ورود الشوق
February 4th, 2011, 21:19
أشكال الحديقة وتنوعاتها الفن والعلم في خدمة الطبيعة
مجلة القافلة -- بقلم الأستاذ : محمد شرف -- 3843 كلمة
لم تكن حديقة عدن سوى أحد الأمكنة الأقرب إلى الخيال، وقد حلم بها الناس على إعتبارها مكاناً تتحقق فيه الرغبات والأماني، حديقة أقرب في الأذهان إلى الجنة التي أضاعتها الخليقة وتحلم بإسترجاعها من جديد.
ولو عدنا إلى كلمة “حديقة” وكلمة “جنة” لوجدنا أنهما تشتقان من نفس المصدر. فتعبير جنة أي paradis يتحدر من الفارسية القديمة pairi – dea – za التي تعني تقريباً “منتزه محاط بسور” أو “حديقة التنزه الملكية”. والإسم البابلي paradisu ، الذي ليس سوى شكل لاحق من pairi – dae – za ، يترجم حرفياً بِ “سياج”، “سور”، أو بكل بساطة “ملكية محددة”.
ولكن يمكن التساؤل ما إذا كان السور والحديقة ملتصقين ببعضهما البعض على الدوام ؟ الجواب على هذا السؤال، أي على ماهية العلاقة القائمة بين الإثنين، لا بد أن يعيدنا إلى بلاد الفرس. فهذا المكان المقفل، المحدد جيداً، والمعزول عن الآخرين، هو أشبه بزاوية سرية مفتوحة لأشخاص معينين فقط، هم أولئك الذين لا يستحقون أن يطردوا منها. ولذا فإن حدائق ملوك الفرس تبدو لسكان بلد تنتشر فيه الصحاري والسهوب كأمكنة مخصصة للرغبات الأكثر رهافة، التي يحلم البعض بالدخول إليها. وعليه، وبفضل وجود السور، فقد إكتسبت تلك الحدائق تسمية “جنة” التي تنطبق عليها في شكل رمزي.
ويبدو أن الرسوم الأولى للحدائق أتت تحديداً من مناطق الشرق الأوسط الصحراوية. وهي تعود بنا إلى الأسطورة الأكادية “أدابا” التي تقودنا إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح، وإلى ملحمة جلجامش السومرية – البابلية، والتصورات التوراتية للجنة في القرن الثامن قبل المسيح. المسألة تدور هنا حول فكرة خلود الإنسان، فيما تلعب “الجنة” دوراً ثانوياً، رغم أنها المكان الذي تتقرر فيه إمكانية دخول الإنسان إلى الحياة الخالدة، والحفاظ على هذه الأفضلية التي لا يتمتع بها سوى عدد محدود من الناس. ولا بد من ملاحظة أن الكتابات الواردة في مختلف المصادر القديمة تحمل بعض الإشارات إلى المكان المحتمل لوجود جنة عدن، الواقعة، بحسب تلك المصادر، في المساحة التي تنبع منها الأنهر الأربعة الراوية للحديقة : دجلة والفرات وبيشون وغيشون. يصعب إيجاد النهرين الأخيرين على أية خريطة جغرافية، وقد تم البحث عنهما طويلاً بلا جدوى. وبحسب المعتقدات فإن هذه الأنهر الأربعة تشير إلى مناطق العالم الأربع، التي يوجد في مركزها نبع الحياة.
على هذا الأساس يمكن تصور النموذج الأصلي الذي هو عبارة عن حديقة يتوسطها نبع ماء. كما أن إعادة تكوين حديقة تبعاً للأساطير والمعتقدات الواردة أعلاه يستوجب، إضافة إلى السور والماء الآتي من الأنهر لري الحديقة، وجود الأشجار والنباتات التي تزهر وتنضج وتحمل الفاكهة في شكل مستمر ودائم.
حدائق العصور القديمة
من الصعب الإحاطة بالبراهين على وجود أشياء خارجة عن المألوف حين تكون هذه الأشياء قديمة في التاريخ. هذا الحكم لا ينطبق، بالطبع، على عجائب الدنيا السبع، التي تأكد وجودها تبعاً لأوصاف وكتابات يمكن الوثوق بها، وإحدى هذه العجائب ذات علاقة مباشرة بموضوعنا : حدائق بابل المعلقة. تشير الوثائق التاريخية إلى أن نبوخذ نصر قام بتشييد هذه الحدائق إكراماً لزوجته أميتيس حفيدة الملك إستياج ملك الميديا، وذلك بالقرب من باب عشتار المدخل العظيم الواقع بين القصر الملكي والمعابد، على شكل مدرجات مرفوعة على أعمدة من حجر وصخر وقرميد. الأولى مدرجات قياسها 40×40 م. والثانية 40×30 م. والباقية بمقاسات أقل من ذلك. وتبين من المتبقي من هذه الآثار أن الطبقة الأولى كانت على إرتفاع 8 أمتار عليها تراب زراعي بعمق مترين، والطبقة الثانية بإرتفاع 13 متراً عليها أيضاً طبقة من التراب عمقها متران وذلك خلافاً للطبقات الباقية التي حوت متراً واحداً من التراب فقط.
