نسرين صدقة سعيد
August 3rd, 2015, 04:17
رضا حريري (شباب بيتا) - نظر حسّان إلى ما بقي ظاهراً من الشجرة الطويلة المقابلة لمحله، وحاول أن يتذكّر متى غطّتها النفايات من دون أن ينجح. منذ زمنٍ بعيد لم يرَ طيوراً تحطّ على الشجرة لترتاح، ربّما منذ اليوم الذي قرّر فيه أنّه لن يعرض مزيداً من الأزهار للبيع. عاد إلى داخل المحل، وجلس على كرسيه. صار يقضي نهاراته هكذا. يتسلّق كلّ صباح جبل النفايات الذي أغلق الطريق ليفتح محله الفارغ، يجلس على الكرسي لبعض الوقت، ثم يخرج ليقف في الشارع قليلاً.
http://shabab.assafir.com/Photos/52ad82b6-ff03-4f20-b3d3-3581ff224819.jpg
لم تعنِ له بيروت يوماً شيئاً خاصاً. كانت المدينة التي ولد فيها، وكان يمكن أن يولد في مدينةٍ أخرى من دون أن يحس بأي شيءٍ مختلف. في الحقيقة، لم يحس يوماً بشيء مختلفٍ تجاه أي أمر: عمل مع والده في المحل لأنّه طلب منه ذلك، تزوّج لأن والدته اختارت له عروساً، أنجب أولاداً لأنّ عليه إنجاب الأولاد، وصار الجميع ينادونه بأبي ربيع، لأنّه أنجب صبياً أسماه ربيعاً. لم يحسّ يوماً بشيءٍ مختلف تجاه أي شيء، سوى أمرين: سلمى التي ضاعت منه قبل ثلاثين عاماً، ووروده التي لم يعد يبيعها منذ أن صارت تموت كلّما عرّضها للهواء.
بينما هو مستغرق في أفكاره، لمح عبر الواجهة الزجاجية شيئاً ما يتحرّك في الزبالة. خاف قليلاً، ثمّ فكّر بأنّ هذا مجرّد جرذ. جرذ أكبر قليلاً من بقية الجرذان. "من الطبيعي أنّ تتضخّم الجرذان في حالاتٍ كهذه"، قال محاولاً طمأنة نفسه. لكنّ تضخّم حركة الشيء الذي كان يتحرّك تحت الزبالة، عاد وأرعبه. اهتزّ الشارع بأكمله، الأرض من تحته اهتزّت، وكاد أن يقع عن كرسيّه. ثبّت النظّارات على عينيه، ليرى مخلوقاً غريباً، هائل الحجم يخرج من بين النفايات. كائنٌ مخلوقٌ من الزبالة، له رأسٌ ويدان وقدمان وفم هائل الحجم.
وقع على الأرض، وهو يتفرّج على الوحش الذي يتثاءب ويعرك عينيه. فكّر بما يجب عليه أن يفعله. أحسّ ببيروت لأوّل مرّة في حياته. أحسّ بها بشكلٍ مادي، وأصيب بالحزن، من دون أن يعرف ما يجب عليه فعله. توقّفت شبكة الاتصالات في بيروت منذ فترة طويلة، ومثلها شبكة الإنترنت، التي لم يتعلّم أصلاً استعمالها. تسلّق بحذرٍ جبل النفايات مخافة أن يثير الوحش المستلقي على الأرض، وركض إلى الشارع الرئيسي. صار يستوقف الناس ويحكي لهم، لكنّ الناس الذين كانوا شديدي التجهم، لم يستمعوا إليه. كانوا يشيرون بنزقٍ إلى الكمّامات التي تحجب أفواههم وأنوفهم، قبل أن يواصلوا سيرهم. ثمّ أحسّ بصوت تجشّؤ بعيد، وبالأرض تتحرّك تحت قدميه. عرف أن الوحش قام. لم يكن بحاجة لأن يصرخ في الناس ليهربوا. كانوا يركضون مصدرين أصواتاً غير مفهومةٍ من خلف كمّاماتهم.
ركض مسرعاً إلى شارعه، حيث رأى الوحش يلتهم جبل الزبالة الذي تكوّن فيه. كان الوحش يأكل الزبالة فقط، لكنّه كان يدمّر أي شيءٍ يقف في طريقه. الناس، الأبنية، ما تبقى من سياراتٍ متوقّفةٍ على جانبي الطريق. وفجأةً ظهرت مجموعاتٌ مسلّحة في الشارع وأخذت تطلق النار على الوحش، لكنّ الأخير واصل سيره من دون اكتراث.
فكّر حسّان بأنّ الوحش لا ذنب له. بيروت خلقته. فكّر حسّان بأنّ الوحش لا يأكل سوى النفايات، لكنّه أعمى فيقتل ويدمّر لأنّه لا يرى. فكّر حسّان بأنّ عليه إنقاذ بيروت، وأحسّ أنّه يحبّها. كان حسّان يفكّر ويفكّر، قبل أن ينتبه للصمت الذي أطبق على المدينة. ركض إلى مكان الوحش، فرآه متوقّفاً. اقترب منه أكثر فرأى أقحوانةً صغيرةً، ظهرت من لا مكان، تسدّ طريقه. خرجت مجموعةٌ مسلّحةٌ أخرى، داس أحد عناصرها الأقحوانة، فجنّ وحش النفايات من جديد، وواصل سيره.
