سويد أسمر
February 7th, 2009, 16:46
بســم الله الـرحمــن الرحيــم
أحد أصدقائي القريبين جداً إلى نفسي بدأ مع حقبة الإنترنت يقرأ في المنتديات الفكرية، ثم لاحظ أنهم في حواراتهم يشيرون إلى كتب بعض العلمانيين العرب، فذهب واقتنى بعضها من مكتبة "التراثية" (مكتبة متخصصة في بيع الكتب العلمانية شمال الرياض) وقرأ في بعضها لكنه لم يواصل، وانصرف كلياً إلى التهام الروايات واحدة تلو الأخرى.
ثم تعرف صاحبي هذا على مجموعة من الشباب ممن استهوتهم ذات الموجة, وصاروا يجتمعون في مايسمونه "أمسيات فكرية"! ومن أطرف مافي أمسياتهم هذه مايمكن تسميته "وهم الحل" .. حيث يتصورون أنفسهم -وهم يناقشون كل شئ وينتقدون كل شئ- أنهم يملكون مفاتيح الحلول لكل المشكلات السياسية والاقتصادية والتقنية والاجتماعية في الوقت الذي أفلس فيه متخصصوا الشرق والغرب عن حلها!
المهم أن صديقي هذا تغيرت شخصيته جذرياً .. وصار كل حديثه -الذي يستغرق الساعات الطويلة- ليس فيه إلا مفردتين فقط (العقلانية والصحوية) وماتصرّف منهما .. فحديثه الطريف تتكرر فيه عبارات من نوع: العقلنة، والتعقلن، والمعقولية، واللاعقلانية، وماقبل العقل، ومابعد العقل، بالإضافة إلى الصحوية والصحونة والتصحون والخطاب الصحوي الخ الخ.
ومن الطريف أن صديقي هذا بيني وبينه من الانسجام والتآلف النفسي أكثر مما بين الشقيقين، وبيننا من التنافر والتضاد الفكري أكثر مما بين الغنوشي وابن عتيق! وقد أفلست كل اختلافاتنا الفكرية أن تصرم حبال المودة الشخصية بيننا .. فأصبحنا كقطارين متوازيين يسيران بجانب بعضهما لكن لكل منهما رحلته الخاصة..
أعجب مافي أفكار صديقي هذا هو أن أفكاره لاتمت إلى العقلانية بصلة! بل لن أبالغ إن قلت أنه لم يقرأ في حياته كلها كتاباً منهجياً واحداً في فلسفة العقل وتحليل طبيعته وقوانينه الجوهرية وإشكالياته العلمية ذات الصلة! لكنه يعشق أن يقحم كلمة "العقل" وماتصرف منها بين فواصل حديثه.
ومن المعلوم في فلسفة العقل أن القانون الأزلي للعقل هو "عدم التناقض" ، فمهما اختلف العقلاء حول إشكاليات العقل (مثل المثالية/الواقعية والاستقراء والسببية والقصدية وعلاقة الذهن بالمكونات الفيزيقية الخ)، فإنهم كلهم متفقون على أن "عدم التناقض" هو أرضية العقل الرئيسية وحجر الزاوية فيه.
ففلاسفة الشرق والغرب على مدار التاريخ يعتبرون "التناقض" حالة لاعقلانية، وهي نقيض العلم والمعرفة .. فلو جوّزنا "التناقض" لانهارت العلوم كلها .. ولذلك فلو أخذت عينة من "النقاشات العلمية" في شتى الفنون والمعارف، وحللت العمليات العقلية المجردة فيها بغض النظر عن موضوعها، فستجد الجزء الأكبر منها يقوم على هذه العملية العقلية وهي الاحتجاج في نقض النظريات الأخرى بالتناقض في تفسير المعطيات ..
ولذلك يستخدمها بعض فلاسفة الوضعية المنطقية تحت عنوان: الأمثلة المضادة "counterexamples"، فالمثال المضاد الذي يستخدم في دحض النظريات هو في جوهره يعمل على أساس مبدأ "عدم التناقض". وقد كان قدماء المناطقة يقولون الكلية السالبة تنقض بجزئية موجبة، والكلية الموجبة تنقض بجزئية سالبة، وهذا النقض في الحالتين هو في جوهره قائم على مبدأ "عدم التناقض" .
المهم أن صديقي هذا المغرم بالعقلانية كل أفكاره وأحاديثه تناقض × تناقض، ويمكن لجلسائه أن يختلفوا حول أي شئ في شخصيته إلا في قدرته المذهلة على أن يقول الشئ ونقيضه في آن واحد! .. والمشكلة أنه يقول الشئ ونقيضه بنفس الحماسة والاندفاع في الطرفين، وفي نفس الجلسة!! ولايتفطن بتاتاً أن فكرته الأولى نقيض لفكرته الثانية.. ولذلك تحول إلى مادة دسمة للتريقة والضحكات والتعليقات الساخرة بين بقية الأصدقاء ..
ومع انتهاكه المستمر لأهم مبدأ في العقلانية، فإنه لايكف عن توجيه النصائح للآخرين بأن يهتموا بالعقل !
ونتيجة تناقضاته الطريفة والغزيرة هذه أطلق عليه أحد الأصدقاء لقب "مفكر أبوسيدين" [رايح جاي] .. وصديق آخر قال له: "ياخي لما أشوفك صاجّنا بالعقلانية وأنت أفكارك كلها متناقضة أتذكر نكتة الكفيف اللي راح يسجل في معهد للرماية! " .
أما أنا فقررت أن أطلق عليه لقب "أرسطو" فوافق على ذلك وقال لي: ولكن بشرط، فقلت له: تفضل والمؤمنون على شروطهم. فقال لي: بشرط أن ترضى أن ألقبك بـ "حنبل" !
قلت له: كل الشرف أن تلقبني برمز أهل السنة، فقال لي: وأنا أتشرف بأن تلقبني برمز العقل في التاريخ.
فقلت له: الحمدلله .. مادام أنه لايضايقك فدعني أستعمله ياعزيزي "أرسطو" .
أتذكر مرةً أننا كنا نتحاور عن مشكلة غياب المشاركة الشعبية في نظامنا السياسي المحلي، وأخذ كلٌ يدلي بسنارته في بحر هذا الموضوع الواسع، فقفز علينا "أرسطو" قائلاً: الصحوة .. الصحوة .. هي المشكلة، فالصحوة تكرّس الاستبداد، وتعزز قيم ومفاهيم الطاعة المطلقة لولي الأمر، وتشتم الديمقراطية، وتناهض كل حركات المعارضة كالمسعري والفقيه والدستوريين الخ ولذلك صار ولي الأمر مبتهجاً بهذه الصحوة التي تكرس انفراده بالسلطة وتقمع منافسيه السياسيين وتشتغل على ترويض المجتمع للانصياع للسلاطين، صدقوني: الصحوة باختصار مجرد أداة لتكريس الاستبداد والخنوع التام لولي الأمر وتقبيل قدميه، ولذلك يدعمها السياسي ويوفر لها النفوذ الاجتماعي المطلوب.
المهم .. تبدل مسار حوارنا إلى موضوعات أخرى وتحدثنا عن محاولات تفجير المنشآت النفطية في المنطقة الشرقية، والموجّهات التي تدفع إلى هكذا أفكار، فضرب صاحبي "أرسطو" بيده على الطاولة وقال بنبرة اكتشاف وهو يرقّص حاجبيه: فتش عن الخطاب الصحوي ياعزيزي!
توقف الجميع ليستمعوا لشرح هذا المانشيت!
فاستكمل "أرسطو" قائلاً: ياعزيزي الصحوة تضخ مفاهيم سياسية تمردية خطيرة جداً، فهي تتبنى التكفير الذي هو السلاح الأساسي للعصيان السياسي، وتدافع عن ظواهر "الخروج" على السلطة في التاريخ الاسلامي القديم والمعاصر، وتتبنى ترميز وتعظيم وتضخيم الشخصيات التي ناهضت السلطة كسلطان العلماء العز بن عبدالسلام ونحوه، ولهم دراسات كثيرة في مجلة البيان السلفية يجمعون فيها الشواهد السلفية التي تعزز شرعية الإنكار العلني على ولي الأمر، ويتحدثون برومانسية عن اعتقال الإمام أحمد وهجره لابنه بسبب علاقته الإيجابية مع السلطان، والاعتقالات المتعددة لابن تيمية (وهما أهم شخصيتين على الإطلاق في العقل السني المعاصر)، ويتحاشى الصحويون في خطبهم يوم الجمعة الدعاء لولاة الأمور، ولايذكرون بتاتاً أحاديث الطاعة لولي الأمر برغم أنها في الصحيحين، ويتهمون أي شخصية موالية للسلطة وتذيع هذه الأحاديث بأنه "جامي" وهو أقذع وصف في العقل الصحوي، ولايفضلون اسم "السعودية" ويفضلون أن يقولوا "جزيرة الإسلام" أو "بلاد الحرمين" ونحوها من الأوصاف التي تتحاشى الإقرار الضمني بالولاء للأسرة الحاكمة، وناشطون بشكل مذهل في كل الجبهات الجهادية كأفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق وغزة، وانظر لأناشيدهم الحماسية التي يتداولونها كيف تقوم بتعبئة الشباب وتهييجهم. وكل الشخصيات التفجيرية هم تلامذة سابقون للصحوة، فالصحوة ياعزيزي هي -أولاً وأخيراً- حركة تكفير وتفجير وخروج على السلطة.
طبعاً .. أحد الأصدقاء كاد أن ينقلب على قفاه بسبب الضحك .. والآخرون اكتفوا بكظم تبسمهم المتفلت، وأطرق صديقي "أرسطو" لأنه شعر أن ثمة مايخجل لكنه لم يكتشف بالضبط مصدره، أما أنا فتشجعت وسألته:
عزيزي أرسطو .. قبل قليل كنت تقول أن الصحوة حركة تكرس الإستبداد والطاعة المطلقة لولاة الأمور وتذكر الشواهد على ذلك، والآن ياعزيزي تقول أن الصحوة حركة تكفير وتفجير وخروج وتمرد على السلطة. ممكن ياعزيزي أرسطو تشرح لي كيف يجتمع هذين النقيضين؟!
هل علمت الآن ياصديقي أرسطو لم كان الأصدقاء يتندرون عليك بلقب "مفكر ابوسيدين" ؟! أهم شرط للخطاب العقلاني هو "عدم التناقض" وأنت حديثك كله سلسلة من المتناقضات يرفس بعضها ركاب بعض !
ومع ذلك كله .. فهل تصدق عزيزي القارئ .. أنني إلى الآن لا أعرف بالضبط هل استوعب صديقي أرسطو أنه كان متناقضاً في هاتين الفكرتين، أم لازال يتوهم أنهما كلتاهما صحيحتان، وأن الصحوة حركة تدعم الطاعة المطلقة لولاة الأمور وتدعم الخروج عليهم في ذات الوقت ؟!
وكنت أتساءل .. هل صديقي أرسطو التقط أحد الفكرتين من مجلس أصدقائه بتوعين الأمسيات الفكرية، والفكرة الأخرى من مجلس آخر، ثم تبناهما كلاهما دون أن يستوعب التناقض بينهما، أم أن أصدقاءه أصحاب الأمسيات الفكرية يتبنون هم أيضاً هذا التناقض دون وعي ؟!
