الرائد7
April 25th, 2009, 17:11
السلام عليكم
واحدة من روائع الكاتب عبد الرحمن الجوهري..
الخالة «منيرة» منطفئة !
الحياة مليئة بكلّ خير، الدنيا لا زالت بأمان، والحنان يخالط كل شيء، حتى هذا الإسفلتِ الذي أجلس عليه، وهذه السياط التي تحرق ظهري، والأعين التي تزدري مرأى امرأة بهذا العمرِ بهذه المدينة، أنا يا ولدي لست في زائير، ولا أذكر أنّي يوما تسكّعت في دروبِ مقصيّة من مدينة آسيوية بعيدة فقيرة، أنا هنا، من الحجاز، وفي الحجاز، وأيضا: إلى الحجاز كلّ أمانيّ وآهاتي.
السبعينية المقعدة التي تفترش إسفلت شرق الحي، هي إحدى معالم هذه المدينة، تلتف بعباءتها، كعلم مغولي قديم، أتعبته السنون، وأرقته تعاقبات المعارك وتوالي الهزائم، تقول لي كلّ صباح: “الله يفتح عليك يا ولدي، ولا يورّيك اللي شفته”. وأتركها على إسفلتها، أدخل يدي سريعا بجوف سيارتي، وأغلق النافذة. أرفع من جهاز التكييف، كي لا تحرق الشمس ما تبقى من هذه البشرة، بينما هي لا تزال تتمتم: “الله يفتح عليك يا ولدي” للمانح الآخر، في مدينة تعطي كثيراً، وتحرم أكثر.
مرّة عنّ لي أن أباغتها بالحديث، أن أكتشف ملكة النطق لديها، هل تمتلك شيئا غير حروف التسوّل، وجُمل الاستجداء، وبشفقةِ المعطي القاتلة، نزلت من علياء سيّارتي، إلى حضيض إسفلتها. قلت لها: لن أعطيكِ اليوم شيئاً. ردّت على الفور: « يعطيني الله لو نسيتوني». إنها تفترض تذكّرنا لها، ابتسمت لها وقلت: من أين أنتِ يا خالة، فأشارت إلى قلب هذه الصحراء، وجبالها، وأعلنت بجزمٍ: من هنا.
أنا يا ولدي من هذه الأرض، من حيث تغلو السلع، وترخص المروءات، من حيث يمرق 14 مليارديرا أعلنت عنهم «فوربس» مؤخرا، و3 ملايين فقير أعلن عنهم «الشورى» مسبقا، من حيث ترتصّ «أسهم» الأغنياء مصوّبةً نحو أعناق البسطاء، المتخمين بالكوليسترول، الخالين من الهمّ والحظوظ والثراء والعيش الهانئ الكريم.
الخالة «منيرة» سبعينيّة، عاصرت عصورا مختلفة، لكن بفقرٍ واحد. وواكبت تقلّبات كثيرة، ولكن بانقلابٍ لم يقم من كبوَته بعد. وتذكر أشياء أكثر، لكنّها تنسى حقّها، حقّها الذي لم يمنحها هذا المجتمع. أستحي أن أراها كلّ صباح، تعرفني، تعرف كلّ موظفي هذا الحيّ، تسألني بغتة: لم غبتَ يومين! أبتسم لهذه الخالة/المراقبة. أقول لها: كنت مريضا بـ «التخمة» ، فتدعو لي كابنها، كأيّ قريب لها – هل لها ابنٌ أو قريب -، وأنصرف على تمتماتها: «الله يفتح عليك يا ولدي».
في طريقي لسفرٍ إلى جنوب افريقيا، رأتني بسيّارتي، هل تدري إلى أين أذهبُ أسيح، هل تدري ما مقدار تذكرتي، هل تدري حجم إنفاقاتي هنالك، هل تدري ماذا قال لي مدير مكتب الخطوط عن عدد مسافري هذا العام، وعن عدد سيّاحه، هل تعرف أيّ مبالغَ تصرف هنالك، هل سمعت بجوهانسبرغ، بجنوب افريقيا، هل سمعت بالقاهرة، لماذا أبتعد! هل سمعت بالكورنيش!.
أصبحت الخالة «منيرة» تشكّل لي بنظرتها تلك، حاجزا عن أيّ سرف، مانعا لأيّ ترف، أفاوض صديقي على أي بهو فندق نتناول فيه عشاءنا الليلة. بمائتي ريال للشخص، أو بثلاثمائة، أرى عينيها، تستجمع عباءتها المغوليّة، وتلبس نعليها الواقفين حذاء الرصيف، وترحل، ومعها قلبي، أقول لصاحبي: لا شهيّة للأكل لديّ.
لا تحبّ «منيرة» المطر، بيتها من كراتين وخشب قديم، وتَغرَق عباءتها، فلا تقدر على التسوّل يوم ذاك. لا تحبّ الشمس، تحرق ظهرها ووجهها ونعليها المتهرئين وأيدي المانحين، وتكشف بائسَ حالها. ولا تحبّ رجل الأمن الذي ينهرها كثيراً. ولا تحبّ الصحف، تطير بوجهها وهي تتسوّل. ولا تحبّ الأطفال، يضايقونها في مهنتها الأزليّة بكراتهم عصراً. الخالة «منيرة» لا تحبّ سوى الليل والدموع والقطّ القابعِ جوار الرصيف. الخالة «منيرة» تحبّ الرصيفَ كثيراً، وحده في هذه المدينة .. لم يبتعد عنها!
