أم مالك الأزدية
July 27th, 2009, 11:51
جرير و بنو نمير
قصة واقعية تمثل حياة العرب الأدبية في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة ، جرت حوادثها في البصرة – حلبة الشعراء في تلك الأيام فكانوا يتبارون في المربد منها ، و هو سوق كسوق عكاظ في الجاهلية
( يا أبا جندل ، إنك شيخ مضر و شاعرها ، وقد أتى بي إليك أني و ابن عمي نستب صباح مساء ، و ما عليك غلبة المغلوب ، و لا لك غلبة الغالب . فإما أن تدعني و صاحبي ، و يكفيك إذا ذكرنا أن تقول : كلاهما شاعر كريم . و لا تحتمل مني و لا منه لائمة .
و إما أن يكون وجه منك إلي إن تغلبني عليه : لمدحي قومك و ذبي عنهم ، و حطبي في حبلهم )
قال جرير ذلك للراعي عبيد بن حصين – أحد بني نمير – و قد بلغه خبر أقامه و أقعده ، و هو أن عرادة النميري – نديم الفرزدق – اتخذ طعاما و شرابا و دعا إليه الراعي حين قدومه البصرة ، و جلس يؤاكله و يشاربه ، و في خلال ذلك قال عرادة النميري :
- يا أبا جندل ، انك من شعراء الناس ، أمرك ضخم بينهم ، فقل شعرا تفضل به الفرزدق على جرير !
فامتنع الراعي بادئ الأمر ، غير أن صاحبه ما زال يزين له ذلك حتى قال (عبيد) :
يا صاحبي دنا الأصيل فسيرا
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فطار عرادة لذلك فرحا ، و عدا بهذا الشعر إلى الفرزدق و أنشده إياه . فترامى الخبر بعد أيام إلى جرير فتحسب أنه مغلب للفرزدق ، و قد شهد بذلك عبيد شاعر مضر و ذو سنها .
لهذا الخبر خاطب جرير أبا جندل بكلمته التي في صدر هذه القصة ، فقال له هذا:
- صدقت ، أنا لا أبعدك من خير ، ميعادك و ميعاد قومك غدا ، فسأعتذر عما قلت ...
***
بَكر جرير ثاني الأيام إلى حلقة قومه بني يربوع في المسجد ، و قص عليهم القصص ، فما انتظمت حلقتهم بعد صلاة العصر من يوم الجمعة حتى وقف عليهم رجل من بني أُسيد له علم بالأمر ،
فقال له بنو يربوع :
- اذهب إلى حلقة بني نمير فتعرض لراعي الإبل و اذكر مجلسنا ، لعله نسي الذي قال لنا بالأمس
فأتاه فقال :
- يا أبا جندل ، هذه بنو يربوع تنضح جباههم العرق ، ينظرون ميعادك اليوم
فذكر الراعي ذلك ، فقام ليعتذر ، و لكن قومه أدركوه و تمسكوا بأطراف ثوبه و قالوا له :
- اجلس فوالله لأن ينضح قبرك غدوة في الجبانة أحب إلينا أن يراك الناس تعتذر لهذه الكلاب
فسمع الرجل ذلك ،فنقله إلى بني يربوع
ثار ثائر جرير و جن جنونه ، و جعل القوم يكلمونه فلا يجيب ، حتى ترك المجلس غضبان ، و انتظر أبا جندل في الطريق ليراه و يزجره .
و انه لهنالك إذ ألفى عبيداً راكباً بغلته ، فتعرض له قائلاً :
- يا أبا جندل ، إني قد أقمت بهذا المصر سبع سنين لا أكسب أهلي دنيا و لا آخرة ، إلا أن أسب من سبهم ، فلا يقع منك بيني و بين هذا الرجل – يعني الفرزدق- ما أكره
قال هذا بلهجة مترعةٍ إرادةً حديدية ، و أردف ذلك بقوله :
- أنت شيخ مضر و شاعرهم ، و قولك مسموع فيهم ، فمهلاً أبا جندل مهلا !
فقال هذا و كان عاقلا :
- معاذ الله أن أفعل ما تكره !