بصراحة .. لست أدري .. لكن دعنا نواصل طرائف أرسطو ..
وأتذكر مرةً في أحد مناسبات الزواج أنني كنت وصديقي أرسطو من المدعوين، وقد أخذنا ركناً قصياً من الصالة وأخذنا ندردش قليلاً، وسرعان مااكتظت الزاوية ببعض المعارف والأصدقاء وتحولت لورشة حوار فكري ممتع، فتحدث أحد الجلوس عن سوء التنظيم والترتيب في الحفلة، وغياب التخطيط المسبق عن هكذا احتفالات، وهل هذه خصيصة سعودية أم هي شأن عام؟
وهاهنا أطلق صاحبي أرسطو قهقهةً متصلة كأنه يريد بها قطع بقية الأصوات تمهيداً لطرح رأيه، فلما سكت الجميع قال صاحبي أرسطو: ياسيدي السبب هو أن الصحوة الدينية التي هيمنت على فكرنا الاجتماعي تعاني من قيمة دونية منحطة لقضية الترتيب والتنظيم والتخطيط، الصحوة تبث فكر الفوضى الدينية، أو على قولة عيال الحواري "طقها والحقها" ، هل تعلم أنهم يتداولون نصوصاً عن "التوكل على الله" و "الايمان بالقضاء والقدر" لتعزيز سلوكياتهم الفوضوية هذه! هذا هو السبب ياعزيزي.. إنها الصحوة تلك الوكيل المعتمد لتربية الفوضى، ففي الوقت الذي تحول فيه التخطيط والتنظيم إلى علم مستقل يدرس في الأكاديميات الغربية لازال الصحويون عندنا يرددون مفاهيم التوكل والاحتساب والقضاء والقدر!!
اندفاعة صاحبي أرسطو وهو يقرر هذه الحقيقة القطعية .. دفعت الجميع –فيما يبدو- الى اللياذ بالصمت وعدم التعليق..
وتغير مجرى الحوار قليلاً نحو قضية الانتخابات البلدية.. فأبدى أحد الحضور دهشته من انتصار الإسلاميين الساحق في المقاعد البلدية، فقال أرسطو: السبب ياعزيزي هو أن مايسمى شباب الصحوة الاسلامية الذين تراهم مصطفين أرتالاً في دروس المشايخ، ويلقون الكلمات بعد الصلوات، ويشرفون على برامج تحفيظ القرآن الكريم، ويكتظون في رمضان وراء الأئمة المشهورين في صلاة التراويح، وينقسمون إلى فرق عمل توزع المطويات أمام صفوف المصلين وتعلقها في الجدران الخلفية للمساجد، الخ الخ
هؤلاء ياعزيزي ليسوا كما تتصور مجرد استجابة اجتماعية مباشرة للنصائح والمواعظ العابرة، هذه أسطورة يحاول أن يقنعنا بها الصحويون، لكن هيهات هيهات، ذهب الوقت الذي ينفردون فيه بمنابر التعبير، خلاص خلاص انتهى وقت التعتيم، الجميع اكتشف أن هذه الجموع الشبابية جزء من نسيح حركي منظم بدقة، وشبكات مترابطة تدير وتنفذ أجندات مرتبة مسبقاً، ومافوزهم في الانتخابات البلدية إلا أحد الوجوه والمظاهر البسيطة لثقافة التنظيم والتنسيق التي تقوم عليها التعاليم الصحوية!
بل انظروا في كافة مؤسساتهم الدينية كالمراكز الصيفية، وحلقات التحفيظ، وتوعية الجاليات، والمبرات الخيرية، وجمعيات فائض الأطعمة، وحملات الحج، والمجلات الاسلامية، وكتائب المحتسبين، وستكتشف عشقهم وهيامهم بقضايا الهرمية الإدارية والجداول السنوية ورسم الأهداف والملفات الورقية والإلكترونية ونحوها. هذه الصحوة ياعزيزي تتنفس التنظيم في كل دقيقة.
سأل أحد الحضور –ولست أدري هل كان سؤاله ساذج أم يستسذج- فقال: على فكرة من هو الشخص الذي طرح قبل قليل أن الصحوة تتبني فكر الفوضى الدينية؟ فربما كان هناك حوار جيد بينكما؟
طبعاً الجميع شعر بالموقف المخجل .. فالجميع يعرف أن من طرح أن الصحوة (فوضوية) وأن الصحوة (منظمة) هو صاحبي أرسطو نفسه!
ومرة أخرى يقع في مطب التناقض العقلي .. أكثر شخص في حياتي رأيته مولعاً بمفهوم العقلانية!
وأتذكر مرة أنني وإياه كنا في مانشستر في مقهى مشهور يرتاده العرب في هذه المنطقة كثيراً، ولما جاء النادل أخذ طلبنا ومضى بأقل قدر ممكن من الكلمات، قال لي أرسطو: أرأيت ياصديقي خليل عظمة الحضارة الغربية، انظر كيف لم يزعجنا هذا النادل بأحاديثه ولم يثقلنا بالتلطف التسويقي المبالغ فيه ليمنحنا طقسنا الخاص في المقهى! هاهنا صرخت ولم أحتمل .. قلت له: أرسطو .. كفى أرجوك .. قبل أسبوعين كنت تنتقد نادل مطعم "الريف اللبناني" بالرياض حين أخذ الطلب وانصرف، وكنت تقول لي بالحرف الواحد: انظر إلى تخلفه، ففي الدول المتقدمه تجد النادل يتبسم ويتلطف ويقول لك كلمات ترحيبية بروتوكولية معروفة!
حتى نادلي المطاعم يا أرسطو لم يسلموا من تناقضاتك العقلانية .. إن تكلموا وسكتنا قلت: محادثة الزبائن يشعرهم بالألفة، وإن سكتنا وتكلموا قلت: عدم إثقال الزبائن بعباراتك يمنحهم طقسهم الخاص!
ومرةً قال لي صاحبي أرسطو وهو يتأمل: جوهر مشكلة الصحوة الدينية أنها "حركة سكونية".
فقلت له: وماذا تعني بذلك؟
قال لي: أعني أنها تكرس الواقع القائم، وتسعى للمحافظة على ثبات الأوضاع، وترفض التغيير والحراك.
ثم مكثنا دقائق ونقلت له عبارة جميلة قرأتها في ظلال القرآن لسيد قطب في تفسير آية [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا] في مطلع سورة فاطر، فهذا الموضع في ظلال القرآن أظن أنه أرقى لحظة إيمانية وصل إليها سيد رحمه الله في تفسيره الظلال، فقد ذكر في هذا الموضع من تأملاته الروحانية العذبة مالاتقاومه الجبال الرواسي.
المهم أنني حين قرأت على صديقي أرسطو هذا الاقتباس، قال لي وهو يهز رأسه كمحقق يلتقط آخر خيوط الجريمة:
آآآآه .. سيد قطب .. وما أدراك ماسيد قطب .. سيد قطب هذا هو ينبوع البلاء ياصديقي خليل ..
قلت له: لم أفهم ماذا تقصد؟
فقال: سيد قطب هذا هو المهندس الرئيسي لمفهوم "جاهلية المجتمع المعاصر" ، ولذلك يدعو في الظلال ومعالم في الطريق إلى (الانقلاب الشامل)للتصورات والمفاهيم، ويحاول دوماً أن يفسر قصص الأنبياء على أنها انقلاب شامل على فكر مجتمعهم بما فيه من قيم وموازين ومفاهيم وتصورات وأخلاق وسلوكيات.
والحقيقة أن هذه الأفكار ليست جديدة أيضاً فمدرسة أهل السنة كانت تتبنى مفهوم "الغربة والغرباء" وكانت ترى أهل السنة غرباء في هذا الواقع المتلاطم بالمحدثات والمعاصي، ويقدمون صورة سوداوية وقاتمة عن المجتمع.
وهذه في الحقيقة أفكار خطيرة جداً جداً ياصديقي خليل، لأنها تغذي في الشاب نزعة النقمة والسخط ضد الواقع ورفضه وتحديه ومجابهته بدلاً من دعمه وتعزيزه.
قلت له عزيزي أرسطو .. ثمة سؤال صغير !
قال لي: كعادتك ستقول: أن هناك تناقضاً عقلياًَ في كلامي .. وأين العقلانية التي تدعوا إليها؟!
قلت له: اعذرني ياأرسطو .. فعلاً هذا هو الذي حدث .. فأنت قبل قليل كنت تقول أن الصحوة حركة سكونية تدعو للمحافظة على الوضع القائم، والآن تقول لي أن الصحوة حركة انقلابية ناقمة تغذي السخط ضد الأوضاع الاجتماعية؟!
فهل الصحوة سكونية أم ثورية ؟! أرجوك يا أرسطو .. أرجوك قليلاً فقط من العقل !
وكنت مرةً أتجول مع صديقي أرسطو بالسيارة على طريق الدائري الشمالي بالرياض، ودلفنا منه إلى طريق الملك فهد، وكنا نتحدث عن أحد فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم -عليه رضوان الله- المتعلقة بتحكيم القوانين الوضعية، فقال لي صديقي أرسطو: مشكلة المنهج السلفي أنه منهج نصوصي للأسف!
قلت له: وماذا تعني بالضبط، فالنصوص عموماً تحظى باحترام واسع في العلوم كلها، كالقانون والأدب وغيرها؟
قال لي: أقصد أن الفهم السلفي للنصوص فهم حرفي محدود ومفقر، يدور في قوالب اللفظ النصوصي ذاته، وغير قادر على الإضافة واستثمار إشارات النص وفحواه ودلالاته الكلية لإنتاج خطاب غزير يغري القارئ بالدخول في معمعته، ولذلك يمكن القول أن هناك "شح في المضامين" في الخطاب السلفي تحتاج إلى مشروعات ارتوازية لإغاثتها!
وبينما نحن نتجول مررنا في طريقنا بمكتبة الرشد .. فاقترح الصديق أن نلقي نظرة على جديد المطبوعات التراثية، فلما نزلنا على المكتبة ومسحنا أغلب الستاندرات .. قال لي أرسطو: يا ألله .. مشكلة الفكر السلفي أنه يعاني من ظاهرة "تمدد المعنى"، أعني أنك لو تطالع النص الشرعي لرأيت القرآن كتاب واحد فقط، وأحاديث النبي المتفق على صحتها ربما لاتتجاوز ثلاثة أو أربعة مجلدات فقط، ومع ذلك إذا نظرت إلى كتب التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والمصطلح والعقيدة والفتاوى وجدتها تصل إلى الآلاف من الكتب!
فكل جيل من علماء الدين يضيف إلى المعاني الدينية استنباطاته الخاصة حتى تحول الدين إلى قاعدة بيانات يستحيل على المتخصص ذاته، فضلاً عن المسلم العادي؛ الإحاطة بها، فبالله عليك من هو المسؤول عن هذا التمدد في المعنى، والتوسع في التأليف، وإدخال ملايين الاستنباطات في الكتب الدينية؟!
قلت له بالمناسبة ياصديقي أرسطو: هل ترى أن الفكر الديني فكر نصوصي يعاني من شح المضامين، أم هو فكر استنباطي يعاني من تمدد المعنى؟!
فقال لي: كلاهما .. كلاهما ..