كانت إحدى أهم مميزات حدائق بلاد ما بين النهرين، وخلال زمن السيطرة البابلية خصوصاً، هي إبتكار طرق لم تكن معروفة من قبل لعملية الري. فالحدائق التي جرى بناؤها وتنظيمها على شكل مدرجات، كحدائق بابل المعلقة مثلاً، كان يتم إيصال الماء إليها في شكل متدرج أيضاً، أي أن قنوات خاصة كانت تصل ما بين المستوى العلوي والمستوى الأقل منه إرتفاعاً، بحيث يتسرب الماء إلى المستويات الدنيا من دون التفريط بكمياته.
وإذا كانت حدائق بابل قد بنيت على مستويات عدة فالحال لم تكن كذلك في مصر الفرعونية. إذ تفيد بعض المخططات التي عثر عليها إلى أن الحدائق الفرعونية كانت منبسطة، وجرى تنظيمها بحسب أشكال متوازية.
حول مفهوم البستان
قبل الحديث عن تطور أشكال الحديقة على مدى التاريخ لا بد من إلقاء نظرة على مفهوم البستان، والفرق ما بينه وبين الحديقة. لقد قامت البساتين منذ قديم الأزمنة، وربما كانت أسبق من الحديقة في قدمها نظراً لإرتباطها الوثيق بحاجات الإنسان الغذائية. لو نظرنا إلى تفسير كلمة بستان في المعجم لما وجدنا فرقاً كبيراً وإختلافاً عما ذكرناه سابقاً حول الحديقة من الناحية البنيوية، إذ هو يتمثل بدوره في مساحة من الأرض محاطة بسور. ولقد كان للسور، على مر التاريخ وظيفة، أو وظائف واضحة ومعروفة، فهو قبل كل شيء يحدد الملكية سواء أكان المالك شخصاً عادياً كما في حالات الفلاحين والمزارعين على أنواعهم وعلى إختلاف طرق معيشتهم، إضافة إلى منافعه الأخرى كحماية الملكية من الحيوانات على عديدها، بدءً من تلك الباحثة عن مرعى ووصولاً إلى الأنواع الأخرى القادرة على تخريب التربة والعبث بها، من دون أن ننسى أن السور يوفر الحماية من أعداء محتملين، ولو في شكل نسبي.
لكن الفرق بين الحديقة والبستان يتمحور أكثر حول الناحية الوظيفية. وقد تكرس هذا الفرق مع مرور الزمن، بحيث أصبحت التسمية ذاتها تشير إلى دور ومكانة كل منهما. فالحديقة لا تحتوي حكماً أشجاراً مثمرة، أو نباتات ومزروعات تلبي حاجة الإنسان الغذائية، بل تضم أساساً أشجاراً أصلح للزينة وزهوراً قد تزرع جميعها بحسب نظام هندسي، كما يمكن الأشجار أن تكون من الأصناف التي يمكن التلاعب بأشكالها، بعد جزها بطريقة معينة. يؤخذ في الإعتبار أيضاً إمكان دخول الحديقة والتنزه بين أقسامها من دون عوائق، في حال كونها ذات مساحة كافية للتنزه. أما البستان فيتمثل، عادة، في مساحة معينة تضم أشجاراً يمكن الإستفادة من ثمارها ونباتات وأعشاب وخضار مزروعة بحسب نظام لا يراعي دائماً الناحية الزخرفية. كما أن هذه المزروعات قد تكون عرضة للتغيير تبعاً للمواسم، ولما تقتضيه حاجة الإنسان أو حالة السوق، في حال كون البستان ذي مساحة كافية للإستثمار تجارياً.
لكن الناحية الجمالية لم تكن غائبة تماماً عن هندسة البساتين، إنما لم تكن مقصودة، ولم تكن هدفاً في حد ذاتها. فالناظر إلى سهل البقاع اللبناني، على سبيل المثال، من مكان مرتفع سيرى نوعاً من البانوراما الزراعية، تؤلفها مساحات متلاصقة ذات أشكال مختلفة تكون في كليتها ما يشبه البساط أو السجادة المزخرفة. وليس من قبيل الصدفة أن يتحول هذا السهل مع تقاطعاته وبقعه الملونة مادة تشكيلية لأعمال العديد من الرسامين، وخصوصاً أولئك الذين تربطهم بالسهل علاقة المولد والمنشأ والذكريات على أنواعها.
تطور من الحدائق
كنا قد ذكرنا أن هذا النوع من الفن يعود إلى قديم الأزمنة، ومن الطبيعي والمحتم أن يتطور مع مرور الزمن، وأن يشهد تغييرات كثيرة في العصر الروماني، وتحت تأثير الحضارة الإغريقية برز مفهوم sub urbe hortun أي ما معناه حديقة قريبة من المدينة. وتحدث الكاتب الروماني كولوميل في القرن الأول الميلادي، لأول مرة في التاريخ،عن فن الحدائق، ذاكراً بعض الإرشادات في هذا المجال حول طرق الزراعة وتفاصيلها. كما برز أيضاً في ذلك الوقت ما يسمى rus in urbe، أي الريف في المدينة، مما يشير إلى رغبة الرومان في إدخال بعض عناصر الريف إلى المدن الكبرى، وبشكل خاص مدينة روما التي كانت تشكو من زحمة السكان والمباني، مما إستدعى وجود مساحات خضراء ضمن المدينة.