قال جرير ، و قد ألفى مجالا للإفصاح عما يكنه صدره بعد أن قويت حجته :
- و مع ذلك فأنت ترفع الفرزدق و قومه حتى لو تقدر أن تجعلهم في السماء لفعلت ، و تقع في بني يربوع حتى تصير إلي في رحلي .
و إنهما لفي هذا الحديث ، و قد وضع جرير شماله على بغلة أبي جندل ، إذ أقبل جندل راكباً بغلته ، فسأل عن محدث أبيه فلما علمه رفع عصاً كرمانية كانت في يده و ضرب عجز بغلة أبيه قائلا :
- لا أراك يا أبتاه واقفاً على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شراً أو ترجو منه خيراً !
فاندفعت البغلة مسرعة و قد رمحت جريراً فسقطت قلنسوته سقطة مشئومة ، و تبعها هو إلى الأرض فقال في نفسه و هو واقف ينظفها و ينظر إلى الفتى و أبيه و قد أوشكا أن يتواريا في السواد :
- ليعلمن شأنه و شأن أبيه و قومه بعد حين ....
نعم يا جرير ، لقد حان الوقت الذي تطفأ فيه آخر جمرات العرب الثلاث ، و ليقل بعد إن جريراً وحده هو الذي أخمدها
***
لجرير راويةٌ هو مولى لبني كليب كان يبيع الرطب بالبصرة ، و كان يحب شعر جرير و يجمع قصائده ليحفظها و يرويها في الناس ، و قد تمكن حب جرير من قلب ( حسين ) راويته هذا .
و ذهب جرير إلى راويته و أعلمه بما جرى و قال :
- إني آتيك الليلة فأعد لي شواءً و فراشاً و نبيذاً محشفاً (تمر ينبذ في وعاء فيه ماء).
ثم تركه و قصد إلى الشوارع يطوفها و نفسه وثابة لا يستطيع أن يكبح جماحها ، و لما أقبل الليل بجيوشه ولى وجهه شطر البيت ، و في خواطره من الثورة ما لو كان بأمة جامدة لحركها و دخل جرير في المساء على راويته فقال :
- هل هيأت كل شئ ؟
قال : - أجل فعلام عولت ؟
قال : - أما والله لأوقرنَّ رواحله بما يثقلها خزياً ينقلب به إلى أهله ، و لتكونن قصيدتي فيهم دمَّاغة فاضحة ، تسير مع الدهر و تطويه ، و لألحقنبني نمير بجمرتي العرب الخامدتين (هامش: جمرات العرب الثلاث :
(بنو الحارث بن كعب ) و قد خمدت بمحالفتها مذحج ، و ( بنو ضبة بن أد) و قد خمدت بمحالفتها الرباب ، و (بنو نمير) و قد خمدت بعد هذه الليلة بقصيدة جرير ) .
وبعد صمت قليل قال :
- هلم عشاءك !
فأحضر له العشاء ، و حانت صلاة العشاء فقام و صلاها ثم قال :
- ارفعوا لي باطية من نبيذ ، و أسرجوا لي
ففعلوا فشرب ، ثم قال :
- هات دواةً و كتفا .
فأتاه بما أراد ، فجعل جرير يهمهم و يحبو و يقول :
- اكتب ، و ابتدأ بقصيدته فكان مطلعها :
أقلِّي اللوم عاذلَ و العتابا
و قولي إن أصبت لقد أصابا
و بينا هو في تمتمته إذ سمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت من الدرجة حتى نظرت فإذا هو على تلك الحال يحبو على الفراش ، فانحدرت و قد خشيت مغبة ما رأت و قالت :
- ضيفكم مجنون .... رأيت منه كذا و كذا .
فقالوا : - اذهبي لطيتك ، نحن أعلم به و بما يمارس
أدرك السَحَر الشاعر و هو على تلك الحال ، حتى وصل إلى شطره الذي يقول فيه :
فغض الطرف إنك من نُمَيْر
فازدادت تمتمته و نشوته ، و استعصى عليه الشطر الثاني ، فقال لراويته :
- ويحك أطفئ السراج
فأطفأ السراج ، ثم تناول منديلاً كبيراً غطى به رأسه زيادة في طلب الخلوة ، و فتر برهة طويلة و الراوية ينتظره حتى عيل صبره ، و كان للنوم عليه حكم فانقاد إليه ، و مازال كذلك حتى أماله الكرى على صدر جرير ، فوثب جرير وثبة انتبه منها الراوية مذعوراً ، فإذا بالشاعر يكبر و يصيح :
- لقد أخزيته و رب الكعبة .... اكتب اكتب ( فلا كعباً بلغت و لا كلابا ) غضضته و قدمت إخوته عليه ، و الله لا يفلح ، و لن يفلح نميري بعدها أبداً .
