نجلاء كتبي
November 9th, 2014, 15:21
ابراهيم محمد (دويتشه ﭭيله) : يقضم التوسع العمراني العشوائي الأراضي الزراعية المحدودة في الكثير من الدول العربية دون رحمة. وهو الأمر الذي يفاقم مشكلة الأمن الغذائي في ظل عجز السلطات عن حماية هذه الأراضي وتشجيع المزارعين على التمسك بها.
http://www.dw.de/image/0,,17810445_303,00.jpg
يشكل توفير الغذاء للسكان مقياسا مهما للكم على حسن الأداء السياسي للأنظمة الحاكمة، وهناك الكثير من الدول التي تستخدم الغذاء كسلاح سياسي ضد دول أخرى، لتجبرها على استيراده، فخلال سنوات الحرب الباردة على سبيل المثال كانت مبيعات القمح الغربية إلى الاتحاد السوفيتي مرتبطة بتحقيق أهداف سياسية. وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على هذه المبيعات إلى مصر والمغرب ودول عربية أخرى. وعليه فإن الفليسلوف والشاعر اللبناني الراحل جبران خليل جبران كان محقا عندما حذر قبل نحو مائة عام من التهاون في إنتاج الغذاء بأيدي أبناء البلد عندما قال: "ويل لأمة لا تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج".
وفي دراسة نشرتها مجلة السياسة الخارجية/ فورن بوليسي يشرح الكاتب الأمريكي ليستر براون مؤلف كتاب "العالم على حافة الهاوية" كيف أصبح الغذاء عاملا هاما في السياسات العالمية. ويرى براون بأن أزمة الغذاء أضحت مشكلة حقيقية تجلب معها موجة اضطرابات سياسية واقتصادية في دول تعاني من ضائقات مثل تونس ومصر ودول الشرق الأوسط وباقي دول شمال أفريقيا، مع العلم أنه لم ينفي دور العوامل الأخرى كغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في اندلاع الثورات.
العقارات تدمر الأراضي الزراعية
السؤال الذي يطرح نفسه هنا يدور حول كيفية تعامل الدول العربية مع الأراضي الزراعية المنتجة للأغذية، لاسيما وأن العجز الغذائي في العالم العربي تضاعف عدة مرات خلال العقود الأربعة الماضية. كما تكررت مؤخرا تحذيرات برنامج الأغذية العالمي والهيئات العربية والدولية المتخصصة من مخاطر ضعف الأمن الغذائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتأتي هذه التحذيرات على ضوء حاجة الكثير من الدول العربية إلى مزيد من الدعم والقروض لتمكينها من استيراد الأغذية ومنع حصول مجاعات فيها. على سبيل المثال حصل اليمن مؤخرا على منحة مالية بقيمة نصف مليار دولار من برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة لمساعدة الحكومة على مواجهة تحدي نقص الغذاء. وإلى جانب اليمن فإن دولا عربية أخرى كمصر والمغرب والأردن تضطر للحصول على منح مماثلة من فترة لأخرى عبر جهات عربية ودولية.
http://www.dw.de/image/0,,16103297_404,00.jpg
قطعان ماشية في السودان الذي كان من المفترض حسب صناع القرار في
الدول العربية تحويله إلى سلة الغذاء العربي منذ سبعينات القرن الماضي.
عندما يحلق المرء بالطائرة فوق القاهرة يتوقع رؤية مناطق زراعية خضراء شاسعة على أطراف النيل وشبكات مياه تهبها الحياة. لكن هذا المنظر يبقى مجرد حلم أمام الانتشار الكاسح للمدن والضواحي الأسمنتية الكالحة التي قضمت المساحات الزراعية المحدودة وسط الصحارى والبوادي الشاسعة. وهكذا فإن الزراعات المحيطة بالمدينة لم تعد قادرة على تزويد المدينة بالخضار والفواكه، وبالتالي يتم استيرادها من مناطق بعيدة. حالة القاهرة من اختفاء المساحات الخصبة تتكرر في مختلف الدول العربية التي يفترض أنها تعتمد بشكل أساسي على الزراعة المحلية في توفير منتجاتها الغذائية الأساسية. أيضا، العاصمة اللبنانية بيروت فقدت خلال العقود الثلاثة الماضية من محيطها الزراعي بشكل شبه كامل لصالح الأبنية الأسمنتية. كما أن غوطة دمشق التي تشهد حاليا حربا مدمرة في إطار الأزمة السورية المستمرة منذ أربعة أعوام لم تعد منذ تسعينات القرن الماضي قادرة على تموين المدينة سوى بجزء محدود من خضارها وفواكهها اليومية بفعل الزحف العمراني على أرضها الخصبة.