فقلت له: حسناً .. كلاهما كلاهما .. وأهلا وسهلاً بالنقيضين في مجلس واحد، وأحسن الله عزاءنا في العقل والعقلانية!
ثم قال لي: ولكن بصراحة ليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة الخطيرة فعلاً في التعامل مع هذا التراكم التراثي، هناك كارثة منهجية في التعامل مع هذا الموروث. أتدري ماهي ياخليل؟
قلت له: تفضل يا مصنع النقد العقلاني واشرح لي المشكلة !
قال: لا .. لا .. أنا أحدثك بجدية.
قلت له: حسناً .. وماهي المشكلة؟
فقال: صدقني –كما ذكرت لك- ليس لدي مشكلة فعلية مع قضية تمدد المعنى وكثرة الاستنباطات في الكتب التراثية الدينية، وإنما المشكلة أن الصحويين يرفضون أي نقد يوجهه المفكرون المبدعون للتراث، ويدعون في كتاباتهم إلى (قداسة التراث) والممانعة ضد نقده، وإذا تجرأ أحد على المساس بهذا المقدس فربما تورط في فتاوى تكفير وعزل اجتماعي. وهذه مشكلة فعلية وخطيرة، يجب أن نكون مرحبين بنقد التراث سواء كتب العقيدة أم الفقه أم التفسير أم الحديث أم أصول الفقه أم غيرها !
وبينما نحن نتسوق التقطت كتابين لأحد المعاصرين وأخذت أتصفحهما لأحسم قرار شرائهما، كان أحد الكتابين اسمه "نقد منهج المتأخرين في الحديث"، والثاني اسمه "الملحوظات العقدية على فتح الباري" .. لما شاهدني صاحبي أرسطو أقلب صفحاتهما بشغف ولهفة قال لي:
ياضيعة الأعمار .. مارأيت أكثر انشغالاً بالنقد من هؤلاء المطاوعة!! بالله عليك ياخليل انظر كيف لم يتركوا أحداً من علماء التراث إلا انتقدوه، فما كتبه أعلام التراث المتأخرين في مصطلح الحديث كابن حجر والسيوطي والسخاوي والألباني انتقدوه جذرياً، وليس نقد جزئيات، بل نقد منهجي، ورأو أنهم أطلقوا القواعد بدلاً من القرائن، كما في إشكاليات زيادة الثقة، ووصل المرسل، ووقف المرفوع، والتصحيح المطلق بتعدد الطرق، ونحوها، فقد قلبوا كل ماكتبه المتأخرون في المصطلح رأساً على عقب!!
وما كتبه أعلام التراث المتأخرين في أصول الفقه كالباقلاني والجويني والغزالي والرازي والآمدي انتقدوه جذرياً، وليس نقد جزئيات، بل نقد منهجي، فعابوا عليهم كثيراً من القواعد والمفاهيم ورأو أنها مستعارة من الثقافة المنطقية اليونانية ولاتعبر عن روح منهج النبي وأصحابه في فهم النصوص.
وأما كتب الحديث فأكثرها عندهم فيها الضعيف والساقط.
وأما كتب التفسير فلاتستطيع أن تجد تفسيراً واحداً يقبلون كل مافيه، فيقولون لك: هذا فيه إسرائيليات، وهذا فيه أحاديث وآثار ضعيفة، وهذا تفسير أدبي يصلح للتأملات الإيمانية والأخلاقية وليس تفسيراً علمياً الخ الخ. فلم يسلم منهم تفسير واحد!
وأما كتب الفقه فكلها عندهم "كتب مذهبية" لاحجة فيها، ويتهكمون بالفقهاء المذهبيين المعاصرين، ولايعولون في الفتيا على أي فقيه مذهبي معاصر، بل يجب عندهم أن يكون فقيهاً مستقلاً عن المذاهب !
وأما عقائد أعلام التراث، فأكثر كتب العقيدة التي تسمى "علم الكلام" فبالرغم من مافيها من إبداع عقلي وغزارة ذهنية فإنهم يذمونها ويردونها ويزعمون أنها لاتمت إلى عقيدة محمد وأصحابه بسبب.
ولايكاد يوجد مبدع من مبدعي التراث إلا وانتقدو عقيدته كابن رشد والشاطبي وابن خلدون وابن حزم والجويني والغزالي والجاحظ والزمخشري والكندي وابن باجه وابن طفيل وابن سينا الخ.
فهذا معتزلي، وهذا أشعري، وهذا ماتريدي، وهذا فيه تشيع، وهذا فيه تجهم، وهذا باطني، وهذا فيه تفلسف الخ
لقد تحول الصحويون في تعاملهم مع التراث إلى "فرامات نقدية" بدلاً من أن يكونوا قراء متسامحين مع هذا التراث!
تبسمتُ وأطرقت وأنا أرى صديقي أرسطو يتذكر هذه الشواهد .. ولما رآني أتبسم أدرك أننا عدنا للمربع الأول!
فقال لي وهو يضحك: هاااه .. شكلنا دخلنا في السيدين من جديد !
قلت: نعم .. نعم .. هذا ماحدث .. قبل قليل كنت تقول أن الصحويين يتبنون مفهوم (قداسة التراث) ويرفضون نقده، والآن تقول لي لم يترك الصحويون شيئاً في التراث إلا وانتقدوه بدأً من العقائد وحتى كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث!
فليتك تفكر قليلاً ياعزيزي أرسطو، ثم تحدد لي بالضبط وجهة نظرك، هل أنت ترى الصحوة (تقدس التراث) أم هي منهمكة في (نقد التراث) ؟
خرجنا من المكتبة وذهبنا إلى أحد الاستراحات شرق الرياض حيث كنا مدعوين لأمسية فكرية لمجموعة شباب مهتمين بالقضايا الفكرية، وبينهم وبين صديقي أرسطو علاقة عضوية مسبقة، وصلنا إلى هناك وكانت المظاهر غير غريبة، فالقهوة والشاي والفطائر والمعجنات هي هي التي تراها في كل مجلس سعودي، ربما أكثر شئ شدني الحجم المبالغ فيه لشاشة التلفاز! لقد كانت كبيرة كأنما صممت لتكون شاشة إعلانات فوق أحد الإشارات وليست شاشة عادية لمشاهدة البرامج!
المهم، بدأت الجلسة بشئ من المجاملات ثم ناقشنا تقريباً كل الملفات الفكرية السعودية، كنت متلهفاً لأرى أبعاد ومدى قناعاتهم أين وصلت بالضبط؟ أو بمعنى أدق كنت أريد أن أعرف هل هم من الشريحة التي تغلف الأفكار العلمانية الغربية بثوب إسلامي وشواهد تراثية، أم هم من الشريحة التي تعبت من التلفيق التراثي وضعف جدواه وقررت مكاشفة نفسها والوضوح مع الذات وأقرت بأن العلمانية الغربية والاسلام متفاوتان برغم انحيازهم للعلمانية الغربية؟
وبينما كانت الحوارات الفكرية تطوح بنا في كل اتجاه؛ تحدث أحد الجالسين عن مقالة أعجبته للكاتبة في جريدة الوطن ليلى الأحدب وهي تدعوا فيها إلى الاختلاط وتنقد المطاوعة.
فقال صديقي أرسطو: مشكلة الفكر الديني أنه لن يتقبل هذه المقالة، أتدري لماذا؟! بكل بساطة لأنه ينظر إلى المرأة باعتبارها كائن مثير جنسياً، فلا يتعامل الفقهاء معها إلا على أساس منطق الرغبة ولغة اللذة. والتفت ناحيتي وواصل حديثه: المرأة ياصديقي خليل "إنسان" أولاً وقبل كل شئ.
المهم .. جلسنا شوي وبدأ الكلام حول بعض المحطات الفضائية، وتفاوت الجزيرة والعربية وغيرها في تغطية أحداث غزة هذه الأيام، ولا أدري كيف سحب الكلام صديقي أرسطو وبدأ يتحدث عن جمال مذيعات إحدى القنوات، ويصف أجسادهن واحدة واحدة، ولم يقصر الموجودون في المشاركة .. وتدهور المجلس أكثر وأكثر وصاروا يقارنون بين المذيعات والمطربات ونجمات السينما ودخلوا في تفاصيل تنبو عنها مروءة الأسوياء ..
المهم أنني تعمدت أن أترك صديقي أرسطو حتى يسترسل في توصيفاته الشهوانية لأجساد المذيعات ونحورهن ونبرات أصواتهن وهمساتهن للمتصلين.. ففاجأته وهو في خضم شخيره الشهواني: أرسطو .. سلامااات!! قبل قليل كنت تنتقد الاسلاميين لأنهم يعاملون المرأة ككائن جنسي .. وأنت الآن غارق في التلذذ والتأوه على خيال المذيعات! هل هذه هي خواتيم مجالس الليبراليين .. يفتتحون أمساتهم بشتم الصحوة ثم ينتقلون للشأن السياسي اللبناني ثم يختمون السهرة بسفاد الصورة ؟!
يا أخي الفقهاء –على الأقل- تعاملوا مع المعطى الجنسي في حدوده المشروعة، لكنك أنت وأصحابك فضلتم العهر على نقاء المشروعية.
وحين انتهى العشاء وغادرنا الأمسية الفكرية .. قال لي أرسطو ونحن بالسيارة: ياعزيزي خليل أحس أن حنبليتك اليوم كانت مركزة شوي، لأني أحس أنك آذيت الشباب يوم انتقدتهم على تقييمهم الطبيعي لجمال المذيعات.
فحين سمعت كلامه هذا خرجت عن طوري وصرخت في وجهه: والله ياأرسطو أنك ماتستحي من جد.. لا أدري كيف تنسجم مع نفسك وأنت تقضي ليلك مع أصحابك "المفكرين العظام أصحاب الحلول" في التلذذ بذكر الفنانات والمذيعات وفتيات الغلاف والتوصيفات الشبقية لقسماتهن، ثم تأتي في مجلس آخر ولاتجد أي غضاضة بأن تتظاهر بالملائكية وتنتقد الفقهاء لأنهم يرون المرأة "كائن جنسي" لأن فتاواهم تتضمن بعض الحواجز بين الجنسين!
بصراحة كنت متشككاً في فتاوى بعض الفقهاء، لكن حين رأيت سلوكياتك أنت وأصحابك قلت في نفسي: "والله إنهم مقدين فيكم" ويبدو أن الفقهاء ما أفتو بمثل تلك الفتاوى إلا لأنهم يعرفون أن هذه حقيقتكم، إذا كان هذا سلوك من يتظاهر بالتعامل القيمي مع المرأة فكيف بمن لايبالي أصلاً بمثل هذه المفاهيم!!
ضحك صاحبي أرسطو لتلطيف الجو .. وقال: ياحبيلك ياحنبل .. إذا كنت مستكثر على زملائي هؤلاء سواليف المذيعات .. أجل ماشفتهم يتجاكرون في علاقاتهم اللايف مع المعرّفات الأنثوية في المنتديات! والله إنك على وجهك ياحنبل !!
سكتُّ قليلاً .. ثم قلت بتهكم: أجل المرأة "إنسان" يا أرسطو !
وصلنا إلى منزله .. وغادرني وهو يضحك..
اتصل بي أرسطو من الغد وقال لي: عزيزي حنبل سأكون غداً الساعة التاسعة مساءً ضيفاً في برنامج إسمه "مابعد الإرهاب" في أحد القنوات الخليجية .. ويسرني أن تتابع مشاركتي.