***
انقضى الليل و ابن الخطفى يهذب قصيدته و يزيد فيها ، حتى خرجت آية في فن الشعر ، و مصيبة في الهجاء ثم نام و هو يقول : - لقد أخزيته والله آخر الدهر ، فلن يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت .
و جعل يردده
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت و لا كلابا
***
أصبح جرير و هو على مثل جمر الغضى ، و ما علم أن الناس أخذوا مجالسهم في المربد – و بينهم أبو جندل و ابنه و الفرزدق – حتى دعا بدهن فأدهن ، و كف رأسه ، و كان حسن الشَعر ،
ثم قال :
- يا غلام أسرج لي حصاناً
فأسرج له ، ثم قصد مجلسهم يستحث جواده ، فبلغ المكان فقال بصوت عال سمعه كل من كان هناك :
- يا غلام ، قل لعبيد أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق ؟
أما و الذي نفس جرير بيده لترجعن إليهم بمَيْرٍ يسوءهن و لا يسرهن . و البيت الحرام(*) إن لكم لمعاد سوء و ذلة و لأوقرنَّ رواحلكم بما يثقلها خزياً و عارا .
قال قوله هذا و الأعناق مشرئبة إليه . ثم قصد صاحباً له ، قريباً مجلسه من أبي جندل ،
فأخذ بتلابيب الراعي و قال :
- إنكم لن تعودوا شم الأنوف جحاجح بين العرب بعد الساعة ...
و في تلك اللحظة لم يكن الجالس يسمع إلا وجيباً و همساً ،ثم تركه و وقف منشداً قصيدته :
أقلي اللوم عازل و العتابا و
قولي إن أصبت : لقد أصابا
أما الفرزدق فقد كان يصغي إلى جرير بكل جوارحه ، لعلمه بإقذاعه إن هجا ،
و انطلق جرير يقول ، و الناس آذان تصغي إليه حتى بلغ قوله :
أجندل ما تقول بنو نمير ......
فقال : يقولون شراً أتيتنا ، فبئس و الله ما كسبنا قومنا ، و لما انتهى إلى قوله:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت و لا كلابا
أقبل الفرزدق على راويته يقول : غضَّه و الله ، فلا يجيبه ، و لا يفلح بعدها أبداً.
و قال عبيد : أخزيتَهم ، أخزاك الله آخر الدهر
و لما وصل إلى قوله : بها برص .....
وضع الفرزدق يده على عنفقته يسترها عن عيني جرير الذي كان يرعاه و يرعى حركاته ، فأتم الشاعر قوله :
كعنفقة الفرزدق حين شابا
و لعله استعاض عن شطر لا ندري ما هو بشطر قصد به الفرزدق ارتجالا عندما رآه يستر عنفقته
عند ذلك نكس الفرزدق رأسه و التفت إلى راويته يقول :
اللهم أخزه ، و الله لقد علمت حين بدأ صدر البيت أنه لا يقول غير هذا ، و لكني طمعت في غفلته فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئاً ، فأنا الجاني على نفسي الساعة إذ نبهته إلى ما لعله كان غافلا عنه . ألم أقل لك أن شيطاننا واحد ؟
ثم صمت و ظل صامتاً حتى إذا انتهى جرير من إنشاد القصيدة ذهب لا يلوي على شئ .
أما راعي الإبل فقد غض طرفه – كما شاء جرير – و صبر و ابنه على ما يسمعان ،
حتى إذا فرغ جرير ذهب الراعي إلى قومه يقول :
- ركابكم ركابكم ، فليس لكم هاهنا مقام ، فضحكم والله جرير
فلم يرَ الناظر ساعتئذ إلا وجوهاً ممتقعة الألوان ، و لم يسمع إلا ضوضاء الرحيل ،
و قالوا له : هذا شؤمك و شؤم ابنك علينا
فقال : كلا يا قوم لست شؤماً عليكم و ليس ابني كذلك ، و إنما جرير شؤم على الناس أجمعين .