تواطؤ وسياسات دعم خاطئة
تدمير الأراضي الزراعية هذا حصل لأسباب عديدة أبرزها الأرباح العالية للاستثمار في العقارات، والطلب المتزايد على السكن والاستثمارات السياحية، وعدم توفير مخططات عمرانية خارج نطاق المناطق الزراعية، لاسيما في البوادي والصحاري الشاسعة القريبة من المدن وتواطؤ المسؤولين والإدارات الحكومية مع التجار من خلال الرشوة وغض النظر عن المخالفات. ومع اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي ترددت مؤخرا الأنباء عن تزايد مخالفات البناء لاسيما في مصر وسوريا واليمن والستيلاء على مناطق عديدة في مقدمتها الأراضي الزراعية بسبب الفوضى وتراخي المؤسسات الرسمية أو تعطيل عملها. وما يزيد الوضع تعقيدا، العوامل المناخية كالجفاف والتصحر إضافة إلى التلوث، وذلك في الوقت الذي ارتفع فيه مستوى العجز الغذائي العربي من نحو 12 مليار عام 1990 إلى أكثر من 34 مليار دولار عام 2011 حسب الباحث الاقتصادي المصري حسين عبد المطلب. وتذهب تحذيرات مراقبين إلى أن هذا العجز قد يتصاعد بشكل مخيف على ضوء الزيادات الكبيرة في الأسعار وفي عدد السكان ليصل في غضون سنوات قليلة إلى أكثر من 70 مليار دولار.
http://www.dw.de/image/0,,16754108_404,00.jpg
شجرة الزيتون ولحسن الحظ ما تزال حاضرة بقوة في تونس وعدد من الدول العربية.
غير أن معاناة الزراعة في العالم العربي عموما لا تقتصر على تدمير الأراضي الزراعية وإهمالها فحسب، وإنما تشمل كذلك ضعف أو انعدام الدعم الحكومي للمزارعين في توفير متطلبات إنتاجهم وتسويقه بأسعار محفزة. ففي غالب الأحيان يُترك هؤلاء عرضة لقوى السوق وجشع التجار بشكل يدفعهم إلى ترك الزراعة والهجرة إلى المدن الكبيرة بحثا عن فرص عمل ومسكن في أطرافها وأحيائها العشوائية.
وبدلا من دعم المنتج الزراعي الغذائي بهدف تشجيع إنتاجه، تقوم جميع الدول العربية تقريبا بغض النظر عن اختلاف نظمها السياسية بدعم استهلاك بعض المواد الغذائية الأساسية كالخبز والأرز والزيوت والشاي بشكل عشوائي يستفيد منه الغني والفقير. وبغض النظر عن المبررات الاجتماعية والسياسية لهذا الدعم، فإنه من الأجدر بهذه الدول دعم المنتجين الزراعيين وتحويل الدعم الاستهلاكي إلى دعم انتقائي يطال الفقراء والمحتاجين دون أصحاب الملايين. وفي هذا السياق يمكن الاستفادة من تجربة الاتحاد الأوروبي في دعم المزارعين رغم تخمة العرض الغذائي في الأسواق الأوروبية.
ما العمل؟
تقف الدول العربية اليوم أمام تحدي ازدياد حدة العجز الغذائي العربي بشكل أكبر من أي وقت مضى. وهو الأمر الذي يتطلب منها وضع أجندات سياسية تضع على رأس أولوياتها الحفاظ على ما تبقى من أراضيها الزراعية وتشجيع المزارعين عينيا وماليا على استغلالها. ومما يعنيه ذلك تأسيس هيئات زراعية عليا فاعلة على غرار الهيئات السياحية في مصر وتونس والمغرب تكون مهمتها وقف التعديات على هذه الأراضي من خلال منع إقامة العقارات السكنية والسياحية والصناعية فيها. ومن متطلبات الحفاظ عليها أيضا إقامة مشاريع زراعية برؤوس أموال محلية وعالمية على غرار المشاريع السياحية. وفي هذا الإطار لا بد من وضع قوانين صارمة تمنع تعرّض الأراضي المذكورة للتلوث بالمواد الكيماوية ومخلفات الصناعة والصرف الصحي.