قلت: بكل سرور..
وحين قاربت الساعة التاسعة أدرت الريموت على القناة.
بدأ البرنامج بمقدمات وضيوف متعددين .. وجاء دور صديقي أرسطو .. كان السؤال الذي وجِّه إليه عن رأيه عن إشكالية النصوص الدينية والاقتباسات الفقهية التي يتداولها الإرهابيون في رسائلهم كمبررات لأعمالهم.
فتنحنح صاحبي أرسطو .. وقال:والله ياسيدتي الكريمة .. شوفي يعني .. الحقيقة أنو الفكر الديني الذي يتداوله الإرهابيون –وهو بالمناسبة فكر شائع وليس مقصوراً على المنفّذين فقط- هو في جوهره ليس قراءة علمية معرفية تتغيا الوصول الحقيقي لمعاني نصوص القرآن والسنة والموروث الديني بماهو موروث ديني .. ياسيدتي هذه يمكن إنو إحنا نسميها "قراءة استغلالية".. بمعنى هم يأخذون من الموروث الديني مايريدون، ويغيبون المضامين الأخرى التي تخدش أفكارهم! فهي قراءة "موجهة" تخدم أفكار مقررة مسبقاً .. لاحظتي معاي .. أما نصوص القرآن فهي نصوص سلمية وحقوقية مذهلة، بل إن الرسول الكريم نفسه في سيرته الشريفة يمكن القول أنه كان غاندياً قبل غاندي إن صح التعبير، وأنا هنا أقصد المعنى المجازي حتى لايسئ أحد فهمي، فضلاً عن إبداعات الشاطبي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم كثير..
قالت المذيعة: آها شكرا لك .. يعني أنت ترى أن المشكلة ليست في النصوص وإنما في القراءة أو ماتسميها "القراءة الاستغلالية".
رد صاحبي أرسطو: بالضبط .. بالضبط .. هذه هي المشكلة ياسيدتي ..
وبعد أخذ عدة مشاركات أخرى لضيوف آخرين، رجع الدور إلى صاحبي أرسطو مرة أخرى، وكان السؤال هذه المرة: كيف يمكننا تقديم فكر سلمي وحضاري يتجاوز هذا المأزق الإرهابي؟ :
فقال صاحبي أرسطو: أولاً قبل أن نذكر إنتاج خطاب سلمي وحضاري، يجب أولاً إنو إحنا نفهم ونستوعب مكونات مجتمعنا ياسيدتي.. مجتمعنا بيئة معجونة بالتدين كلياً ..
المذيعة: وماذا تريد أن تصل إليه بالضبط من ذلك؟
فقال صاحبي: ما أريد أن أصل إليه أن أي خطاب سلمي وحضاري يتجاهل المحتوى التراثي سوف يخسر رهاناته الاجتماعية قطعاً .. وبالتالي فإنه يجب أن ننتج خطاب سلمي وحضاري منغرس في التراث ذاته.
المذيعة: تقصد أن الخطاب السلفي التراثي هو الحل؟
صاحبي أرسطو: لا .. لا .. قطعياً .. السلفية هي المشكلة فكيف تكون جزءاً من الحل .. لا .. لا .. بتاتاً .. لا أقصد ذلك .. وإنما أقصد أن نقوم بقراءة للتراث توظف المفاهيم الحضارية فيه وتستغلها لبناء خطاب مدني معاصر، ونتجاوز المفاهيم التراثية المتعارضة مع منطق العصر .. ويجب أن تتم هذه القراءة بحذر شديد لئلا يتسرب إلينا أي مفهوم يتصادم مع الفكر الحضاري الحديث .. فمثل هذه القراءة الموجهة باتت ضرورية جداً اليوم لمجتمعاتنا ..
المذيعة: عزيزي كنت تقول قبل قليل أن مشكلة الفكر الإرهابي أنه قراءة استغلالية غير علمية للتراث، وأنت الآن تطالب بقراءة استغلالية للتراث. فأتمنى توضيح الفرق للمشاهد..
حينها أطلقتُ ضحكةً أسمعت أهل المنزل كله .. ورميت الريموت على الشاشة وأغلقت الجهاز .. وأخذت أردد: الله يفشلك يا أرسطو .. حتى على الفضائيات عجزت أن تتخلى عن تناقضاتك العقلية!
يقول لها قبل شوي مشكلة السلفية أنها قراءة استغلالية غير علمية للتراث، ويوم جاء الحل: قال يجب أن نقوم بقراءة استغلالية للتراث !
وهكذا بقي صاحبي أرسطو يعوم بين أمواج التناقضات العقلية وهو يتصور أنه وأصحابه هم الذين اكتشفوا غياب العقلانية في الآخرين!
مرةً يقول لي مشكلة الصحوة أنها غائبة عن السياسة وجاهلة بالواقع والسياسة بحر متلاطم، ثم يأتيني لاحقاً ويقول مشكلة الصحوة أنها فكر مسيس يسعى للهيمنة والنفوذ واللعب على توازنات القوى.
ومرةً يقول لي مشكلة الصحوة هو سيطرتها على قنوات التعبير عن الرأي، ثم يأتيني لاحقاً ويقول ماهو تفسير إقصاء الاسلاميين عن الاعلام والصحافة؟
ومرةً يقول لي مشكلة الصحوة أنها رفضت الفكر الغربي والاستفادة منه برغم أن الحكمة ضالة المؤمن، ثم يأتيني لاحقاً ويقول لا أدري لماذا يشتم الصحويون الغرب وهم ينهلون من معين العلوم المدنية الغربية والتقنيات الغربية الحديثة، فكثير من الأطباء والمهندسين مطاوعة، وكل المشايخ لهم مواقع إلكترونية، بل حتى تنظيم القاعدة –وهو أكثر اتجاه اسلامي تطرفا- يتفانى في استخدام ارقى التقنيات التكنولوجية العسكرية الغربية، بل انظر إقبال الصحويين على البعثات وكيف يتسابقون إليها ويحثون شبابهم على الاستفادة منها!
ومرةً يقول لي الصحوة مجرد ظاهرة شكلية تنفعل بالأحداث السياسية وغير قادرة على إحداث أي شئ، ثم يأتيني لاحقاً ويقول الصحوة مهيمنة على المجتمع ونافذة في مؤسساته وتؤثر بشكل خطير على القرارات السياسية.
ومرةً يقول لي مشكلة الاحتساب الصحوي أنه يمارس تحريض الدولة على الفكر المخالف، ثم يأتيني لاحقاً ويقول يجب على الدولة أن تمارس الحزم في مسائل المدنية، ولاتسمع لهؤلاء المتخلفين، لقد جربت الدولة الحسم وكان هو الأجدى.
ومرةً يقول لي الفكر الصحوي المتخلف هو الذي أخر عمليات المأسسة في مفهوم الدولة الحديثة أن تتعمق في مجتمعنا، بسبب تبني الصحوة الدينية لمفهوم "العزلة الشعورية" والانفصال وعدم الاندماج في مؤسسات المجتمع مما ترتب عليه تفويت فرصة كبيرة لتأسيس مفهوم الدولة الحديثة، ثم يأتيني لاحقاً ويقول مشكلة الصحوة هي النفوذ داخل الهياكل المؤسسية للدولة، وقد كانوا يتنادون للتغلغل فيها عبر فكرة كانوا ينقلونها عن ابن باز وهي قوله (زاحموهم .. زاحموهم..) وهذا أدى لشلل القلب النابض للمجتمع وهو مؤسساته المدنية.
ومرةً يقول لي الصحويون يفتون بكل شئ، وماتركوا علماً إلا خاضوا فيه، وهذا ليس شأنهم، ثم يأتيني لاحقاً ويقول لي: أين إجابات الصحوة في الإشكاليات والعلوم المدنية الحديثة، الصحوة غائبة عن الواقع!
ومرةً يقول لي: مشكلة الفكر الديني الصحوي هو الاحتجاج بأقوال الرجال وليس بالأدلة، ثم إذا ناقشته في مسألة من المسائل وذكرت له الأدلة احتج علي فيها بأن المسألة فيها مخالفين، فصار يحتج بالرجال على الأدلة!
ومرةً يقول لي: مشكلة النقد الصحوي لكتّاب الصحافة هو أنهم يدخلون في النيات وينقرون عما في قلوب الكتّاب، ثم يأتيني لاحقاً ويقول التراث الديني ليس أفكاراً مجردة، بل الفقهاء والمحدثين لهم أغراض سياسية خفية تتعلق برغبة الهيمنة وصراعات النفوذ فيلومنا على الكلام في نيات بعض كتّاب الصحافة الليبرالية الحكومية، بينما يتهم هو نيات أئمة الفقه والحديث ومن أطبق التاريخ على تقواهم وصدقهم!
وهكذا .. وهكذا ..
والحديث عن التناقضات العقلية لصاحبي أرسطو العقلاني تطول وتطول ..
قد يكون بعض كتاب الصحافة فيهم شئ من جينات صاحبي أرسطو هذا، بحيث يقولون الشئ ونقيضه عن الصحوة دون أن يستوعبوا تناقضاتهم العقلية، بل قد يكون "أرسطو" هذا مجرد نموذج معبر عن حال كتّاب الصحافة الذين يضعون في عناوينهم شعارات العقلانية بينما هم يدورون في عجلات التناقض العقلي .. ولكن بالتأكيد أن صاحبي أرسطو هذا نموذج مكثف وحالة لاعقلانية مركزة جداً..
والمشكلة أنه لازال إلى الآن يتصور أن مشكلة الآخرين هي غياب التفكير العقلاني!!
لقد سببت لي صحبته بهجة نفسية وهستيريا عقلية معاً!
لكنني صابر ومحتسب على صحبته .. فأخوتنا الروحية لاأظن أنه يعدلها أي أخوة في عالم العلاقات ..
سألني مرةً: لماذا ياخليل أراك متحمس جداً للدفاع عن المتدينين؟
فقلت له: لأنني ياصديقي لاحظت أن سعي بعض الكتّاب لشحن الجيل الجديد ضد المتدينين إنما أرادو به في الحقيقة "عزل الشباب عن منابع التدين" تمهيداً لحقنهم بالمضامين العلمانية المغلفة .. وقد تأملت في حال كثيرٍ من الشباب الذين تاهت بهم رياح الضلالة والحيرة فرأيت أن الخطوة الأولى كانت "تشرب الشحن ضد المتدينين والأخيار" بما ترتب عليه انفصال الشاب عن مقابس الإيمان، والبقاء فارغاً يحمل الجاهزية للتعبئة بالمحتوى التغريبي ..
"الصحابة" ياعزيزي خليل كان فيهم التقصير والخطأ، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغ المنتهى في العبودية، ومع ذلك يقول الله لنبيه (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) ثم يستكمل ويقول له (ولاتعد عيناك عنهم).. فالنبي مأمور بمصاحبة المتدينين مهما كان فيهم من الخطأ والتقصير .. بالله عليك ماهو الدرس الكبير الذي تحمله مضامين هذه الآية العظيمة ..
وداعاً ..
للكاتب : خليل الوهيبي
من صيد الفوائد.
التعليق:
أن الباحث في مقالات الكثير من دعاة العلمانية والليبرالية سيجد الكثير من التناقضات المشابهة لمثل أقوال صاحبا أرسطو.