و قال بعضهم لأبي جندل : ما الذي دعاك إلى التعرض له و للفرزدق ؟
ألا تعلم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة – جريراً و الفرزدق و الأخطل – في حرب عوان ، و أنه لم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح كما افتضحنا ، و سقط بين أرجلهم و بقوا يتصاولون ؟
قال : خلوا سبيلي يا قوم ، إنه القضاء ، و لا يغني حذر من قدر
و مازال شعراء نمير يحجمون عن الرد على جرير خشية الفضيحة مرة ثانية ، حتى تجشم بعضهم الرد عليه كي لا يقال فيهم أكثر مما قيل، و لكن تلك الأشعار لم تنفع نميراً و لا أضرَّت بجرير .
***
أدالت هذه القصيدة من عز بني نمير بن عامر بن صعصعة ، و غدا كل منهم ينتسب ( عامرياً ) بعد أن كان إذا سئل : ممن الرجل ؟
قال: ( من نمير .... كما ترى ) و فخم لفظه و مد به صوته .
أما أبو جندل فكان عندهم رمز الشؤم هو و ابنه ، و أما جرير فكان عندهم ملتقى السباب و الشتائم إلى يوم الدين .
و كابد بنو نمير أشد ما يكابد ذليل بعد عز ، فقد قيل إن مولى لباهلة – و كانت باهلة موسومة عند العرب بالضعة – كان يرد سوق البصرة ممتاراً .
و كان بعض بني نمير يصيح به ( يا جواذب باهلة !) فيكابد من ذلك ألماً جسيما ، فلما ضجر منهم قص الخبر على مواليه
فقالوا له : إذا نبزوك فقل لهم : فغض الطرف ..... ( البيت )
و مر بهم ذات يوم فنبزوه ، فأراد البيت فاستعصى عليه و خانته الذاكرة ،
فقال لنابزه : غمض و إلا جاءك ما تكره
فعضوا أصابعهم ندماً و كفوا عنه ، و لم يتعرضوا له بعدها
و حكي أن امرأة مرت ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها
و قال قائل : انها رشحاء
فقالت : قبحكم الله يا بني نمير ، ما قبلتم قول الله عز و جل ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم )
و لا قول الشاعر : فغض الطرف ... ( البيت )
فتشاغلوا بأنفسهم عنها و لم يعودوا لمثلها
***
و مازال الدهر من منشدي تلك القصيدة ( الدمَّاغة ) و نفس جرير الجبارة لا يساورها الندم على ما في القصيدة من تحامل و قسوة ، إلى أن وقع لجرير ما غير رأيه فيها
قال جرير :
ما ندمت على هجائي بني نمير قط إلا مرة واحدة فإني خرجت إلى الشام ، فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم ، و نظرت إليه من بعيد بين القصور مشيداً حسنا ، و سألت عن صاحبه فقيل لي : هو رجل من بني نمير .
فقلت : هذا شامي و أنا بدوي و لعله لا يعرفني ، فجئت فاستضفت ، فلما أذن لي و دخلت عرفني ، فقراني أحسن القِرى ليلتين . فلما أصبحت جلست ، فدعا ببنية له فضمها له و ترشفها ، فإذا هي أحسن الناس وجها ، و لها نشر لم أشم أطيب منه . فنظرت إلى عينيها
فقلت : تالله ما رأيت أحسن من عيني هذه الطفلة و لا من حَوَرِها قط ، و عوذتها .