http://www.dw.de/image/0,,17810445_303,00.jpg
يشكل توفير الغذاء للسكان مقياسا مهما للكم على حسن الأداء السياسي للأنظمة الحاكمة، وهناك الكثير من الدول التي تستخدم الغذاء كسلاح سياسي ضد دول أخرى، لتجبرها على استيراده، فخلال سنوات الحرب الباردة على سبيل المثال كانت مبيعات القمح الغربية إلى الاتحاد السوفيتي مرتبطة بتحقيق أهداف سياسية. وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على هذه المبيعات إلى مصر والمغرب ودول عربية أخرى. وعليه فإن الفليسلوف والشاعر اللبناني الراحل جبران خليل جبران كان محقا عندما حذر قبل نحو مائة عام من التهاون في إنتاج الغذاء بأيدي أبناء البلد عندما قال: "ويل لأمة لا تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج".
وفي دراسة نشرتها مجلة السياسة الخارجية/ فورن بوليسي يشرح الكاتب الأمريكي ليستر براون مؤلف كتاب "العالم على حافة الهاوية" كيف أصبح الغذاء عاملا هاما في السياسات العالمية. ويرى براون بأن أزمة الغذاء أضحت مشكلة حقيقية تجلب معها موجة اضطرابات سياسية واقتصادية في دول تعاني من ضائقات مثل تونس ومصر ودول الشرق الأوسط وباقي دول شمال أفريقيا، مع العلم أنه لم ينفي دور العوامل الأخرى كغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في اندلاع الثورات.
العقارات تدمر الأراضي الزراعية
السؤال الذي يطرح نفسه هنا يدور حول كيفية تعامل الدول العربية مع الأراضي الزراعية المنتجة للأغذية، لاسيما وأن العجز الغذائي في العالم العربي تضاعف عدة مرات خلال العقود الأربعة الماضية. كما تكررت مؤخرا تحذيرات برنامج الأغذية العالمي والهيئات العربية والدولية المتخصصة من مخاطر ضعف الأمن الغذائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتأتي هذه التحذيرات على ضوء حاجة الكثير من الدول العربية إلى مزيد من الدعم والقروض لتمكينها من استيراد الأغذية ومنع حصول مجاعات فيها. على سبيل المثال حصل اليمن مؤخرا على منحة مالية بقيمة نصف مليار دولار من برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة لمساعدة الحكومة على مواجهة تحدي نقص الغذاء. وإلى جانب اليمن فإن دولا عربية أخرى كمصر والمغرب والأردن تضطر للحصول على منح مماثلة من فترة لأخرى عبر جهات عربية ودولية.
http://www.dw.de/image/0,,16103297_404,00.jpg
قطعان ماشية في السودان الذي كان من المفترض حسب صناع القرار في
الدول العربية تحويله إلى سلة الغذاء العربي منذ سبعينات القرن الماضي.
عندما يحلق المرء بالطائرة فوق القاهرة يتوقع رؤية مناطق زراعية خضراء شاسعة على أطراف النيل وشبكات مياه تهبها الحياة. لكن هذا المنظر يبقى مجرد حلم أمام الانتشار الكاسح للمدن والضواحي الأسمنتية الكالحة التي قضمت المساحات الزراعية المحدودة وسط الصحارى والبوادي الشاسعة. وهكذا فإن الزراعات المحيطة بالمدينة لم تعد قادرة على تزويد المدينة بالخضار والفواكه، وبالتالي يتم استيرادها من مناطق بعيدة. حالة القاهرة من اختفاء المساحات الخصبة تتكرر في مختلف الدول العربية التي يفترض أنها تعتمد بشكل أساسي على الزراعة المحلية في توفير منتجاتها الغذائية الأساسية. أيضا، العاصمة اللبنانية بيروت فقدت خلال العقود الثلاثة الماضية من محيطها الزراعي بشكل شبه كامل لصالح الأبنية الأسمنتية. كما أن غوطة دمشق التي تشهد حاليا حربا مدمرة في إطار الأزمة السورية المستمرة منذ أربعة أعوام لم تعد منذ تسعينات القرن الماضي قادرة على تموين المدينة سوى بجزء محدود من خضارها وفواكهها اليومية بفعل الزحف العمراني على أرضها الخصبة.