تحياتي للجميع.
أحد أصدقائي القريبين جداً إلى نفسي بدأ مع حقبة الإنترنت يقرأ في المنتديات الفكرية، ثم لاحظ أنهم في حواراتهم يشيرون إلى كتب بعض العلمانيين العرب، فذهب واقتنى بعضها من مكتبة "التراثية" (مكتبة متخصصة في بيع الكتب العلمانية شمال الرياض) وقرأ في بعضها لكنه لم يواصل، وانصرف كلياً إلى التهام الروايات واحدة تلو الأخرى.
ثم تعرف صاحبي هذا على مجموعة من الشباب ممن استهوتهم ذات الموجة, وصاروا يجتمعون في مايسمونه "أمسيات فكرية"! ومن أطرف مافي أمسياتهم هذه مايمكن تسميته "وهم الحل" .. حيث يتصورون أنفسهم -وهم يناقشون كل شئ وينتقدون كل شئ- أنهم يملكون مفاتيح الحلول لكل المشكلات السياسية والاقتصادية والتقنية والاجتماعية في الوقت الذي أفلس فيه متخصصوا الشرق والغرب عن حلها!
المهم أن صديقي هذا تغيرت شخصيته جذرياً .. وصار كل حديثه -الذي يستغرق الساعات الطويلة- ليس فيه إلا مفردتين فقط (العقلانية والصحوية) وماتصرّف منهما .. فحديثه الطريف تتكرر فيه عبارات من نوع: العقلنة، والتعقلن، والمعقولية، واللاعقلانية، وماقبل العقل، ومابعد العقل، بالإضافة إلى الصحوية والصحونة والتصحون والخطاب الصحوي الخ الخ.
ومن الطريف أن صديقي هذا بيني وبينه من الانسجام والتآلف النفسي أكثر مما بين الشقيقين، وبيننا من التنافر والتضاد الفكري أكثر مما بين الغنوشي وابن عتيق! وقد أفلست كل اختلافاتنا الفكرية أن تصرم حبال المودة الشخصية بيننا .. فأصبحنا كقطارين متوازيين يسيران بجانب بعضهما لكن لكل منهما رحلته الخاصة..
أعجب مافي أفكار صديقي هذا هو أن أفكاره لاتمت إلى العقلانية بصلة! بل لن أبالغ إن قلت أنه لم يقرأ في حياته كلها كتاباً منهجياً واحداً في فلسفة العقل وتحليل طبيعته وقوانينه الجوهرية وإشكالياته العلمية ذات الصلة! لكنه يعشق أن يقحم كلمة "العقل" وماتصرف منها بين فواصل حديثه.
ومن المعلوم في فلسفة العقل أن القانون الأزلي للعقل هو "عدم التناقض" ، فمهما اختلف العقلاء حول إشكاليات العقل (مثل المثالية/الواقعية والاستقراء والسببية والقصدية وعلاقة الذهن بالمكونات الفيزيقية الخ)، فإنهم كلهم متفقون على أن "عدم التناقض" هو أرضية العقل الرئيسية وحجر الزاوية فيه.
ففلاسفة الشرق والغرب على مدار التاريخ يعتبرون "التناقض" حالة لاعقلانية، وهي نقيض العلم والمعرفة .. فلو جوّزنا "التناقض" لانهارت العلوم كلها .. ولذلك فلو أخذت عينة من "النقاشات العلمية" في شتى الفنون والمعارف، وحللت العمليات العقلية المجردة فيها بغض النظر عن موضوعها، فستجد الجزء الأكبر منها يقوم على هذه العملية العقلية وهي الاحتجاج في نقض النظريات الأخرى بالتناقض في تفسير المعطيات ..
ولذلك يستخدمها بعض فلاسفة الوضعية المنطقية تحت عنوان: الأمثلة المضادة "counterexamples"، فالمثال المضاد الذي يستخدم في دحض النظريات هو في جوهره يعمل على أساس مبدأ "عدم التناقض". وقد كان قدماء المناطقة يقولون الكلية السالبة تنقض بجزئية موجبة، والكلية الموجبة تنقض بجزئية سالبة، وهذا النقض في الحالتين هو في جوهره قائم على مبدأ "عدم التناقض" .
المهم أن صديقي هذا المغرم بالعقلانية كل أفكاره وأحاديثه تناقض × تناقض، ويمكن لجلسائه أن يختلفوا حول أي شئ في شخصيته إلا في قدرته المذهلة على أن يقول الشئ ونقيضه في آن واحد! .. والمشكلة أنه يقول الشئ ونقيضه بنفس الحماسة والاندفاع في الطرفين، وفي نفس الجلسة!! ولايتفطن بتاتاً أن فكرته الأولى نقيض لفكرته الثانية.. ولذلك تحول إلى مادة دسمة للتريقة والضحكات والتعليقات الساخرة بين بقية الأصدقاء ..
ومع انتهاكه المستمر لأهم مبدأ في العقلانية، فإنه لايكف عن توجيه النصائح للآخرين بأن يهتموا بالعقل !
ونتيجة تناقضاته الطريفة والغزيرة هذه أطلق عليه أحد الأصدقاء لقب "مفكر أبوسيدين" [رايح جاي] .. وصديق آخر قال له: "ياخي لما أشوفك صاجّنا بالعقلانية وأنت أفكارك كلها متناقضة أتذكر نكتة الكفيف اللي راح يسجل في معهد للرماية! " .
أما أنا فقررت أن أطلق عليه لقب "أرسطو" فوافق على ذلك وقال لي: ولكن بشرط، فقلت له: تفضل والمؤمنون على شروطهم. فقال لي: بشرط أن ترضى أن ألقبك بـ "حنبل" !
قلت له: كل الشرف أن تلقبني برمز أهل السنة، فقال لي: وأنا أتشرف بأن تلقبني برمز العقل في التاريخ.
فقلت له: الحمدلله .. مادام أنه لايضايقك فدعني أستعمله ياعزيزي "أرسطو" .
أتذكر مرةً أننا كنا نتحاور عن مشكلة غياب المشاركة الشعبية في نظامنا السياسي المحلي، وأخذ كلٌ يدلي بسنارته في بحر هذا الموضوع الواسع، فقفز علينا "أرسطو" قائلاً: الصحوة .. الصحوة .. هي المشكلة، فالصحوة تكرّس الاستبداد، وتعزز قيم ومفاهيم الطاعة المطلقة لولي الأمر، وتشتم الديمقراطية، وتناهض كل حركات المعارضة كالمسعري والفقيه والدستوريين الخ ولذلك صار ولي الأمر مبتهجاً بهذه الصحوة التي تكرس انفراده بالسلطة وتقمع منافسيه السياسيين وتشتغل على ترويض المجتمع للانصياع للسلاطين، صدقوني: الصحوة باختصار مجرد أداة لتكريس الاستبداد والخنوع التام لولي الأمر وتقبيل قدميه، ولذلك يدعمها السياسي ويوفر لها النفوذ الاجتماعي المطلوب.
المهم .. تبدل مسار حوارنا إلى موضوعات أخرى وتحدثنا عن محاولات تفجير المنشآت النفطية في المنطقة الشرقية، والموجّهات التي تدفع إلى هكذا أفكار، فضرب صاحبي "أرسطو" بيده على الطاولة وقال بنبرة اكتشاف وهو يرقّص حاجبيه: فتش عن الخطاب الصحوي ياعزيزي!
توقف الجميع ليستمعوا لشرح هذا المانشيت!
فاستكمل "أرسطو" قائلاً: ياعزيزي الصحوة تضخ مفاهيم سياسية تمردية خطيرة جداً، فهي تتبنى التكفير الذي هو السلاح الأساسي للعصيان السياسي، وتدافع عن ظواهر "الخروج" على السلطة في التاريخ الاسلامي القديم والمعاصر، وتتبنى ترميز وتعظيم وتضخيم الشخصيات التي ناهضت السلطة كسلطان العلماء العز بن عبدالسلام ونحوه، ولهم دراسات كثيرة في مجلة البيان السلفية يجمعون فيها الشواهد السلفية التي تعزز شرعية الإنكار العلني على ولي الأمر، ويتحدثون برومانسية عن اعتقال الإمام أحمد وهجره لابنه بسبب علاقته الإيجابية مع السلطان، والاعتقالات المتعددة لابن تيمية (وهما أهم شخصيتين على الإطلاق في العقل السني المعاصر)، ويتحاشى الصحويون في خطبهم يوم الجمعة الدعاء لولاة الأمور، ولايذكرون بتاتاً أحاديث الطاعة لولي الأمر برغم أنها في الصحيحين، ويتهمون أي شخصية موالية للسلطة وتذيع هذه الأحاديث بأنه "جامي" وهو أقذع وصف في العقل الصحوي، ولايفضلون اسم "السعودية" ويفضلون أن يقولوا "جزيرة الإسلام" أو "بلاد الحرمين" ونحوها من الأوصاف التي تتحاشى الإقرار الضمني بالولاء للأسرة الحاكمة، وناشطون بشكل مذهل في كل الجبهات الجهادية كأفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق وغزة، وانظر لأناشيدهم الحماسية التي يتداولونها كيف تقوم بتعبئة الشباب وتهييجهم. وكل الشخصيات التفجيرية هم تلامذة سابقون للصحوة، فالصحوة ياعزيزي هي -أولاً وأخيراً- حركة تكفير وتفجير وخروج على السلطة.
طبعاً .. أحد الأصدقاء كاد أن ينقلب على قفاه بسبب الضحك .. والآخرون اكتفوا بكظم تبسمهم المتفلت، وأطرق صديقي "أرسطو" لأنه شعر أن ثمة مايخجل لكنه لم يكتشف بالضبط مصدره، أما أنا فتشجعت وسألته:
عزيزي أرسطو .. قبل قليل كنت تقول أن الصحوة حركة تكرس الإستبداد والطاعة المطلقة لولاة الأمور وتذكر الشواهد على ذلك، والآن ياعزيزي تقول أن الصحوة حركة تكفير وتفجير وخروج وتمرد على السلطة. ممكن ياعزيزي أرسطو تشرح لي كيف يجتمع هذين النقيضين؟!
هل علمت الآن ياصديقي أرسطو لم كان الأصدقاء يتندرون عليك بلقب "مفكر ابوسيدين" ؟! أهم شرط للخطاب العقلاني هو "عدم التناقض" وأنت حديثك كله سلسلة من المتناقضات يرفس بعضها ركاب بعض !
ومع ذلك كله .. فهل تصدق عزيزي القارئ .. أنني إلى الآن لا أعرف بالضبط هل استوعب صديقي أرسطو أنه كان متناقضاً في هاتين الفكرتين، أم لازال يتوهم أنهما كلتاهما صحيحتان، وأن الصحوة حركة تدعم الطاعة المطلقة لولاة الأمور وتدعم الخروج عليهم في ذات الوقت ؟!
وكنت أتساءل .. هل صديقي أرسطو التقط أحد الفكرتين من مجلس أصدقائه بتوعين الأمسيات الفكرية، والفكرة الأخرى من مجلس آخر، ثم تبناهما كلاهما دون أن يستوعب التناقض بينهما، أم أن أصدقاءه أصحاب الأمسيات الفكرية يتبنون هم أيضاً هذا التناقض دون وعي ؟!