فقال لي : يا أبا حَزرة أسوداء المحاجر هي ؟ فذهبت أصف طيب رائحتها ،
فقال : أمن وبر هي ؟
فقلت : يرحمك الله ،إن الشاعر ليقول ، و والله لقد ساءني ما قلته و لكن صاحبكم – يريد الراعي – بدأني فانتصرت عليه . ( و ذهبت أعتذر )
فقال : دع ذا عنك ، أبا حزرة ، فوالله ما لك عندي إلا ما تحب
قال جرير : و أحسن والله إلى و زودني و كساني ، فانصرفت و أنا أندم الناس على ما سلف مني لقومه
نقلاً عن الحديقة لمحب الدين الخطيب ج9 ص66
قصة واقعية تمثل حياة العرب الأدبية في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة ، جرت حوادثها في البصرة – حلبة الشعراء في تلك الأيام فكانوا يتبارون في المربد منها ، و هو سوق كسوق عكاظ في الجاهلية
( يا أبا جندل ، إنك شيخ مضر و شاعرها ، وقد أتى بي إليك أني و ابن عمي نستب صباح مساء ، و ما عليك غلبة المغلوب ، و لا لك غلبة الغالب . فإما أن تدعني و صاحبي ، و يكفيك إذا ذكرنا أن تقول : كلاهما شاعر كريم . و لا تحتمل مني و لا منه لائمة .
و إما أن يكون وجه منك إلي إن تغلبني عليه : لمدحي قومك و ذبي عنهم ، و حطبي في حبلهم )
قال جرير ذلك للراعي عبيد بن حصين – أحد بني نمير – و قد بلغه خبر أقامه و أقعده ، و هو أن عرادة النميري – نديم الفرزدق – اتخذ طعاما و شرابا و دعا إليه الراعي حين قدومه البصرة ، و جلس يؤاكله و يشاربه ، و في خلال ذلك قال عرادة النميري :
- يا أبا جندل ، انك من شعراء الناس ، أمرك ضخم بينهم ، فقل شعرا تفضل به الفرزدق على جرير !
فامتنع الراعي بادئ الأمر ، غير أن صاحبه ما زال يزين له ذلك حتى قال (عبيد) :
يا صاحبي دنا الأصيل فسيرا
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فطار عرادة لذلك فرحا ، و عدا بهذا الشعر إلى الفرزدق و أنشده إياه . فترامى الخبر بعد أيام إلى جرير فتحسب أنه مغلب للفرزدق ، و قد شهد بذلك عبيد شاعر مضر و ذو سنها .
لهذا الخبر خاطب جرير أبا جندل بكلمته التي في صدر هذه القصة ، فقال له هذا:
- صدقت ، أنا لا أبعدك من خير ، ميعادك و ميعاد قومك غدا ، فسأعتذر عما قلت ...
***
بَكر جرير ثاني الأيام إلى حلقة قومه بني يربوع في المسجد ، و قص عليهم القصص ، فما انتظمت حلقتهم بعد صلاة العصر من يوم الجمعة حتى وقف عليهم رجل من بني أُسيد له علم بالأمر ،
فقال له بنو يربوع :
- اذهب إلى حلقة بني نمير فتعرض لراعي الإبل و اذكر مجلسنا ، لعله نسي الذي قال لنا بالأمس
فأتاه فقال :
- يا أبا جندل ، هذه بنو يربوع تنضح جباههم العرق ، ينظرون ميعادك اليوم
فذكر الراعي ذلك ، فقام ليعتذر ، و لكن قومه أدركوه و تمسكوا بأطراف ثوبه و قالوا له :
- اجلس فوالله لأن ينضح قبرك غدوة في الجبانة أحب إلينا أن يراك الناس تعتذر لهذه الكلاب
فسمع الرجل ذلك ،فنقله إلى بني يربوع
ثار ثائر جرير و جن جنونه ، و جعل القوم يكلمونه فلا يجيب ، حتى ترك المجلس غضبان ، و انتظر أبا جندل في الطريق ليراه و يزجره .
و انه لهنالك إذ ألفى عبيداً راكباً بغلته ، فتعرض له قائلاً :
- يا أبا جندل ، إني قد أقمت بهذا المصر سبع سنين لا أكسب أهلي دنيا و لا آخرة ، إلا أن أسب من سبهم ، فلا يقع منك بيني و بين هذا الرجل – يعني الفرزدق- ما أكره
قال هذا بلهجة مترعةٍ إرادةً حديدية ، و أردف ذلك بقوله :
- أنت شيخ مضر و شاعرهم ، و قولك مسموع فيهم ، فمهلاً أبا جندل مهلا !
فقال هذا و كان عاقلا :
- معاذ الله أن أفعل ما تكره !
قال جرير ، و قد ألفى مجالا للإفصاح عما يكنه صدره بعد أن قويت حجته :
- و مع ذلك فأنت ترفع الفرزدق و قومه حتى لو تقدر أن تجعلهم في السماء لفعلت ، و تقع في بني يربوع حتى تصير إلي في رحلي .