وهكذا تكون مع الوقت مفهوم ال “فيلا”، الذي دل ّ حينذاك على قيام حديقة حول المنزل، أي منزل مع حديقة، وجرى التفريق بين الفيلا المدينية والفيلا الريفية لما لكل منهما من متطلبات وشروط. وقد ترك الرومان مثالاً ساطعاً على النوع الثاني هي فيلا أدريانا في تيفولي في مكان قريب من العاصمة روما. هذه الفيلا ذات المقاسات البشرية، نظراً إلى كون هندستها مختلفة عما بناه الرومان من هياكل ومعابد ذات مقاسات ضخمة، جمعت عناصر كثيرة مميزة للحديقة الرومانية كالماء المتواجد في أحواض مختلفة الأشكال والأحجام، محاطة بأعمدة قليلة الإرتفاع تنتصب قربها تماثيل، أو تقع في ما بينها. وقد اصبح وضع التماثيل في الحدائق تقليداً رومانياً بعدما كان مرفوضاً لفترة من الزمن، إذ كان يعبر، كما رأى الرومان آنذاك، عن مظهر من مظاهر الترف الشرقي، لكنه أصبح مع الوقت أحد العناصر الأساسية في الحديقة الرومانية.
إذا كانت فيلا أدريانا (صورة رقم 6 ) (صورة رقم 7)، مفتوحة على الطبيعة المحيطة بها، فإن حدائق القرون الوسطى، في مجملها، إستعادت السور كحاجز إصطناعي يفصلها عما يحيط بها، لكن هدف هذا التحديد والإنغلاق كان مختلفاً عما ذكر بالنسبة إلى الحدائق القديمة. خلال القرون الوسطى كان هناك ما يسمى “حدائق الأديرة”، الواقعة ضمن الدير كمسكن للرهبان. هذه الحدائق ذات التنظيم البسيط والقاسي لا مكان فيها لضروب الزخرفة، إذ قامت على أساس مخططات مختصرة ضمن مساحات مربعة أو مستطيلة تحيط بها غرف الدير وأماكن العبادة. كما كان الدير يضم، في حالات كثيرة، بستاناً صغير الحجم نسبياً Herbularius ذا طابع منفعي، تزرع فيه أعشاب ونباتات طبية في شكل أساسي، إذ كان إستعمال الأعشاب لأهداف علاجية من الأمور الرائجة في حياة الأديرة.
أما الأسلوب القاسي الذي ميز، إلى حد ما، حدائق القرون الوسطى في أوروبا يمكن تفسيره إنطلاقاً من الظروف التاريخية الخاصة التي عاشتها أوروبا الواقعة في ذلك الحين ضمن مناخ من المد الديني ذي الطابع المتطرف، الذي أدى إلى إطلاق الحملات الصليبية نحو الشرق لإستعادة الأماكن المقدسة، والذي أدى أيضاً إلى نوع من الإنغلاق والتصلب والزهد تجاه جملة من الأمور. هذا المناخ يقع على طرفي نقيض مع الجو الذي سيطر على بلاد الأندلس التي حكمها العرب، ثم إستعادها الأوروبيون تدريجياً. أما ما بقي في أيدي حكام تلك البلاد العرب حتى القرن الرابع عشر فقامت عليه قصور فائقة الجمال في غرناطة كقصر الحمراء على سبيل المثال، الذي تضمن، مع قصور أخرى، جنائن تعبر عن ذوق رفيع في طريقة هندستها، وفي ما تحويه من أشجار وزهور، وفي ما تحتويه أيضاً من أقنية وجداول ماء وبرك إصطناعية ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، في تعبير واضح عن إحدى المراحل الذهبية التي عاشتها الحضارة العربية منذ سبعة قرون من الزمن.
نظريات الحدائق في عصر النهضة
لا شك في أن فن الحدائق ذو صلة مباشرة بالنظريات المتعلقة به، والتي كانت أساساً ذات طابع فني أكثر منه زراعي، فعلاقتها بالفن أقوى بكثير من علاقتها بالطبيعة الجغرافية وبنوعية التربة، وما إلى ذلك من أمور. لقد حاول مهندسون وفنانون وفلاسفة وعلماء لاهوت ومزارعون برغماتيون صياغة مفاهيم ونظرة معينة إلى الحديقة، بغية الوصول إلى مبادىء محددة حول بعض المسائل مثل : هل من المفترض أن تتخذ الحديقة مظهر جنة أرضية أم مساحة عائلية ؟ هل يجب في البداية تطبيق فكرة ما أو تطبيق مهمة ذات طابع محض زراعي ؟ وهل يمكن جمع المسألتين في حديقة واحدة ؟
كان بعض علماء الأبنية خلال القرنين الرابع والخامس عشر يرون العالم من وجهة نظر مختلفة، متسائلين عن كيفية التوفيق ما بين الإرث القديم ومتطلبات الحياة الجديدة، من أجل الوصول إلى علم جمال حديث لا ترتبط حكماً بالدين، بل وأيضاً بحاجات التوفيق ما بين الإرث القديم ومتطلبات الحياة الجديدة، من أجل الوصول إلى علم جمال حديث لا ترتبط حكماً بالدين، بل وأيضاً بحاجات ومنفعة الإنسان. كان المهندس الإيطالي ليون باتيستا ألبرتي أحد أكبر العاملين على النواحي النظرية في منتصف القرن الخامس عشر، وقد أفرد جزءً من مؤلفه الكبير : عشرة كتب حول الهندسة المعمارية لمسألة الحديقة. إهتم ألبرتي بدراسة الإرث القديم، وحاول إستعمال بعض ذاك الإرث في حدائق عصره، مؤكداً على ضرورة العلاقة بين الحديقة والفيلا أو المنزل المديني، طارحاً فكرة إحداث فتحات كبيرة في جدران المنزل يمكن منها رؤية الحديقة ومضيفاً إمكانية إدخال بعض النباتات إلى المنزل لإضفاء شيئاً من الطبيعة إليه. أما فرنشيسكو كولونا فقد كان أقرب إلى الأمور التطبيقية، ولذا فقد وضع إرشادات معينة تتعلق بطبيعة المساحات الخضراء، مع تركيزه على أهمية وجود مساحة معينة، ضمن الحديقة أو قربها، تصلح كبستان يزرع أشجاراً مثمرة. وقام أيضا بوضع رسوم عديدة تبين الأشكال والأحجام الممكن الحصول عليها من خلال طريقة تقليم الأشجار. ومن العاملين على وضع رسوم لتأليف المساحات العامة للحديقة أو مربعاتها المستحدثة الفرنسيان شارل إتيان وجوهان بيشيل، إضافة إلى مساهمات آخرين لا مجال لذكرهم لضيق المجال.