بصراحة .. لست أدري .. لكن دعنا نواصل طرائف أرسطو ..
وأتذكر مرةً في أحد مناسبات الزواج أنني كنت وصديقي أرسطو من المدعوين، وقد أخذنا ركناً قصياً من الصالة وأخذنا ندردش قليلاً، وسرعان مااكتظت الزاوية ببعض المعارف والأصدقاء وتحولت لورشة حوار فكري ممتع، فتحدث أحد الجلوس عن سوء التنظيم والترتيب في الحفلة، وغياب التخطيط المسبق عن هكذا احتفالات، وهل هذه خصيصة سعودية أم هي شأن عام؟
وهاهنا أطلق صاحبي أرسطو قهقهةً متصلة كأنه يريد بها قطع بقية الأصوات تمهيداً لطرح رأيه، فلما سكت الجميع قال صاحبي أرسطو: ياسيدي السبب هو أن الصحوة الدينية التي هيمنت على فكرنا الاجتماعي تعاني من قيمة دونية منحطة لقضية الترتيب والتنظيم والتخطيط، الصحوة تبث فكر الفوضى الدينية، أو على قولة عيال الحواري "طقها والحقها" ، هل تعلم أنهم يتداولون نصوصاً عن "التوكل على الله" و "الايمان بالقضاء والقدر" لتعزيز سلوكياتهم الفوضوية هذه! هذا هو السبب ياعزيزي.. إنها الصحوة تلك الوكيل المعتمد لتربية الفوضى، ففي الوقت الذي تحول فيه التخطيط والتنظيم إلى علم مستقل يدرس في الأكاديميات الغربية لازال الصحويون عندنا يرددون مفاهيم التوكل والاحتساب والقضاء والقدر!!
اندفاعة صاحبي أرسطو وهو يقرر هذه الحقيقة القطعية .. دفعت الجميع –فيما يبدو- الى اللياذ بالصمت وعدم التعليق..
وتغير مجرى الحوار قليلاً نحو قضية الانتخابات البلدية.. فأبدى أحد الحضور دهشته من انتصار الإسلاميين الساحق في المقاعد البلدية، فقال أرسطو: السبب ياعزيزي هو أن مايسمى شباب الصحوة الاسلامية الذين تراهم مصطفين أرتالاً في دروس المشايخ، ويلقون الكلمات بعد الصلوات، ويشرفون على برامج تحفيظ القرآن الكريم، ويكتظون في رمضان وراء الأئمة المشهورين في صلاة التراويح، وينقسمون إلى فرق عمل توزع المطويات أمام صفوف المصلين وتعلقها في الجدران الخلفية للمساجد، الخ الخ
هؤلاء ياعزيزي ليسوا كما تتصور مجرد استجابة اجتماعية مباشرة للنصائح والمواعظ العابرة، هذه أسطورة يحاول أن يقنعنا بها الصحويون، لكن هيهات هيهات، ذهب الوقت الذي ينفردون فيه بمنابر التعبير، خلاص خلاص انتهى وقت التعتيم، الجميع اكتشف أن هذه الجموع الشبابية جزء من نسيح حركي منظم بدقة، وشبكات مترابطة تدير وتنفذ أجندات مرتبة مسبقاً، ومافوزهم في الانتخابات البلدية إلا أحد الوجوه والمظاهر البسيطة لثقافة التنظيم والتنسيق التي تقوم عليها التعاليم الصحوية!
بل انظروا في كافة مؤسساتهم الدينية كالمراكز الصيفية، وحلقات التحفيظ، وتوعية الجاليات، والمبرات الخيرية، وجمعيات فائض الأطعمة، وحملات الحج، والمجلات الاسلامية، وكتائب المحتسبين، وستكتشف عشقهم وهيامهم بقضايا الهرمية الإدارية والجداول السنوية ورسم الأهداف والملفات الورقية والإلكترونية ونحوها. هذه الصحوة ياعزيزي تتنفس التنظيم في كل دقيقة.
سأل أحد الحضور –ولست أدري هل كان سؤاله ساذج أم يستسذج- فقال: على فكرة من هو الشخص الذي طرح قبل قليل أن الصحوة تتبني فكر الفوضى الدينية؟ فربما كان هناك حوار جيد بينكما؟
طبعاً الجميع شعر بالموقف المخجل .. فالجميع يعرف أن من طرح أن الصحوة (فوضوية) وأن الصحوة (منظمة) هو صاحبي أرسطو نفسه!
ومرة أخرى يقع في مطب التناقض العقلي .. أكثر شخص في حياتي رأيته مولعاً بمفهوم العقلانية!
وأتذكر مرة أنني وإياه كنا في مانشستر في مقهى مشهور يرتاده العرب في هذه المنطقة كثيراً، ولما جاء النادل أخذ طلبنا ومضى بأقل قدر ممكن من الكلمات، قال لي أرسطو: أرأيت ياصديقي خليل عظمة الحضارة الغربية، انظر كيف لم يزعجنا هذا النادل بأحاديثه ولم يثقلنا بالتلطف التسويقي المبالغ فيه ليمنحنا طقسنا الخاص في المقهى! هاهنا صرخت ولم أحتمل .. قلت له: أرسطو .. كفى أرجوك .. قبل أسبوعين كنت تنتقد نادل مطعم "الريف اللبناني" بالرياض حين أخذ الطلب وانصرف، وكنت تقول لي بالحرف الواحد: انظر إلى تخلفه، ففي الدول المتقدمه تجد النادل يتبسم ويتلطف ويقول لك كلمات ترحيبية بروتوكولية معروفة!
حتى نادلي المطاعم يا أرسطو لم يسلموا من تناقضاتك العقلانية .. إن تكلموا وسكتنا قلت: محادثة الزبائن يشعرهم بالألفة، وإن سكتنا وتكلموا قلت: عدم إثقال الزبائن بعباراتك يمنحهم طقسهم الخاص!
ومرةً قال لي صاحبي أرسطو وهو يتأمل: جوهر مشكلة الصحوة الدينية أنها "حركة سكونية".
فقلت له: وماذا تعني بذلك؟
قال لي: أعني أنها تكرس الواقع القائم، وتسعى للمحافظة على ثبات الأوضاع، وترفض التغيير والحراك.
ثم مكثنا دقائق ونقلت له عبارة جميلة قرأتها في ظلال القرآن لسيد قطب في تفسير آية [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا] في مطلع سورة فاطر، فهذا الموضع في ظلال القرآن أظن أنه أرقى لحظة إيمانية وصل إليها سيد رحمه الله في تفسيره الظلال، فقد ذكر في هذا الموضع من تأملاته الروحانية العذبة مالاتقاومه الجبال الرواسي.
المهم أنني حين قرأت على صديقي أرسطو هذا الاقتباس، قال لي وهو يهز رأسه كمحقق يلتقط آخر خيوط الجريمة:
آآآآه .. سيد قطب .. وما أدراك ماسيد قطب .. سيد قطب هذا هو ينبوع البلاء ياصديقي خليل ..
قلت له: لم أفهم ماذا تقصد؟
فقال: سيد قطب هذا هو المهندس الرئيسي لمفهوم "جاهلية المجتمع المعاصر" ، ولذلك يدعو في الظلال ومعالم في الطريق إلى (الانقلاب الشامل)للتصورات والمفاهيم، ويحاول دوماً أن يفسر قصص الأنبياء على أنها انقلاب شامل على فكر مجتمعهم بما فيه من قيم وموازين ومفاهيم وتصورات وأخلاق وسلوكيات.
والحقيقة أن هذه الأفكار ليست جديدة أيضاً فمدرسة أهل السنة كانت تتبنى مفهوم "الغربة والغرباء" وكانت ترى أهل السنة غرباء في هذا الواقع المتلاطم بالمحدثات والمعاصي، ويقدمون صورة سوداوية وقاتمة عن المجتمع.
وهذه في الحقيقة أفكار خطيرة جداً جداً ياصديقي خليل، لأنها تغذي في الشاب نزعة النقمة والسخط ضد الواقع ورفضه وتحديه ومجابهته بدلاً من دعمه وتعزيزه.
قلت له عزيزي أرسطو .. ثمة سؤال صغير !
قال لي: كعادتك ستقول: أن هناك تناقضاً عقلياًَ في كلامي .. وأين العقلانية التي تدعوا إليها؟!
قلت له: اعذرني ياأرسطو .. فعلاً هذا هو الذي حدث .. فأنت قبل قليل كنت تقول أن الصحوة حركة سكونية تدعو للمحافظة على الوضع القائم، والآن تقول لي أن الصحوة حركة انقلابية ناقمة تغذي السخط ضد الأوضاع الاجتماعية؟!
فهل الصحوة سكونية أم ثورية ؟! أرجوك يا أرسطو .. أرجوك قليلاً فقط من العقل !
وكنت مرةً أتجول مع صديقي أرسطو بالسيارة على طريق الدائري الشمالي بالرياض، ودلفنا منه إلى طريق الملك فهد، وكنا نتحدث عن أحد فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم -عليه رضوان الله- المتعلقة بتحكيم القوانين الوضعية، فقال لي صديقي أرسطو: مشكلة المنهج السلفي أنه منهج نصوصي للأسف!
قلت له: وماذا تعني بالضبط، فالنصوص عموماً تحظى باحترام واسع في العلوم كلها، كالقانون والأدب وغيرها؟
قال لي: أقصد أن الفهم السلفي للنصوص فهم حرفي محدود ومفقر، يدور في قوالب اللفظ النصوصي ذاته، وغير قادر على الإضافة واستثمار إشارات النص وفحواه ودلالاته الكلية لإنتاج خطاب غزير يغري القارئ بالدخول في معمعته، ولذلك يمكن القول أن هناك "شح في المضامين" في الخطاب السلفي تحتاج إلى مشروعات ارتوازية لإغاثتها!
وبينما نحن نتجول مررنا في طريقنا بمكتبة الرشد .. فاقترح الصديق أن نلقي نظرة على جديد المطبوعات التراثية، فلما نزلنا على المكتبة ومسحنا أغلب الستاندرات .. قال لي أرسطو: يا ألله .. مشكلة الفكر السلفي أنه يعاني من ظاهرة "تمدد المعنى"، أعني أنك لو تطالع النص الشرعي لرأيت القرآن كتاب واحد فقط، وأحاديث النبي المتفق على صحتها ربما لاتتجاوز ثلاثة أو أربعة مجلدات فقط، ومع ذلك إذا نظرت إلى كتب التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والمصطلح والعقيدة والفتاوى وجدتها تصل إلى الآلاف من الكتب!
فكل جيل من علماء الدين يضيف إلى المعاني الدينية استنباطاته الخاصة حتى تحول الدين إلى قاعدة بيانات يستحيل على المتخصص ذاته، فضلاً عن المسلم العادي؛ الإحاطة بها، فبالله عليك من هو المسؤول عن هذا التمدد في المعنى، والتوسع في التأليف، وإدخال ملايين الاستنباطات في الكتب الدينية؟!
قلت له بالمناسبة ياصديقي أرسطو: هل ترى أن الفكر الديني فكر نصوصي يعاني من شح المضامين، أم هو فكر استنباطي يعاني من تمدد المعنى؟!
فقال لي: كلاهما .. كلاهما ..
فقلت له: حسناً .. كلاهما كلاهما .. وأهلا وسهلاً بالنقيضين في مجلس واحد، وأحسن الله عزاءنا في العقل والعقلانية!