واحدة من روائع الكاتب عبد الرحمن الجوهري..
الخالة «منيرة» منطفئة !
الحياة مليئة بكلّ خير، الدنيا لا زالت بأمان، والحنان يخالط كل شيء، حتى هذا الإسفلتِ الذي أجلس عليه، وهذه السياط التي تحرق ظهري، والأعين التي تزدري مرأى امرأة بهذا العمرِ بهذه المدينة، أنا يا ولدي لست في زائير، ولا أذكر أنّي يوما تسكّعت في دروبِ مقصيّة من مدينة آسيوية بعيدة فقيرة، أنا هنا، من الحجاز، وفي الحجاز، وأيضا: إلى الحجاز كلّ أمانيّ وآهاتي.
السبعينية المقعدة التي تفترش إسفلت شرق الحي، هي إحدى معالم هذه المدينة، تلتف بعباءتها، كعلم مغولي قديم، أتعبته السنون، وأرقته تعاقبات المعارك وتوالي الهزائم، تقول لي كلّ صباح: “الله يفتح عليك يا ولدي، ولا يورّيك اللي شفته”. وأتركها على إسفلتها، أدخل يدي سريعا بجوف سيارتي، وأغلق النافذة. أرفع من جهاز التكييف، كي لا تحرق الشمس ما تبقى من هذه البشرة، بينما هي لا تزال تتمتم: “الله يفتح عليك يا ولدي” للمانح الآخر، في مدينة تعطي كثيراً، وتحرم أكثر.
مرّة عنّ لي أن أباغتها بالحديث، أن أكتشف ملكة النطق لديها، هل تمتلك شيئا غير حروف التسوّل، وجُمل الاستجداء، وبشفقةِ المعطي القاتلة، نزلت من علياء سيّارتي، إلى حضيض إسفلتها. قلت لها: لن أعطيكِ اليوم شيئاً. ردّت على الفور: « يعطيني الله لو نسيتوني». إنها تفترض تذكّرنا لها، ابتسمت لها وقلت: من أين أنتِ يا خالة، فأشارت إلى قلب هذه الصحراء، وجبالها، وأعلنت بجزمٍ: من هنا.
أنا يا ولدي من هذه الأرض، من حيث تغلو السلع، وترخص المروءات، من حيث يمرق 14 مليارديرا أعلنت عنهم «فوربس» مؤخرا، و3 ملايين فقير أعلن عنهم «الشورى» مسبقا، من حيث ترتصّ «أسهم» الأغنياء مصوّبةً نحو أعناق البسطاء، المتخمين بالكوليسترول، الخالين من الهمّ والحظوظ والثراء والعيش الهانئ الكريم.
الخالة «منيرة» سبعينيّة، عاصرت عصورا مختلفة، لكن بفقرٍ واحد. وواكبت تقلّبات كثيرة، ولكن بانقلابٍ لم يقم من كبوَته بعد. وتذكر أشياء أكثر، لكنّها تنسى حقّها، حقّها الذي لم يمنحها هذا المجتمع. أستحي أن أراها كلّ صباح، تعرفني، تعرف كلّ موظفي هذا الحيّ، تسألني بغتة: لم غبتَ يومين! أبتسم لهذه الخالة/المراقبة. أقول لها: كنت مريضا بـ «التخمة» ، فتدعو لي كابنها، كأيّ قريب لها – هل لها ابنٌ أو قريب -، وأنصرف على تمتماتها: «الله يفتح عليك يا ولدي».
في طريقي لسفرٍ إلى جنوب افريقيا، رأتني بسيّارتي، هل تدري إلى أين أذهبُ أسيح، هل تدري ما مقدار تذكرتي، هل تدري حجم إنفاقاتي هنالك، هل تدري ماذا قال لي مدير مكتب الخطوط عن عدد مسافري هذا العام، وعن عدد سيّاحه، هل تعرف أيّ مبالغَ تصرف هنالك، هل سمعت بجوهانسبرغ، بجنوب افريقيا، هل سمعت بالقاهرة، لماذا أبتعد! هل سمعت بالكورنيش!.
أصبحت الخالة «منيرة» تشكّل لي بنظرتها تلك، حاجزا عن أيّ سرف، مانعا لأيّ ترف، أفاوض صديقي على أي بهو فندق نتناول فيه عشاءنا الليلة. بمائتي ريال للشخص، أو بثلاثمائة، أرى عينيها، تستجمع عباءتها المغوليّة، وتلبس نعليها الواقفين حذاء الرصيف، وترحل، ومعها قلبي، أقول لصاحبي: لا شهيّة للأكل لديّ.
لا تحبّ «منيرة» المطر، بيتها من كراتين وخشب قديم، وتَغرَق عباءتها، فلا تقدر على التسوّل يوم ذاك. لا تحبّ الشمس، تحرق ظهرها ووجهها ونعليها المتهرئين وأيدي المانحين، وتكشف بائسَ حالها. ولا تحبّ رجل الأمن الذي ينهرها كثيراً. ولا تحبّ الصحف، تطير بوجهها وهي تتسوّل. ولا تحبّ الأطفال، يضايقونها في مهنتها الأزليّة بكراتهم عصراً. الخالة «منيرة» لا تحبّ سوى الليل والدموع والقطّ القابعِ جوار الرصيف. الخالة «منيرة» تحبّ الرصيفَ كثيراً، وحده في هذه المدينة .. لم يبتعد عنها!