شهد عصر النهضة، والقرن الخامس عشر تحديداً، بناء حدائق ذات مواصفات هندسية وجمالية مميزة. وقد تم الحفاظ على بعضها حتى يومنا هذا، رغم خضوعها لبعض التغييرات التي أملتها الظروف وطاولت في شكل أساسي نوعية المزروعات، من دون أت تغير شيئاً في هندستها. ورغم صعوبة الإختيار من بين ما أورثنا إياه ذاك العصر، فإن آراء الكثيرين تجمع أن حديقة فيلا لانتي (صورة رقم في بانيايا بإيطاليا قد تكون إحدى أجما حدائق أوروبا. ويعود هذا الحكم لكون تلك الحديقة هي من الفئة القليلة التي حافظت بدرجة كبيرة على شكلها الأصلي. وقد ساهم موقعها القريب من غابة طبيعية إلى قيام مزيج فريد ما بين المشهد الطبيعي والمشهد المشغول المنسجم تماماً مع الموقع، والمؤلف من محور أساسي تحيط به مربعات عشبية ذات رسوم كلاسيكية، ونوافير مياه ومنحوتات تكون في مجموعها نمطاً معيناً مهد الطريق نحو حديقة أل “باروك”.
النزعة نحو الزخرفة
لو عدنا إلى كلمة “باروك”، الملتصقة عادة بكلمة “روكوكو”، لوجدنا أن الكلمة الأولى هي من أصل إسباني أو بورتغالي وتعني بالعربية اللؤلؤ، وهناك من يقول أن الكلمة من أصل عربي ومشتقة من كلمة براق. هذا النوع من الفن التمثيلي والزخرفي في آن يعتبره الكثيرون السليل الطبيعي لأسلوب عصر النهضة، كما إعتبر أيضاً كآخر الأساليب الفنية الأوروبية الكبيرة. ومن الصعب تثبيت تاريخ أو زمن محدد جرى خلاله الإنتقال من أسلوب إلى آخر، لكن يمكننا القول أن الأسلوب الجديد ورث الكثير من عناصر الأسلوب الذي سبقه، وفي شكل خاص نوافير المياه التي تحولت، مع نمط الباروك، مشاهد سحرية، كما ورث المساحات الفسيحة المتداخلة مع المشهد الطبيعي، والتنظيم المتوازن symetrique للبقع المزروعة. لكن أسلوب الباروك جعل من هذه العناصر أكثر تعبيرية وغناءً، ليصل مع الحديقة على الطريقة الفرنسية إلى أشكال ضخمة عظيمة المساحة.
وبما أن حدائق الباروك تعود إلى القرن السابع عشر القريب إلينا نسبياً، فمن السهل إيجاد نماذج يمكن معاينتها في وقتنا الحاضر. فيلا غارزوني (صورة رقم 10 ) في كولودي بإيطاليا يمكن تصنيفها ضمن أجمل الحدائق التي تعكس الطراز المذكور، وهي تقع على منحدر منفصل تقريباً عن الفيلا نفسها.يقسم الحديقة محور أساسي يرتفع صعوداً نحو الهضبة، مما أدى إلى بناء مجموعة من الأدراج تصل ما بين المصاطب ذات الإرتفاعات المتفاوتة. في المستوى المنخفض المسطح من الحديقة نرى مساحة منبسطة مؤلفة من أشكال متوازنة من جهتي المحور، تضم بقعاً مزروعة نباتات وزهوراً بحسب تخطيطات الأرضية، وتفوح منها، إضافة إلى روائح الورود، رائحة الزخرفة التي يزيد من حضورها التماثيل الموجودة في أكثر من زاوية.