تواطؤ وسياسات دعم خاطئة
تدمير الأراضي الزراعية هذا حصل لأسباب عديدة أبرزها الأرباح العالية للاستثمار في العقارات، والطلب المتزايد على السكن والاستثمارات السياحية، وعدم توفير مخططات عمرانية خارج نطاق المناطق الزراعية، لاسيما في البوادي والصحاري الشاسعة القريبة من المدن وتواطؤ المسؤولين والإدارات الحكومية مع التجار من خلال الرشوة وغض النظر عن المخالفات. ومع اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي ترددت مؤخرا الأنباء عن تزايد مخالفات البناء لاسيما في مصر وسوريا واليمن والستيلاء على مناطق عديدة في مقدمتها الأراضي الزراعية بسبب الفوضى وتراخي المؤسسات الرسمية أو تعطيل عملها. وما يزيد الوضع تعقيدا، العوامل المناخية كالجفاف والتصحر إضافة إلى التلوث، وذلك في الوقت الذي ارتفع فيه مستوى العجز الغذائي العربي من نحو 12 مليار عام 1990 إلى أكثر من 34 مليار دولار عام 2011 حسب الباحث الاقتصادي المصري حسين عبد المطلب. وتذهب تحذيرات مراقبين إلى أن هذا العجز قد يتصاعد بشكل مخيف على ضوء الزيادات الكبيرة في الأسعار وفي عدد السكان ليصل في غضون سنوات قليلة إلى أكثر من 70 مليار دولار.
http://www.dw.de/image/0,,16754108_404,00.jpg
شجرة الزيتون ولحسن الحظ ما تزال حاضرة بقوة في تونس وعدد من الدول العربية.
غير أن معاناة الزراعة في العالم العربي عموما لا تقتصر على تدمير الأراضي الزراعية وإهمالها فحسب، وإنما تشمل كذلك ضعف أو انعدام الدعم الحكومي للمزارعين في توفير متطلبات إنتاجهم وتسويقه بأسعار محفزة. ففي غالب الأحيان يُترك هؤلاء عرضة لقوى السوق وجشع التجار بشكل يدفعهم إلى ترك الزراعة والهجرة إلى المدن الكبيرة بحثا عن فرص عمل ومسكن في أطرافها وأحيائها العشوائية.
وبدلا من دعم المنتج الزراعي الغذائي بهدف تشجيع إنتاجه، تقوم جميع الدول العربية تقريبا بغض النظر عن اختلاف نظمها السياسية بدعم استهلاك بعض المواد الغذائية الأساسية كالخبز والأرز والزيوت والشاي بشكل عشوائي يستفيد منه الغني والفقير. وبغض النظر عن المبررات الاجتماعية والسياسية لهذا الدعم، فإنه من الأجدر بهذه الدول دعم المنتجين الزراعيين وتحويل الدعم الاستهلاكي إلى دعم انتقائي يطال الفقراء والمحتاجين دون أصحاب الملايين. وفي هذا السياق يمكن الاستفادة من تجربة الاتحاد الأوروبي في دعم المزارعين رغم تخمة العرض الغذائي في الأسواق الأوروبية.
ما العمل؟
تقف الدول العربية اليوم أمام تحدي ازدياد حدة العجز الغذائي العربي بشكل أكبر من أي وقت مضى. وهو الأمر الذي يتطلب منها وضع أجندات سياسية تضع على رأس أولوياتها الحفاظ على ما تبقى من أراضيها الزراعية وتشجيع المزارعين عينيا وماليا على استغلالها. ومما يعنيه ذلك تأسيس هيئات زراعية عليا فاعلة على غرار الهيئات السياحية في مصر وتونس والمغرب تكون مهمتها وقف التعديات على هذه الأراضي من خلال منع إقامة العقارات السكنية والسياحية والصناعية فيها. ومن متطلبات الحفاظ عليها أيضا إقامة مشاريع زراعية برؤوس أموال محلية وعالمية على غرار المشاريع السياحية. وفي هذا الإطار لا بد من وضع قوانين صارمة تمنع تعرّض الأراضي المذكورة للتلوث بالمواد الكيماوية ومخلفات الصناعة والصرف الصحي.