و إنهما لفي هذا الحديث ، و قد وضع جرير شماله على بغلة أبي جندل ، إذ أقبل جندل راكباً بغلته ، فسأل عن محدث أبيه فلما علمه رفع عصاً كرمانية كانت في يده و ضرب عجز بغلة أبيه قائلا :
- لا أراك يا أبتاه واقفاً على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شراً أو ترجو منه خيراً !
فاندفعت البغلة مسرعة و قد رمحت جريراً فسقطت قلنسوته سقطة مشئومة ، و تبعها هو إلى الأرض فقال في نفسه و هو واقف ينظفها و ينظر إلى الفتى و أبيه و قد أوشكا أن يتواريا في السواد :
- ليعلمن شأنه و شأن أبيه و قومه بعد حين ....
نعم يا جرير ، لقد حان الوقت الذي تطفأ فيه آخر جمرات العرب الثلاث ، و ليقل بعد إن جريراً وحده هو الذي أخمدها
***
لجرير راويةٌ هو مولى لبني كليب كان يبيع الرطب بالبصرة ، و كان يحب شعر جرير و يجمع قصائده ليحفظها و يرويها في الناس ، و قد تمكن حب جرير من قلب ( حسين ) راويته هذا .
و ذهب جرير إلى راويته و أعلمه بما جرى و قال :
- إني آتيك الليلة فأعد لي شواءً و فراشاً و نبيذاً محشفاً (تمر ينبذ في وعاء فيه ماء).
ثم تركه و قصد إلى الشوارع يطوفها و نفسه وثابة لا يستطيع أن يكبح جماحها ، و لما أقبل الليل بجيوشه ولى وجهه شطر البيت ، و في خواطره من الثورة ما لو كان بأمة جامدة لحركها و دخل جرير في المساء على راويته فقال :
- هل هيأت كل شئ ؟
قال : - أجل فعلام عولت ؟
قال : - أما والله لأوقرنَّ رواحله بما يثقلها خزياً ينقلب به إلى أهله ، و لتكونن قصيدتي فيهم دمَّاغة فاضحة ، تسير مع الدهر و تطويه ، و لألحقنبني نمير بجمرتي العرب الخامدتين (هامش: جمرات العرب الثلاث :
(بنو الحارث بن كعب ) و قد خمدت بمحالفتها مذحج ، و ( بنو ضبة بن أد) و قد خمدت بمحالفتها الرباب ، و (بنو نمير) و قد خمدت بعد هذه الليلة بقصيدة جرير ) .
وبعد صمت قليل قال :
- هلم عشاءك !
فأحضر له العشاء ، و حانت صلاة العشاء فقام و صلاها ثم قال :
- ارفعوا لي باطية من نبيذ ، و أسرجوا لي
ففعلوا فشرب ، ثم قال :
- هات دواةً و كتفا .
فأتاه بما أراد ، فجعل جرير يهمهم و يحبو و يقول :
- اكتب ، و ابتدأ بقصيدته فكان مطلعها :
أقلِّي اللوم عاذلَ و العتابا
و قولي إن أصبت لقد أصابا
و بينا هو في تمتمته إذ سمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت من الدرجة حتى نظرت فإذا هو على تلك الحال يحبو على الفراش ، فانحدرت و قد خشيت مغبة ما رأت و قالت :
- ضيفكم مجنون .... رأيت منه كذا و كذا .
فقالوا : - اذهبي لطيتك ، نحن أعلم به و بما يمارس
أدرك السَحَر الشاعر و هو على تلك الحال ، حتى وصل إلى شطره الذي يقول فيه :
فغض الطرف إنك من نُمَيْر
فازدادت تمتمته و نشوته ، و استعصى عليه الشطر الثاني ، فقال لراويته :
- ويحك أطفئ السراج
فأطفأ السراج ، ثم تناول منديلاً كبيراً غطى به رأسه زيادة في طلب الخلوة ، و فتر برهة طويلة و الراوية ينتظره حتى عيل صبره ، و كان للنوم عليه حكم فانقاد إليه ، و مازال كذلك حتى أماله الكرى على صدر جرير ، فوثب جرير وثبة انتبه منها الراوية مذعوراً ، فإذا بالشاعر يكبر و يصيح :
- لقد أخزيته و رب الكعبة .... اكتب اكتب ( فلا كعباً بلغت و لا كلابا ) غضضته و قدمت إخوته عليه ، و الله لا يفلح ، و لن يفلح نميري بعدها أبداً .