كنا قد أشرنا سابقاً إلى أن فن الباروك كان قد بلغ أوجه في الحديقة الفرنسية، ولعل أبرز مثال على ذلك هو فرساي. حين نقول فرساي فإننا نقصد القصر والحدائق المحيطة به الواقعة في ضواحي مدينة باريس. قام الرسام بيار باتيل عام 1668 بوضع رسم على شكل منظور يبين الموقع من الجو، أو كما يقال بالفرنسية vol d’oiseau، من خلال هذا الرسم يمكن المشاهد أن يتأمل مشهداً واسعاً ممتداً إلى الأفق البعيد ومنتهياً من الغرب في ضبابية التلال. لكن هذا المنظور، ورغم طابعه البانورامي، يعجز عن عكس الحجم الكبير للحدائق الموزعة بين محيط القصر والأجزاء القريبة منه، مكونة “بارك” عظيم المساحة لو أردنا إحاطته بسور لاٌستلزم ذلك حائطاً طوله 42 كلم، مزوداً 22 مدخلاً تتيح الولوج إلى أقسام المنتزه المختلفة.
لم يكن قصر فرساي والمتنزه الهائل المحيط به الذائع الصيت مجرد مكان لإقامة الحفلات، أو ملجأ لأفراد الحاشية الملكية الباحثين عن زاوية هادئة تبعث الراحة والإسترخاء. لقد كان من شأن هذه المقاربة المختلفة والخاصة لموضوع القصر والحديقة أن تشكل مفهوما جديداً يرمز إلى قوة الدولة وسلطتها الواسعة. شاء لويس الرابع عشر أو “الملك-الشمس”، كما كان يسمى، من خلال بنائه لهذه المجموعة الضخمة، وضع نفسه في موازاة الإله الإغريقي أبولون. ولم يكن الهدف من ذلك الدخول في لعبة ميتولوجية فقط، بل أيضاً، وفي شكل خاص، التعاطي مع المسألة من وجهة نظر سياسية. لقد هدف لويس الرابع عشر، من خلال تماهيه مع أبولون سيد الملهمات وخالق التناغم الكوني، إلى تحقيق هدف سياسي :
تقديم نفسه على أنه الزعيم الجديد للعالم المسيحي، الذي كان يحلم بالسيطرة عليه. على هذا الأساس عكس البارك مبدأ التنظيم الذي على قواعده وإنطلاقاً منه تدار أمور الدولة العظيمة التي تحكم بدورها العالم المتحضر.
عودة إلى الطبيعة
إستمرت “سيطرة” إيطاليا وفرنسا على فن الحدائق حتى العقود الأولى من القرن الثامن عشر، التي شهدت قيام “الثورة” الإنكليزية. تعبير “الثورة” هذا الذي أطلقه الإختصاصيون على “حديقة المشهد الطبيعي” الإنكليزية قد يكون فضفاضاً بعض الشيء، نظراً لأن هذه الحديقة لم تلغ أسلوب الباروك، إذ أن هذا النمط بقي على قيد الحياة لفترة طويلة وكان يحظى بأتباع ومناصرين، مما جعله يتعايش عملياً مع الأسلوب الإنكليزي في بلدان معينة.
حديقة لا حدود واضحة لها تخترقها ممرات متعرجة تمكن المرء من التمتع بالمشهد الطبيعي، من دون إلتزامه حكماً بطرقات محورية تقوم على جنباتها مساحات متوازنة كما كان يتم سابقاً، تلك هي الخطوط العريضة للحديقة الإنكليزية.
في إحدى لوحات جوزف رايت المؤرخة عام 1780، نرى السير الإنكليزي الشاب بروك بوتبي حالماً وحزيناً، متمدداً فوق أعشاب حرش طبيعي من دون قبعة أو حذاء، وكأنه مستلقٍ على كنبة في صالون منزله الريفي. تبين اللوحة أن الطبيعة هي الزاوية أو المكان الأمثل لراحة بوتبي الذاتية، وليس البيت المؤلف من أرضية وجدران وسقف. كما نراه في ذلك الرسم يقلّب صفحات كتاب، فنكتشف وكأن في الأمر صدفة أن ذاك الكتاب ليس سوى أحد مؤلفات جان جاك روسو، الكاتب الفرنسي المولع بالطبيعة واحد أكبر ممثلي المدرسة الرومنطيقية في الأدب.
في ذلك الحين كان الكثير من الإنكليز يرون في أسلوب الحديقة الفرنسية محاولة لتخريب الطبيعة، وصنوا لنظام مطلق لم يجد لنفسه من يؤيده في إنكلترا، وخصوصاً بعد حدوث الثورة الإنكليزية الثانية Glorius Revolution عام 1688، وظهور “إعلان الحقوق” في السنة التالية.
هذه الأحداث أرست القواعد لظهور بورجوازية حديثة، وذلك في زمن لم تتأخر إنكلترا عن الإرتفاع إلى مستوى القوى التجارية العظمى والرأسمالية الكبرى في العالم.