فكّر حسّان بأنّ الأقحوانة أوقفت الوحش. فكّر حسّان بأن عليه إخراج الورود التي احتفظ بها من قبوه لإنقاذ بيروت. فكّر حسّان بسلمى، وتمنى لو كانت ستستقبله عند وصوله إلى القبو. ثمّ بدأ بالركض مسرعاً.
http://shabab.assafir.com/Photos/52ad82b6-ff03-4f20-b3d3-3581ff224819.jpg
لم تعنِ له بيروت يوماً شيئاً خاصاً. كانت المدينة التي ولد فيها، وكان يمكن أن يولد في مدينةٍ أخرى من دون أن يحس بأي شيءٍ مختلف. في الحقيقة، لم يحس يوماً بشيء مختلفٍ تجاه أي أمر: عمل مع والده في المحل لأنّه طلب منه ذلك، تزوّج لأن والدته اختارت له عروساً، أنجب أولاداً لأنّ عليه إنجاب الأولاد، وصار الجميع ينادونه بأبي ربيع، لأنّه أنجب صبياً أسماه ربيعاً. لم يحسّ يوماً بشيءٍ مختلف تجاه أي شيء، سوى أمرين: سلمى التي ضاعت منه قبل ثلاثين عاماً، ووروده التي لم يعد يبيعها منذ أن صارت تموت كلّما عرّضها للهواء.
بينما هو مستغرق في أفكاره، لمح عبر الواجهة الزجاجية شيئاً ما يتحرّك في الزبالة. خاف قليلاً، ثمّ فكّر بأنّ هذا مجرّد جرذ. جرذ أكبر قليلاً من بقية الجرذان. "من الطبيعي أنّ تتضخّم الجرذان في حالاتٍ كهذه"، قال محاولاً طمأنة نفسه. لكنّ تضخّم حركة الشيء الذي كان يتحرّك تحت الزبالة، عاد وأرعبه. اهتزّ الشارع بأكمله، الأرض من تحته اهتزّت، وكاد أن يقع عن كرسيّه. ثبّت النظّارات على عينيه، ليرى مخلوقاً غريباً، هائل الحجم يخرج من بين النفايات. كائنٌ مخلوقٌ من الزبالة، له رأسٌ ويدان وقدمان وفم هائل الحجم.
وقع على الأرض، وهو يتفرّج على الوحش الذي يتثاءب ويعرك عينيه. فكّر بما يجب عليه أن يفعله. أحسّ ببيروت لأوّل مرّة في حياته. أحسّ بها بشكلٍ مادي، وأصيب بالحزن، من دون أن يعرف ما يجب عليه فعله. توقّفت شبكة الاتصالات في بيروت منذ فترة طويلة، ومثلها شبكة الإنترنت، التي لم يتعلّم أصلاً استعمالها. تسلّق بحذرٍ جبل النفايات مخافة أن يثير الوحش المستلقي على الأرض، وركض إلى الشارع الرئيسي. صار يستوقف الناس ويحكي لهم، لكنّ الناس الذين كانوا شديدي التجهم، لم يستمعوا إليه. كانوا يشيرون بنزقٍ إلى الكمّامات التي تحجب أفواههم وأنوفهم، قبل أن يواصلوا سيرهم. ثمّ أحسّ بصوت تجشّؤ بعيد، وبالأرض تتحرّك تحت قدميه. عرف أن الوحش قام. لم يكن بحاجة لأن يصرخ في الناس ليهربوا. كانوا يركضون مصدرين أصواتاً غير مفهومةٍ من خلف كمّاماتهم.
ركض مسرعاً إلى شارعه، حيث رأى الوحش يلتهم جبل الزبالة الذي تكوّن فيه. كان الوحش يأكل الزبالة فقط، لكنّه كان يدمّر أي شيءٍ يقف في طريقه. الناس، الأبنية، ما تبقى من سياراتٍ متوقّفةٍ على جانبي الطريق. وفجأةً ظهرت مجموعاتٌ مسلّحة في الشارع وأخذت تطلق النار على الوحش، لكنّ الأخير واصل سيره من دون اكتراث.
فكّر حسّان بأنّ الوحش لا ذنب له. بيروت خلقته. فكّر حسّان بأنّ الوحش لا يأكل سوى النفايات، لكنّه أعمى فيقتل ويدمّر لأنّه لا يرى. فكّر حسّان بأنّ عليه إنقاذ بيروت، وأحسّ أنّه يحبّها. كان حسّان يفكّر ويفكّر، قبل أن ينتبه للصمت الذي أطبق على المدينة. ركض إلى مكان الوحش، فرآه متوقّفاً. اقترب منه أكثر فرأى أقحوانةً صغيرةً، ظهرت من لا مكان، تسدّ طريقه. خرجت مجموعةٌ مسلّحةٌ أخرى، داس أحد عناصرها الأقحوانة، فجنّ وحش النفايات من جديد، وواصل سيره.
فكّر حسّان بأنّ الأقحوانة أوقفت الوحش. فكّر حسّان بأن عليه إخراج الورود التي احتفظ بها من قبوه لإنقاذ بيروت. فكّر حسّان بسلمى، وتمنى لو كانت ستستقبله عند وصوله إلى القبو. ثمّ بدأ بالركض مسرعاً.