالات الأصيلة التي كونت سكان القارة الافريقية، كما أوضحت نتائج العينات الحديثة الصلات الجينية بين سكان الشمال والجنوب والشرق والغرب وبينهم وبين السكان القدماء. ورغم ان العينات التي تم فحصها – القديمة والحديثة – قليلة إلا أنها تعتبر مؤشراً لمكونات السكان. والمزيد من التحاليل للسكان يوضح بصورة جلية سلالات السكان الحاليين وعلاقتهم بالسكان القدماء.
تكثيف البحث عن المصادر التاريخية والآثارية عن السكان، وحث أقسام التاريخ والمراكز المتخصصة للتوجه نحو دراسات تاريخ السكان وتاريخ المدن القديمة ودراسة التراث الثقافي الشفهي والمادي. وضرورة العمل على اسهام الدولة ودعم ميزانيات الهيئة القومية للآثار وأقسام الآثار في الجامعات لضرورة المسح الآثاري والتنقيب للكشف عن الماضي الغائب والمستوطنات البشرية القديمة. فعلى سبيل المثال أدى المسح الاثرى المحدود الذي صاحب تعبيد طريق شريان الشمال بين أم درمان والملتقى (قنتي) إلى اكتشاف الاستيطان البشري المتواصل في صحراء بيوضة منذ العصر الحجري الحديث وحتى العصر المسيحي.
وسأشرع بإلقاء بعض الضوء على بعض جوانب المشروع كمقدمات ومداخل لدراسة الموضوعات المقترحة.
https://almoheet.net/wp-content/uploads/2019/01/%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86.jpg
مقـــدمة
التعرف على تركيبة سكان السودان وتحركاتهم عبر العصور يتطلب التعرف على تركيبة تاريخ سكان افريقيا جنوب الصحراء لأن سكان السودان تواصلوا وتفاعلوا عبر العصور مع سكان مناطق جنوب الصحراء وبخاصة المنطقة الواقعة بين بحيرة تشاد والبحر الأحمر والتي سنشير إليها هنا بالجزء الشرقي من الصحراء الكبرى. فقد أدت الأوضاع الطبيعية إلى تحركات السكان المتواصلة عبر العصور في هذه المنطقة. ويلاحظ أن تاريخ التكوين السكاني لافريقيا جنوب الصحراء يختلف عن التكوين السكاني لغرب أوربا الذي كون سكان فرنسا والبِنِلُكس الذين تعرضنا لهما في مقالنا السابق.
فالتركيبة السكانية في فرنسا والبِنِلُكس تنتمي إلى تركيبة سكان غرب أوربا التي تكونت عبر العصور من خليط من شعوب البحر المتوسط وهجرات من شمال أوربا مثل هجرات القبائل الجرمانية، وهجرات من أواسط آسيا مثل هجرات الهون. ولذلك يبدو عدم التجانس في مكونات شعوب البِنِلُكس وفرنسا لتعرضهم لهجرات شعوب ذات أصول مختلفة من شمال وجنوب أوربا ومن خارجها، بخلاف التكوين الجيني لسكان السودان والذي أراه متجانساً. فسكان السودان لم يتعرضوا في تاريخهم القديم لهجرات من خارج القارة كما حدث لفرنسا والبنلكس، أو كما حدث في شمال افريقيا.
فالمكون الجيني لسكان افريقيا القدماء ينتمي إلى السلالات المحلية التي نشأت في افريقيا وعمرتها وهي السلالات A وB وE إلى جانب السلالات الأخرى التي انتشرت في افريقيا وحوض البحر المتوسط مثل السلالة R. فسكان منطقة ما بين البحر الأحمر ودولة تشاد ترجع أصولهم للسلالات المحلية القديمة التي كونت سكان افريقيا، وخرجت سلالاتهم - كما وضحت ذلك نتائج أبحاث الحمض النووي - لتُكَون باقي سكان العالم. كما توصلت نتائج أبحاث الحمض النووي إلى أن سكان المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر وبحيرة تشاد يمثلون أقدم السلالات البشرية في العالم. فسكان السودان ينتمون إلى هذه السلالات المحلية القديمة، ولم يتعرض سكان السودان في تاريخهم المبكر إلى هجرات من خارج القارة.
فلم يرصد الباحثون حدوث هجرات من خارج القارة ما عدا ما ورد عن بعض هجرات العودة إلى افريقيا في بدايات العصر الحجري الحديث من منطقتي غرب آسيا وغرب أوربا التي تأثرت بها بهض مناطق شمال افريقيا. والهجرات التي دخلت افريقيا في العصور القديمة عبر سيناء أو من البحر المتوسط لم تصل إلى السودان، بل ظل تأثيرها محصوراً في شمال افريقيا. والهجرات العربية القديمة التي دخلت الحبشة لم يصل أثرها للسودان. فالهجرات القديمة من اليمن تأثرت بها منطقة الحبشة وساحل البحر ألحمر الجنوبي حتى أصبحت بعض لغات تلك المناطق تنتمي إلى أسرة اللغات السامية بخلاف اللغات السودانية القديمة في مناطق الشرق والتي ل تنتمي إلى اللغة السامية بل تنتمي إلى اللغات الكوشية والسودانية الشمالية الشرقية.