في تلك الفترة لم يعد فرساي، أو الحدائق الفرنسية الأخرى، أكثر من “كاتالوغ ” يمكن تصفحه لإختيار عناصر معينة : متاهة Labyrinthe، أجمة أو قطعة خضراء يمكن ترتيبها ووضعها بحرية ضمن إحدى الملكيات. ورغم أن مسألة الإستعارة أو الإقتباس هذه قد تكون إيجابية في الشكل، لكن الإنكليز كانوا ينظرون بإحتقار إلى المضمون الرمزي التوليتاري للحديقة الفرنسية، وإلى الغطرسة السياسية التي تميِّز أصحابها، هذا مع الإشارة إلى أن تقديرهم ل Le Notre (مصمم حديقة فرساي وأحد أكبر رسامي الحدائق الفرنسيين) ولفنه بقي قائماً على الأقل حتى منتصف القرن الثامن عشر. لكن أفكار فناني الحدائق الإنكليز إتخذت وجهة أخرى في طموحها إلى دفع دينامية تفاعل الطبيعة من دون تنظيمها أو هندستها. ومنذ عام 1667 مع صدور ملحمة جون ميلتون “الجنة الضائعة”، صار نموذج الحديقة تجسيداً مثالياً للعالم، على الطريقة الإنكليزية.
كانت بعض مميزات الحديقة الإنكليزية نتيجة عوامل أخرى. لقد فرض موقع إنكلترا التجاري قيام علاقات وثيقة مع أجزاء كثيرة من العالم، مما ساعد على تطوير نزعة تاريخية – ثقافية وشكلاً من أل exotisme.
ولذا فليس من المستغرب أن نجد في تلك الحديقة نموذجاً مصغراً لقصر صيني أو لمعبد إغريقي أو روماني، ولقلعة من طراز القرون الوسطى، محاطة بأشجار ومشرفة على مساحة خضراء فسيحة قد تخترقها طرقات ضيقة متعرجة، وتقع قربها بركة متروكة على طبيعتها، من دون أن تمتد إليها يد الإنسان أو الآلة.
الإنسان الشرقي والحديقة
لقد كانت علاقة الإنسان الشرقي بالحديقة متفاوتة ومختلفة في تجلياتها بين بلد وآخر، وبين منطقة وأخرى ضمن البلد الواحد. ولو شئنا العودة إلى سكان الصحراء خلال الأزمنة الماضية، وحتى خلال زمننا الحاضر، لقلنا أن وجود الحديقة تحت أي شكل من أشكالها كان يشير إلى نوع من الرخاء، وكان يلبي حاجة إنسانية بديهية إلى أماكن خضراء تزيل عن ساكن الصحراء كاهل العيش في مناطق خالية، ذات مناخ معروف بقساوته لا يسمح إلا بنمو أصناف محددة وقليلة من الأشجار والنباتات، نظراً لقلة الماء وإشتداد الحرارة، هذا إذا ما إستثنينا الأمكنة الواقعة قريباً من الأنهر أو من ينابيع الماء.
ولذا فإن تعبير “واحة” كان يتضمن معان كثيرة، أولها وجود الماء ومن ثم وجود الأشجار وبعض أنواع الأعشاب، إضافة إلى المعنى الرمزي لهذا المكان الذي لا يختلف كثيراً عما ذكرناه في بداية هذا البحث.
فالواحة قد تكون شكلاً من أشكال “الجنة” في المعنى الواقعي والدنيوي وبحسب الإستعمال اليومي لهذه الكلمة في الإشارة إلى مكان متميز عن سواه. هذا المكان إفتقده سكان الصحراء المتنقلين من مكان إلى آخر بحثاً عن تلك الزاوية التي يصبح العيش فيها أكثر راحة، وليس من المستغرب أن تكون تلك الواحات سبباً لصراع بين القبائل، كما كانت ينابيع أو آبار الماء القليلة تقع تحت سيطرة القبائل الأقوى والأعلى شأناً ومرتبة.
وإذ ذكرنا أن الحديقة الشرقية كانت إنعكاساً لحالة من الرخاء الإقتصادي والإجتماعي، فإن حدائق الأندلس تقدم البرهان على ذلك، وقد ساعد على قيامها الموقع الجغرافي والمناخي في طبيعة الحال، لتشكل ما يشبه التعويض الرمزي عما كان العرب يفتقدون إليه في المناطق الصحراوية. هذا، ولقد تأثرت حدائق الأندلس بأنماط الحدائق الأوروبية التي جرت الإشارة إليها، وقد إنتقل هذا التأثير ليشمل بلداناً عربية أو شرقية كثيرة.
فالأشكال الكلاسيكية الأوروبية يمكن رؤيتها في حدائقنا ماضياً وحاضراً، وخصوصاً تلك الواقعة ضمن المدن.كما أن الأسلوب الإنكليزي لا يغيب عن تخطيط المنتزهات الكبيرة نسبياً، وهو يصلح، إلى حد بعيد، للتطبيق في الأماكن الريفية حيث تكون المساحات أكثر رحابة، وحين تقع قطعة الأرض على منحدر.
ومن الرائج أن يترافق بناء الفيلات في يومنا هذا مع إستنباط حديقة تحيط بالمنزل، أو تمتد أمامه أو خلفه بحسب ما تسمح حدود الملكية. وفي بعض الحالات يصار إلى إستحداث بستان صغير يلبي بعض الحاجات المنزلية.
وقد يعتبر بناء المنزل في المناطق الريفية من دون حديقة إنتقاصاً من قيمته الجمالية، وهذا ما تفتقر إليه المدن الكبرى التي يعيش سكانها في أبنية عالية ومتلاصقة لا تترك متنفساً لمن يسكن بين جدرانها. وما من شك أن ضعف سياسة التخطيط والإهمال الملحوظ للنواحي البيئية والرؤية المنقوصة للوضع المستقبلي ستؤدي جميعها إلى نتائج وسلبيات لا تحمد عقباها.