***
انقضى الليل و ابن الخطفى يهذب قصيدته و يزيد فيها ، حتى خرجت آية في فن الشعر ، و مصيبة في الهجاء ثم نام و هو يقول : - لقد أخزيته والله آخر الدهر ، فلن يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت .
و جعل يردده
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت و لا كلابا
***
أصبح جرير و هو على مثل جمر الغضى ، و ما علم أن الناس أخذوا مجالسهم في المربد – و بينهم أبو جندل و ابنه و الفرزدق – حتى دعا بدهن فأدهن ، و كف رأسه ، و كان حسن الشَعر ،
ثم قال :
- يا غلام أسرج لي حصاناً
فأسرج له ، ثم قصد مجلسهم يستحث جواده ، فبلغ المكان فقال بصوت عال سمعه كل من كان هناك :
- يا غلام ، قل لعبيد أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق ؟
أما و الذي نفس جرير بيده لترجعن إليهم بمَيْرٍ يسوءهن و لا يسرهن . و البيت الحرام(*) إن لكم لمعاد سوء و ذلة و لأوقرنَّ رواحلكم بما يثقلها خزياً و عارا .
قال قوله هذا و الأعناق مشرئبة إليه . ثم قصد صاحباً له ، قريباً مجلسه من أبي جندل ،
فأخذ بتلابيب الراعي و قال :
- إنكم لن تعودوا شم الأنوف جحاجح بين العرب بعد الساعة ...
و في تلك اللحظة لم يكن الجالس يسمع إلا وجيباً و همساً ،ثم تركه و وقف منشداً قصيدته :
أقلي اللوم عازل و العتابا و
قولي إن أصبت : لقد أصابا
أما الفرزدق فقد كان يصغي إلى جرير بكل جوارحه ، لعلمه بإقذاعه إن هجا ،
و انطلق جرير يقول ، و الناس آذان تصغي إليه حتى بلغ قوله :
أجندل ما تقول بنو نمير ......
فقال : يقولون شراً أتيتنا ، فبئس و الله ما كسبنا قومنا ، و لما انتهى إلى قوله:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت و لا كلابا
أقبل الفرزدق على راويته يقول : غضَّه و الله ، فلا يجيبه ، و لا يفلح بعدها أبداً.
و قال عبيد : أخزيتَهم ، أخزاك الله آخر الدهر
و لما وصل إلى قوله : بها برص .....
وضع الفرزدق يده على عنفقته يسترها عن عيني جرير الذي كان يرعاه و يرعى حركاته ، فأتم الشاعر قوله :
كعنفقة الفرزدق حين شابا
و لعله استعاض عن شطر لا ندري ما هو بشطر قصد به الفرزدق ارتجالا عندما رآه يستر عنفقته
عند ذلك نكس الفرزدق رأسه و التفت إلى راويته يقول :
اللهم أخزه ، و الله لقد علمت حين بدأ صدر البيت أنه لا يقول غير هذا ، و لكني طمعت في غفلته فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئاً ، فأنا الجاني على نفسي الساعة إذ نبهته إلى ما لعله كان غافلا عنه . ألم أقل لك أن شيطاننا واحد ؟
ثم صمت و ظل صامتاً حتى إذا انتهى جرير من إنشاد القصيدة ذهب لا يلوي على شئ .
أما راعي الإبل فقد غض طرفه – كما شاء جرير – و صبر و ابنه على ما يسمعان ،
حتى إذا فرغ جرير ذهب الراعي إلى قومه يقول :
- ركابكم ركابكم ، فليس لكم هاهنا مقام ، فضحكم والله جرير
فلم يرَ الناظر ساعتئذ إلا وجوهاً ممتقعة الألوان ، و لم يسمع إلا ضوضاء الرحيل ،
و قالوا له : هذا شؤمك و شؤم ابنك علينا
فقال : كلا يا قوم لست شؤماً عليكم و ليس ابني كذلك ، و إنما جرير شؤم على الناس أجمعين .