فالتركيب السكاني للسودان القديم تأثر بتحركات السكان المحليين من وقت لآخر بسبب التغيرات المناخية المبكرة والتي تأثرت بها قارة افريقيا. فالتكوين الجيني لسكان افريقيا جنوب الصحراء تأثر إلى حد بعيد بالتغيرات المناخية. فقد تعاقبت في العالم فترات متتالية من التغيرات المناخية الكبرى كان آخرها التغير المناخي الرطب المعروف بعصر الهُلوسين نحو عشر ألف سنة مضت والذي لا نزال نعيش امتداد عصره. (Szabo, B. J. 1995, 227)
وقد توفرت مصادر المياه في بداية هذا العصر في المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي. وبدأت دورة جديدة من الحياة تمتعت فيها المنطقة بمناخ رطب، وظهر إقليم السافنا المدارية في المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر وبحيرة تشاد، وانتشرت الحشائش إلى نحو 600 كم شمال امتدادها الحالي، وارتفع الفاصل المداري بنحو 800 كيلو متر فبلغ خط عرض 24 درجة شمالاً، أي وصل إلى شمال حدود السودان الحالية، فارتفعت نسبت هطول الأمطار وتكونت البحيرات والأنهار. وكان طرف الصحراء الشمالي يمتد شمال موقعه الحالي بنحو 500 كيلو متر. (Yletyinen, p 21 ,Neumann, 1989, p 13)
ولذلك فقد تمتعت المناطق الصحراوية الحالية في السودان بنسب عالية من الأمطار، وتكونت فيها الأنهار دائمة الجريان والبحيرات العذبة حيث لا تزال آثارها باقية في الواحات الحالية والأودية المنتشرة في المنطقة. (Manning, and Timpson, p 28 Pachur,1997; El Skeikh et al)
فعلى سبيل المثال كان وادي هور كان نهراً دائم الجريان أطلق عليه الباحثون النهر الأصفر، وكانت الحياة عليه عامرة منذ بداية عصر الهُلوسين، وكانت توجد بحيرة مساحتها نحو ستة كيلو متر مربع جنوب النيل الأصفر بينه وبين جبل تقرو تؤرخ بقايا الأحياء المائية فيها بنحو الألف الثامن قبل الميلاد. وقد جفت البحيرة نحو منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. (Pachur and Kropelin, p 300) و(احمد الياس، وادي هور)
وتحف بالجهة الشرقية لجبل تقرو حمادة ومصارف مياه صغيرة. أما الجانب الغربي لجبل تقرو فيتكون فيه سهل يمتد غرباً وجنوباً من بقايا مياه الجبل والمياه الآتية من جبل ميدوب إلى وادي مجرور. ويُكوِّن هذا المنخفض بيئة نهرية وبحرية بمستنقعات وبحيرات غير عميقة. وفي هذه المنطقة أيضاً وادي الخُديرة العميق. وقد تمتعت كل صحارى شمال كردفان ودارفور - بمناخ رطب منذ الألف الثامن قبل الميلاد. (Nicoll p 571, Kedding, p 94)
وكان وادي الملك أحد روافد النيل المهمة في الفترة بين الألفين الخامس والثالث قبل الميلاد. Nicoll, 2004, 568; Yletyinen, 2009, p 9 كما كان في صحراء بيوضة عدد من البحيرات ومجاري المياه الدائمة والموسمية التي لا زالت آثارها باقية حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ تُلاحَظ تلك الآثار في الملاحات المتواجدة بالقرب من النيل وفي وسط الصحراء، (El-Toum) وفي مجاري الأودية مثل وادي أبدوم ووادي المقدم.
وقد أوضحت الدراسات التي تمت في وادي المقدم أنه تمتع بفترة رطبة في فترة الهلوسين ويعتقد أنه كانت هنالك بحيرة في عصر الهلوسين المبكر جنوب منطقة الخرطوم يخرج منها نهر يتجه نحو الشمال الغربي وهو ما بعرف الآن بوادي المقدم الذي يصب في النيل في منطقة كورتي الحالية. ويرى بعض الباحثين أن وادي المقدم كان قناة ربطت النيل الأبيض بالنيل. (Fuller and Smith p 26)
ولم تكن كل فترة الهلوسين رطبة بل تخللتها فترات جفاف ورطوبة، وقد بدأ الجفاف الدائم يضرب المناطق غرب دولة مصر الحالية ويتجه ببطء جنوباً منذ منتصف الألف السادس قبل الميلاد، فقلت نسبة هطول الأمطار وبدأت البحيرات في الجفاف (Rilly 2009) وبدأت التحركات السكانية. كما بدأ الجفاف أيضاً في منطقة شرق النيل (صحراء العتباي الحالية) أدى كل ذلك إلى تحركات سكانية متتالية في كل هذه المناطق وفقاً للتقلبات المناخية. وقد لعبت تلك التحركات دوراً كبيراً عبر العصور في تركيبة سكان افريقيا جنوب الصحراء بما في ذلك سكان السودان.
ونتابع --- تحركات السكان في السودان
https://alhowsh.com/contents/newsm/92028.jpg
بقلم: د. أحمد الياس حسين
المـراجع (https://alhowsh.com/news.php?action=show&id=92028)