ثم قال لي: ولكن بصراحة ليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة الخطيرة فعلاً في التعامل مع هذا التراكم التراثي، هناك كارثة منهجية في التعامل مع هذا الموروث. أتدري ماهي ياخليل؟
قلت له: تفضل يا مصنع النقد العقلاني واشرح لي المشكلة !
قال: لا .. لا .. أنا أحدثك بجدية.
قلت له: حسناً .. وماهي المشكلة؟
فقال: صدقني –كما ذكرت لك- ليس لدي مشكلة فعلية مع قضية تمدد المعنى وكثرة الاستنباطات في الكتب التراثية الدينية، وإنما المشكلة أن الصحويين يرفضون أي نقد يوجهه المفكرون المبدعون للتراث، ويدعون في كتاباتهم إلى (قداسة التراث) والممانعة ضد نقده، وإذا تجرأ أحد على المساس بهذا المقدس فربما تورط في فتاوى تكفير وعزل اجتماعي. وهذه مشكلة فعلية وخطيرة، يجب أن نكون مرحبين بنقد التراث سواء كتب العقيدة أم الفقه أم التفسير أم الحديث أم أصول الفقه أم غيرها !
وبينما نحن نتسوق التقطت كتابين لأحد المعاصرين وأخذت أتصفحهما لأحسم قرار شرائهما، كان أحد الكتابين اسمه "نقد منهج المتأخرين في الحديث"، والثاني اسمه "الملحوظات العقدية على فتح الباري" .. لما شاهدني صاحبي أرسطو أقلب صفحاتهما بشغف ولهفة قال لي:
ياضيعة الأعمار .. مارأيت أكثر انشغالاً بالنقد من هؤلاء المطاوعة!! بالله عليك ياخليل انظر كيف لم يتركوا أحداً من علماء التراث إلا انتقدوه، فما كتبه أعلام التراث المتأخرين في مصطلح الحديث كابن حجر والسيوطي والسخاوي والألباني انتقدوه جذرياً، وليس نقد جزئيات، بل نقد منهجي، ورأو أنهم أطلقوا القواعد بدلاً من القرائن، كما في إشكاليات زيادة الثقة، ووصل المرسل، ووقف المرفوع، والتصحيح المطلق بتعدد الطرق، ونحوها، فقد قلبوا كل ماكتبه المتأخرون في المصطلح رأساً على عقب!!
وما كتبه أعلام التراث المتأخرين في أصول الفقه كالباقلاني والجويني والغزالي والرازي والآمدي انتقدوه جذرياً، وليس نقد جزئيات، بل نقد منهجي، فعابوا عليهم كثيراً من القواعد والمفاهيم ورأو أنها مستعارة من الثقافة المنطقية اليونانية ولاتعبر عن روح منهج النبي وأصحابه في فهم النصوص.
وأما كتب الحديث فأكثرها عندهم فيها الضعيف والساقط.
وأما كتب التفسير فلاتستطيع أن تجد تفسيراً واحداً يقبلون كل مافيه، فيقولون لك: هذا فيه إسرائيليات، وهذا فيه أحاديث وآثار ضعيفة، وهذا تفسير أدبي يصلح للتأملات الإيمانية والأخلاقية وليس تفسيراً علمياً الخ الخ. فلم يسلم منهم تفسير واحد!
وأما كتب الفقه فكلها عندهم "كتب مذهبية" لاحجة فيها، ويتهكمون بالفقهاء المذهبيين المعاصرين، ولايعولون في الفتيا على أي فقيه مذهبي معاصر، بل يجب عندهم أن يكون فقيهاً مستقلاً عن المذاهب !
وأما عقائد أعلام التراث، فأكثر كتب العقيدة التي تسمى "علم الكلام" فبالرغم من مافيها من إبداع عقلي وغزارة ذهنية فإنهم يذمونها ويردونها ويزعمون أنها لاتمت إلى عقيدة محمد وأصحابه بسبب.
ولايكاد يوجد مبدع من مبدعي التراث إلا وانتقدو عقيدته كابن رشد والشاطبي وابن خلدون وابن حزم والجويني والغزالي والجاحظ والزمخشري والكندي وابن باجه وابن طفيل وابن سينا الخ.
فهذا معتزلي، وهذا أشعري، وهذا ماتريدي، وهذا فيه تشيع، وهذا فيه تجهم، وهذا باطني، وهذا فيه تفلسف الخ
لقد تحول الصحويون في تعاملهم مع التراث إلى "فرامات نقدية" بدلاً من أن يكونوا قراء متسامحين مع هذا التراث!
تبسمتُ وأطرقت وأنا أرى صديقي أرسطو يتذكر هذه الشواهد .. ولما رآني أتبسم أدرك أننا عدنا للمربع الأول!
فقال لي وهو يضحك: هاااه .. شكلنا دخلنا في السيدين من جديد !
قلت: نعم .. نعم .. هذا ماحدث .. قبل قليل كنت تقول أن الصحويين يتبنون مفهوم (قداسة التراث) ويرفضون نقده، والآن تقول لي لم يترك الصحويون شيئاً في التراث إلا وانتقدوه بدأً من العقائد وحتى كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث!
فليتك تفكر قليلاً ياعزيزي أرسطو، ثم تحدد لي بالضبط وجهة نظرك، هل أنت ترى الصحوة (تقدس التراث) أم هي منهمكة في (نقد التراث) ؟
خرجنا من المكتبة وذهبنا إلى أحد الاستراحات شرق الرياض حيث كنا مدعوين لأمسية فكرية لمجموعة شباب مهتمين بالقضايا الفكرية، وبينهم وبين صديقي أرسطو علاقة عضوية مسبقة، وصلنا إلى هناك وكانت المظاهر غير غريبة، فالقهوة والشاي والفطائر والمعجنات هي هي التي تراها في كل مجلس سعودي، ربما أكثر شئ شدني الحجم المبالغ فيه لشاشة التلفاز! لقد كانت كبيرة كأنما صممت لتكون شاشة إعلانات فوق أحد الإشارات وليست شاشة عادية لمشاهدة البرامج!
المهم، بدأت الجلسة بشئ من المجاملات ثم ناقشنا تقريباً كل الملفات الفكرية السعودية، كنت متلهفاً لأرى أبعاد ومدى قناعاتهم أين وصلت بالضبط؟ أو بمعنى أدق كنت أريد أن أعرف هل هم من الشريحة التي تغلف الأفكار العلمانية الغربية بثوب إسلامي وشواهد تراثية، أم هم من الشريحة التي تعبت من التلفيق التراثي وضعف جدواه وقررت مكاشفة نفسها والوضوح مع الذات وأقرت بأن العلمانية الغربية والاسلام متفاوتان برغم انحيازهم للعلمانية الغربية؟
وبينما كانت الحوارات الفكرية تطوح بنا في كل اتجاه؛ تحدث أحد الجالسين عن مقالة أعجبته للكاتبة في جريدة الوطن ليلى الأحدب وهي تدعوا فيها إلى الاختلاط وتنقد المطاوعة.
فقال صديقي أرسطو: مشكلة الفكر الديني أنه لن يتقبل هذه المقالة، أتدري لماذا؟! بكل بساطة لأنه ينظر إلى المرأة باعتبارها كائن مثير جنسياً، فلا يتعامل الفقهاء معها إلا على أساس منطق الرغبة ولغة اللذة. والتفت ناحيتي وواصل حديثه: المرأة ياصديقي خليل "إنسان" أولاً وقبل كل شئ.
المهم .. جلسنا شوي وبدأ الكلام حول بعض المحطات الفضائية، وتفاوت الجزيرة والعربية وغيرها في تغطية أحداث غزة هذه الأيام، ولا أدري كيف سحب الكلام صديقي أرسطو وبدأ يتحدث عن جمال مذيعات إحدى القنوات، ويصف أجسادهن واحدة واحدة، ولم يقصر الموجودون في المشاركة .. وتدهور المجلس أكثر وأكثر وصاروا يقارنون بين المذيعات والمطربات ونجمات السينما ودخلوا في تفاصيل تنبو عنها مروءة الأسوياء ..
المهم أنني تعمدت أن أترك صديقي أرسطو حتى يسترسل في توصيفاته الشهوانية لأجساد المذيعات ونحورهن ونبرات أصواتهن وهمساتهن للمتصلين.. ففاجأته وهو في خضم شخيره الشهواني: أرسطو .. سلامااات!! قبل قليل كنت تنتقد الاسلاميين لأنهم يعاملون المرأة ككائن جنسي .. وأنت الآن غارق في التلذذ والتأوه على خيال المذيعات! هل هذه هي خواتيم مجالس الليبراليين .. يفتتحون أمساتهم بشتم الصحوة ثم ينتقلون للشأن السياسي اللبناني ثم يختمون السهرة بسفاد الصورة ؟!
يا أخي الفقهاء –على الأقل- تعاملوا مع المعطى الجنسي في حدوده المشروعة، لكنك أنت وأصحابك فضلتم العهر على نقاء المشروعية.
وحين انتهى العشاء وغادرنا الأمسية الفكرية .. قال لي أرسطو ونحن بالسيارة: ياعزيزي خليل أحس أن حنبليتك اليوم كانت مركزة شوي، لأني أحس أنك آذيت الشباب يوم انتقدتهم على تقييمهم الطبيعي لجمال المذيعات.
فحين سمعت كلامه هذا خرجت عن طوري وصرخت في وجهه: والله ياأرسطو أنك ماتستحي من جد.. لا أدري كيف تنسجم مع نفسك وأنت تقضي ليلك مع أصحابك "المفكرين العظام أصحاب الحلول" في التلذذ بذكر الفنانات والمذيعات وفتيات الغلاف والتوصيفات الشبقية لقسماتهن، ثم تأتي في مجلس آخر ولاتجد أي غضاضة بأن تتظاهر بالملائكية وتنتقد الفقهاء لأنهم يرون المرأة "كائن جنسي" لأن فتاواهم تتضمن بعض الحواجز بين الجنسين!
بصراحة كنت متشككاً في فتاوى بعض الفقهاء، لكن حين رأيت سلوكياتك أنت وأصحابك قلت في نفسي: "والله إنهم مقدين فيكم" ويبدو أن الفقهاء ما أفتو بمثل تلك الفتاوى إلا لأنهم يعرفون أن هذه حقيقتكم، إذا كان هذا سلوك من يتظاهر بالتعامل القيمي مع المرأة فكيف بمن لايبالي أصلاً بمثل هذه المفاهيم!!
ضحك صاحبي أرسطو لتلطيف الجو .. وقال: ياحبيلك ياحنبل .. إذا كنت مستكثر على زملائي هؤلاء سواليف المذيعات .. أجل ماشفتهم يتجاكرون في علاقاتهم اللايف مع المعرّفات الأنثوية في المنتديات! والله إنك على وجهك ياحنبل !!
سكتُّ قليلاً .. ثم قلت بتهكم: أجل المرأة "إنسان" يا أرسطو !
وصلنا إلى منزله .. وغادرني وهو يضحك..
اتصل بي أرسطو من الغد وقال لي: عزيزي حنبل سأكون غداً الساعة التاسعة مساءً ضيفاً في برنامج إسمه "مابعد الإرهاب" في أحد القنوات الخليجية .. ويسرني أن تتابع مشاركتي.