و قال بعضهم لأبي جندل : ما الذي دعاك إلى التعرض له و للفرزدق ؟
ألا تعلم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة – جريراً و الفرزدق و الأخطل – في حرب عوان ، و أنه لم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح كما افتضحنا ، و سقط بين أرجلهم و بقوا يتصاولون ؟
قال : خلوا سبيلي يا قوم ، إنه القضاء ، و لا يغني حذر من قدر
و مازال شعراء نمير يحجمون عن الرد على جرير خشية الفضيحة مرة ثانية ، حتى تجشم بعضهم الرد عليه كي لا يقال فيهم أكثر مما قيل، و لكن تلك الأشعار لم تنفع نميراً و لا أضرَّت بجرير .
***
أدالت هذه القصيدة من عز بني نمير بن عامر بن صعصعة ، و غدا كل منهم ينتسب ( عامرياً ) بعد أن كان إذا سئل : ممن الرجل ؟
قال: ( من نمير .... كما ترى ) و فخم لفظه و مد به صوته .
أما أبو جندل فكان عندهم رمز الشؤم هو و ابنه ، و أما جرير فكان عندهم ملتقى السباب و الشتائم إلى يوم الدين .
و كابد بنو نمير أشد ما يكابد ذليل بعد عز ، فقد قيل إن مولى لباهلة – و كانت باهلة موسومة عند العرب بالضعة – كان يرد سوق البصرة ممتاراً .
و كان بعض بني نمير يصيح به ( يا جواذب باهلة !) فيكابد من ذلك ألماً جسيما ، فلما ضجر منهم قص الخبر على مواليه
فقالوا له : إذا نبزوك فقل لهم : فغض الطرف ..... ( البيت )
و مر بهم ذات يوم فنبزوه ، فأراد البيت فاستعصى عليه و خانته الذاكرة ،
فقال لنابزه : غمض و إلا جاءك ما تكره
فعضوا أصابعهم ندماً و كفوا عنه ، و لم يتعرضوا له بعدها
و حكي أن امرأة مرت ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها
و قال قائل : انها رشحاء
فقالت : قبحكم الله يا بني نمير ، ما قبلتم قول الله عز و جل ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم )
و لا قول الشاعر : فغض الطرف ... ( البيت )
فتشاغلوا بأنفسهم عنها و لم يعودوا لمثلها
***
و مازال الدهر من منشدي تلك القصيدة ( الدمَّاغة ) و نفس جرير الجبارة لا يساورها الندم على ما في القصيدة من تحامل و قسوة ، إلى أن وقع لجرير ما غير رأيه فيها
قال جرير :
ما ندمت على هجائي بني نمير قط إلا مرة واحدة فإني خرجت إلى الشام ، فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم ، و نظرت إليه من بعيد بين القصور مشيداً حسنا ، و سألت عن صاحبه فقيل لي : هو رجل من بني نمير .
فقلت : هذا شامي و أنا بدوي و لعله لا يعرفني ، فجئت فاستضفت ، فلما أذن لي و دخلت عرفني ، فقراني أحسن القِرى ليلتين . فلما أصبحت جلست ، فدعا ببنية له فضمها له و ترشفها ، فإذا هي أحسن الناس وجها ، و لها نشر لم أشم أطيب منه . فنظرت إلى عينيها
فقلت : تالله ما رأيت أحسن من عيني هذه الطفلة و لا من حَوَرِها قط ، و عوذتها .
فقال لي : يا أبا حَزرة أسوداء المحاجر هي ؟ فذهبت أصف طيب رائحتها ،
فقال : أمن وبر هي ؟
فقلت : يرحمك الله ،إن الشاعر ليقول ، و والله لقد ساءني ما قلته و لكن صاحبكم – يريد الراعي – بدأني فانتصرت عليه . ( و ذهبت أعتذر )
فقال : دع ذا عنك ، أبا حزرة ، فوالله ما لك عندي إلا ما تحب
قال جرير : و أحسن والله إلى و زودني و كساني ، فانصرفت و أنا أندم الناس على ما سلف مني لقومه
نقلاً عن الحديقة لمحب الدين الخطيب ج9 ص66