في مجمل الأحوال، وللحديث عن الحديقة من ناحية شمولية، يمكن القول أن المفاهيم في القرن العشرين، وبداية القرن الذي نعيش فيه، سلكت إتجاهات مختلفة.
وفي ما عدا بعض الأماكن، في بلادنا أو في أمكنة أخرى، التي جرى تنظيمها بحسب نماذج ذات علاقة بالفانتازيا أو بإتجاهات رومنطقية، يمكن القول أن الوظيفة التي ألصقت بالحديقة في الزمن الماضي صارت الآن في الدرجة الثانية. فهذه الحديقة لم تعد مؤهلة لتحل مكان الطبيعة ذاتها، لكنها وسيلة فنية وجمالية لتقريب الإنسان من تلك الطبيعة. هذا الهدف لا يحقق المنتزه أو الحديقة العامة سوى جزء منه، نظراً لكون الطبيعة الحاضرة فيه لا تصلح إلا لبعض الراحة والتسلية، وهذا أمر ضروري من دون شك، لكن تأهيل حديقة يمثل أكثر من ذلك : التعامل مع أشكال ودينامية الطبيعة. إن طرق الزراعة تستوجب معارف علمية وموهبة فنية، وهذا التداخل بين الفن والعلم والطبيعة الذي يتمظهر في تناغم كامل ضمن الحديقة كان دائماً محركاً أساسياً للحضارة في كل الأزمنة.
مجلة القافلة -- بقلم الأستاذ : محمد شرف -- 3843 كلمة
لم تكن حديقة عدن سوى أحد الأمكنة الأقرب إلى الخيال، وقد حلم بها الناس على إعتبارها مكاناً تتحقق فيه الرغبات والأماني، حديقة أقرب في الأذهان إلى الجنة التي أضاعتها الخليقة وتحلم بإسترجاعها من جديد.
ولو عدنا إلى كلمة “حديقة” وكلمة “جنة” لوجدنا أنهما تشتقان من نفس المصدر. فتعبير جنة أي paradis يتحدر من الفارسية القديمة pairi – dea – za التي تعني تقريباً “منتزه محاط بسور” أو “حديقة التنزه الملكية”. والإسم البابلي paradisu ، الذي ليس سوى شكل لاحق من pairi – dae – za ، يترجم حرفياً بِ “سياج”، “سور”، أو بكل بساطة “ملكية محددة”.
ولكن يمكن التساؤل ما إذا كان السور والحديقة ملتصقين ببعضهما البعض على الدوام ؟ الجواب على هذا السؤال، أي على ماهية العلاقة القائمة بين الإثنين، لا بد أن يعيدنا إلى بلاد الفرس. فهذا المكان المقفل، المحدد جيداً، والمعزول عن الآخرين، هو أشبه بزاوية سرية مفتوحة لأشخاص معينين فقط، هم أولئك الذين لا يستحقون أن يطردوا منها. ولذا فإن حدائق ملوك الفرس تبدو لسكان بلد تنتشر فيه الصحاري والسهوب كأمكنة مخصصة للرغبات الأكثر رهافة، التي يحلم البعض بالدخول إليها. وعليه، وبفضل وجود السور، فقد إكتسبت تلك الحدائق تسمية “جنة” التي تنطبق عليها في شكل رمزي.
ويبدو أن الرسوم الأولى للحدائق أتت تحديداً من مناطق الشرق الأوسط الصحراوية. وهي تعود بنا إلى الأسطورة الأكادية “أدابا” التي تقودنا إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح، وإلى ملحمة جلجامش السومرية – البابلية، والتصورات التوراتية للجنة في القرن الثامن قبل المسيح. المسألة تدور هنا حول فكرة خلود الإنسان، فيما تلعب “الجنة” دوراً ثانوياً، رغم أنها المكان الذي تتقرر فيه إمكانية دخول الإنسان إلى الحياة الخالدة، والحفاظ على هذه الأفضلية التي لا يتمتع بها سوى عدد محدود من الناس. ولا بد من ملاحظة أن الكتابات الواردة في مختلف المصادر القديمة تحمل بعض الإشارات إلى المكان المحتمل لوجود جنة عدن، الواقعة، بحسب تلك المصادر، في المساحة التي تنبع منها الأنهر الأربعة الراوية للحديقة : دجلة والفرات وبيشون وغيشون. يصعب إيجاد النهرين الأخيرين على أية خريطة جغرافية، وقد تم البحث عنهما طويلاً بلا جدوى. وبحسب المعتقدات فإن هذه الأنهر الأربعة تشير إلى مناطق العالم الأربع، التي يوجد في مركزها نبع الحياة.
على هذا الأساس يمكن تصور النموذج الأصلي الذي هو عبارة عن حديقة يتوسطها نبع ماء. كما أن إعادة تكوين حديقة تبعاً للأساطير والمعتقدات الواردة أعلاه يستوجب، إضافة إلى السور والماء الآتي من الأنهر لري الحديقة، وجود الأشجار والنباتات التي تزهر وتنضج وتحمل الفاكهة في شكل مستمر ودائم.