قلت: بكل سرور..
وحين قاربت الساعة التاسعة أدرت الريموت على القناة.
بدأ البرنامج بمقدمات وضيوف متعددين .. وجاء دور صديقي أرسطو .. كان السؤال الذي وجِّه إليه عن رأيه عن إشكالية النصوص الدينية والاقتباسات الفقهية التي يتداولها الإرهابيون في رسائلهم كمبررات لأعمالهم.
فتنحنح صاحبي أرسطو .. وقال:والله ياسيدتي الكريمة .. شوفي يعني .. الحقيقة أنو الفكر الديني الذي يتداوله الإرهابيون –وهو بالمناسبة فكر شائع وليس مقصوراً على المنفّذين فقط- هو في جوهره ليس قراءة علمية معرفية تتغيا الوصول الحقيقي لمعاني نصوص القرآن والسنة والموروث الديني بماهو موروث ديني .. ياسيدتي هذه يمكن إنو إحنا نسميها "قراءة استغلالية".. بمعنى هم يأخذون من الموروث الديني مايريدون، ويغيبون المضامين الأخرى التي تخدش أفكارهم! فهي قراءة "موجهة" تخدم أفكار مقررة مسبقاً .. لاحظتي معاي .. أما نصوص القرآن فهي نصوص سلمية وحقوقية مذهلة، بل إن الرسول الكريم نفسه في سيرته الشريفة يمكن القول أنه كان غاندياً قبل غاندي إن صح التعبير، وأنا هنا أقصد المعنى المجازي حتى لايسئ أحد فهمي، فضلاً عن إبداعات الشاطبي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم كثير..
قالت المذيعة: آها شكرا لك .. يعني أنت ترى أن المشكلة ليست في النصوص وإنما في القراءة أو ماتسميها "القراءة الاستغلالية".
رد صاحبي أرسطو: بالضبط .. بالضبط .. هذه هي المشكلة ياسيدتي ..
وبعد أخذ عدة مشاركات أخرى لضيوف آخرين، رجع الدور إلى صاحبي أرسطو مرة أخرى، وكان السؤال هذه المرة: كيف يمكننا تقديم فكر سلمي وحضاري يتجاوز هذا المأزق الإرهابي؟ :
فقال صاحبي أرسطو: أولاً قبل أن نذكر إنتاج خطاب سلمي وحضاري، يجب أولاً إنو إحنا نفهم ونستوعب مكونات مجتمعنا ياسيدتي.. مجتمعنا بيئة معجونة بالتدين كلياً ..
المذيعة: وماذا تريد أن تصل إليه بالضبط من ذلك؟
فقال صاحبي: ما أريد أن أصل إليه أن أي خطاب سلمي وحضاري يتجاهل المحتوى التراثي سوف يخسر رهاناته الاجتماعية قطعاً .. وبالتالي فإنه يجب أن ننتج خطاب سلمي وحضاري منغرس في التراث ذاته.
المذيعة: تقصد أن الخطاب السلفي التراثي هو الحل؟
صاحبي أرسطو: لا .. لا .. قطعياً .. السلفية هي المشكلة فكيف تكون جزءاً من الحل .. لا .. لا .. بتاتاً .. لا أقصد ذلك .. وإنما أقصد أن نقوم بقراءة للتراث توظف المفاهيم الحضارية فيه وتستغلها لبناء خطاب مدني معاصر، ونتجاوز المفاهيم التراثية المتعارضة مع منطق العصر .. ويجب أن تتم هذه القراءة بحذر شديد لئلا يتسرب إلينا أي مفهوم يتصادم مع الفكر الحضاري الحديث .. فمثل هذه القراءة الموجهة باتت ضرورية جداً اليوم لمجتمعاتنا ..
المذيعة: عزيزي كنت تقول قبل قليل أن مشكلة الفكر الإرهابي أنه قراءة استغلالية غير علمية للتراث، وأنت الآن تطالب بقراءة استغلالية للتراث. فأتمنى توضيح الفرق للمشاهد..
حينها أطلقتُ ضحكةً أسمعت أهل المنزل كله .. ورميت الريموت على الشاشة وأغلقت الجهاز .. وأخذت أردد: الله يفشلك يا أرسطو .. حتى على الفضائيات عجزت أن تتخلى عن تناقضاتك العقلية!
يقول لها قبل شوي مشكلة السلفية أنها قراءة استغلالية غير علمية للتراث، ويوم جاء الحل: قال يجب أن نقوم بقراءة استغلالية للتراث !
وهكذا بقي صاحبي أرسطو يعوم بين أمواج التناقضات العقلية وهو يتصور أنه وأصحابه هم الذين اكتشفوا غياب العقلانية في الآخرين!
مرةً يقول لي مشكلة الصحوة أنها غائبة عن السياسة وجاهلة بالواقع والسياسة بحر متلاطم، ثم يأتيني لاحقاً ويقول مشكلة الصحوة أنها فكر مسيس يسعى للهيمنة والنفوذ واللعب على توازنات القوى.
ومرةً يقول لي مشكلة الصحوة هو سيطرتها على قنوات التعبير عن الرأي، ثم يأتيني لاحقاً ويقول ماهو تفسير إقصاء الاسلاميين عن الاعلام والصحافة؟
ومرةً يقول لي مشكلة الصحوة أنها رفضت الفكر الغربي والاستفادة منه برغم أن الحكمة ضالة المؤمن، ثم يأتيني لاحقاً ويقول لا أدري لماذا يشتم الصحويون الغرب وهم ينهلون من معين العلوم المدنية الغربية والتقنيات الغربية الحديثة، فكثير من الأطباء والمهندسين مطاوعة، وكل المشايخ لهم مواقع إلكترونية، بل حتى تنظيم القاعدة –وهو أكثر اتجاه اسلامي تطرفا- يتفانى في استخدام ارقى التقنيات التكنولوجية العسكرية الغربية، بل انظر إقبال الصحويين على البعثات وكيف يتسابقون إليها ويحثون شبابهم على الاستفادة منها!
ومرةً يقول لي الصحوة مجرد ظاهرة شكلية تنفعل بالأحداث السياسية وغير قادرة على إحداث أي شئ، ثم يأتيني لاحقاً ويقول الصحوة مهيمنة على المجتمع ونافذة في مؤسساته وتؤثر بشكل خطير على القرارات السياسية.
ومرةً يقول لي مشكلة الاحتساب الصحوي أنه يمارس تحريض الدولة على الفكر المخالف، ثم يأتيني لاحقاً ويقول يجب على الدولة أن تمارس الحزم في مسائل المدنية، ولاتسمع لهؤلاء المتخلفين، لقد جربت الدولة الحسم وكان هو الأجدى.
ومرةً يقول لي الفكر الصحوي المتخلف هو الذي أخر عمليات المأسسة في مفهوم الدولة الحديثة أن تتعمق في مجتمعنا، بسبب تبني الصحوة الدينية لمفهوم "العزلة الشعورية" والانفصال وعدم الاندماج في مؤسسات المجتمع مما ترتب عليه تفويت فرصة كبيرة لتأسيس مفهوم الدولة الحديثة، ثم يأتيني لاحقاً ويقول مشكلة الصحوة هي النفوذ داخل الهياكل المؤسسية للدولة، وقد كانوا يتنادون للتغلغل فيها عبر فكرة كانوا ينقلونها عن ابن باز وهي قوله (زاحموهم .. زاحموهم..) وهذا أدى لشلل القلب النابض للمجتمع وهو مؤسساته المدنية.
ومرةً يقول لي الصحويون يفتون بكل شئ، وماتركوا علماً إلا خاضوا فيه، وهذا ليس شأنهم، ثم يأتيني لاحقاً ويقول لي: أين إجابات الصحوة في الإشكاليات والعلوم المدنية الحديثة، الصحوة غائبة عن الواقع!
ومرةً يقول لي: مشكلة الفكر الديني الصحوي هو الاحتجاج بأقوال الرجال وليس بالأدلة، ثم إذا ناقشته في مسألة من المسائل وذكرت له الأدلة احتج علي فيها بأن المسألة فيها مخالفين، فصار يحتج بالرجال على الأدلة!
ومرةً يقول لي: مشكلة النقد الصحوي لكتّاب الصحافة هو أنهم يدخلون في النيات وينقرون عما في قلوب الكتّاب، ثم يأتيني لاحقاً ويقول التراث الديني ليس أفكاراً مجردة، بل الفقهاء والمحدثين لهم أغراض سياسية خفية تتعلق برغبة الهيمنة وصراعات النفوذ فيلومنا على الكلام في نيات بعض كتّاب الصحافة الليبرالية الحكومية، بينما يتهم هو نيات أئمة الفقه والحديث ومن أطبق التاريخ على تقواهم وصدقهم!
وهكذا .. وهكذا ..
والحديث عن التناقضات العقلية لصاحبي أرسطو العقلاني تطول وتطول ..
قد يكون بعض كتاب الصحافة فيهم شئ من جينات صاحبي أرسطو هذا، بحيث يقولون الشئ ونقيضه عن الصحوة دون أن يستوعبوا تناقضاتهم العقلية، بل قد يكون "أرسطو" هذا مجرد نموذج معبر عن حال كتّاب الصحافة الذين يضعون في عناوينهم شعارات العقلانية بينما هم يدورون في عجلات التناقض العقلي .. ولكن بالتأكيد أن صاحبي أرسطو هذا نموذج مكثف وحالة لاعقلانية مركزة جداً..
والمشكلة أنه لازال إلى الآن يتصور أن مشكلة الآخرين هي غياب التفكير العقلاني!!
لقد سببت لي صحبته بهجة نفسية وهستيريا عقلية معاً!
لكنني صابر ومحتسب على صحبته .. فأخوتنا الروحية لاأظن أنه يعدلها أي أخوة في عالم العلاقات ..
سألني مرةً: لماذا ياخليل أراك متحمس جداً للدفاع عن المتدينين؟
فقلت له: لأنني ياصديقي لاحظت أن سعي بعض الكتّاب لشحن الجيل الجديد ضد المتدينين إنما أرادو به في الحقيقة "عزل الشباب عن منابع التدين" تمهيداً لحقنهم بالمضامين العلمانية المغلفة .. وقد تأملت في حال كثيرٍ من الشباب الذين تاهت بهم رياح الضلالة والحيرة فرأيت أن الخطوة الأولى كانت "تشرب الشحن ضد المتدينين والأخيار" بما ترتب عليه انفصال الشاب عن مقابس الإيمان، والبقاء فارغاً يحمل الجاهزية للتعبئة بالمحتوى التغريبي ..
"الصحابة" ياعزيزي خليل كان فيهم التقصير والخطأ، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغ المنتهى في العبودية، ومع ذلك يقول الله لنبيه (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) ثم يستكمل ويقول له (ولاتعد عيناك عنهم).. فالنبي مأمور بمصاحبة المتدينين مهما كان فيهم من الخطأ والتقصير .. بالله عليك ماهو الدرس الكبير الذي تحمله مضامين هذه الآية العظيمة ..
وداعاً ..
للكاتب : خليل الوهيبي
من صيد الفوائد.
التعليق:
أن الباحث في مقالات الكثير من دعاة العلمانية والليبرالية سيجد الكثير من التناقضات المشابهة لمثل أقوال صاحبا أرسطو.
تحياتي للجميع.