حدائق العصور القديمة
من الصعب الإحاطة بالبراهين على وجود أشياء خارجة عن المألوف حين تكون هذه الأشياء قديمة في التاريخ. هذا الحكم لا ينطبق، بالطبع، على عجائب الدنيا السبع، التي تأكد وجودها تبعاً لأوصاف وكتابات يمكن الوثوق بها، وإحدى هذه العجائب ذات علاقة مباشرة بموضوعنا : حدائق بابل المعلقة. تشير الوثائق التاريخية إلى أن نبوخذ نصر قام بتشييد هذه الحدائق إكراماً لزوجته أميتيس حفيدة الملك إستياج ملك الميديا، وذلك بالقرب من باب عشتار المدخل العظيم الواقع بين القصر الملكي والمعابد، على شكل مدرجات مرفوعة على أعمدة من حجر وصخر وقرميد. الأولى مدرجات قياسها 40×40 م. والثانية 40×30 م. والباقية بمقاسات أقل من ذلك. وتبين من المتبقي من هذه الآثار أن الطبقة الأولى كانت على إرتفاع 8 أمتار عليها تراب زراعي بعمق مترين، والطبقة الثانية بإرتفاع 13 متراً عليها أيضاً طبقة من التراب عمقها متران وذلك خلافاً للطبقات الباقية التي حوت متراً واحداً من التراب فقط.
كانت إحدى أهم مميزات حدائق بلاد ما بين النهرين، وخلال زمن السيطرة البابلية خصوصاً، هي إبتكار طرق لم تكن معروفة من قبل لعملية الري. فالحدائق التي جرى بناؤها وتنظيمها على شكل مدرجات، كحدائق بابل المعلقة مثلاً، كان يتم إيصال الماء إليها في شكل متدرج أيضاً، أي أن قنوات خاصة كانت تصل ما بين المستوى العلوي والمستوى الأقل منه إرتفاعاً، بحيث يتسرب الماء إلى المستويات الدنيا من دون التفريط بكمياته.
وإذا كانت حدائق بابل قد بنيت على مستويات عدة فالحال لم تكن كذلك في مصر الفرعونية. إذ تفيد بعض المخططات التي عثر عليها إلى أن الحدائق الفرعونية كانت منبسطة، وجرى تنظيمها بحسب أشكال متوازية.
حول مفهوم البستان
قبل الحديث عن تطور أشكال الحديقة على مدى التاريخ لا بد من إلقاء نظرة على مفهوم البستان، والفرق ما بينه وبين الحديقة. لقد قامت البساتين منذ قديم الأزمنة، وربما كانت أسبق من الحديقة في قدمها نظراً لإرتباطها الوثيق بحاجات الإنسان الغذائية. لو نظرنا إلى تفسير كلمة بستان في المعجم لما وجدنا فرقاً كبيراً وإختلافاً عما ذكرناه سابقاً حول الحديقة من الناحية البنيوية، إذ هو يتمثل بدوره في مساحة من الأرض محاطة بسور. ولقد كان للسور، على مر التاريخ وظيفة، أو وظائف واضحة ومعروفة، فهو قبل كل شيء يحدد الملكية سواء أكان المالك شخصاً عادياً كما في حالات الفلاحين والمزارعين على أنواعهم وعلى إختلاف طرق معيشتهم، إضافة إلى منافعه الأخرى كحماية الملكية من الحيوانات على عديدها، بدءً من تلك الباحثة عن مرعى ووصولاً إلى الأنواع الأخرى القادرة على تخريب التربة والعبث بها، من دون أن ننسى أن السور يوفر الحماية من أعداء محتملين، ولو في شكل نسبي.
لكن الفرق بين الحديقة والبستان يتمحور أكثر حول الناحية الوظيفية. وقد تكرس هذا الفرق مع مرور الزمن، بحيث أصبحت التسمية ذاتها تشير إلى دور ومكانة كل منهما. فالحديقة لا تحتوي حكماً أشجاراً مثمرة، أو نباتات ومزروعات تلبي حاجة الإنسان الغذائية، بل تضم أساساً أشجاراً أصلح للزينة وزهوراً قد تزرع جميعها بحسب نظام هندسي، كما يمكن الأشجار أن تكون من الأصناف التي يمكن التلاعب بأشكالها، بعد جزها بطريقة معينة. يؤخذ في الإعتبار أيضاً إمكان دخول الحديقة والتنزه بين أقسامها من دون عوائق، في حال كونها ذات مساحة كافية للتنزه. أما البستان فيتمثل، عادة، في مساحة معينة تضم أشجاراً يمكن الإستفادة من ثمارها ونباتات وأعشاب وخضار مزروعة بحسب نظام لا يراعي دائماً الناحية الزخرفية. كما أن هذه المزروعات قد تكون عرضة للتغيير تبعاً للمواسم، ولما تقتضيه حاجة الإنسان أو حالة السوق، في حال كون البستان ذي مساحة كافية للإستثمار تجارياً.
لكن الناحية الجمالية لم تكن غائبة تماماً عن هندسة البساتين، إنما لم تكن مقصودة، ولم تكن هدفاً في حد ذاتها. فالناظر إلى سهل البقاع اللبناني، على سبيل المثال، من مكان مرتفع سيرى نوعاً من البانوراما الزراعية، تؤلفها مساحات متلاصقة ذات أشكال مختلفة تكون في كليتها ما يشبه البساط أو السجادة المزخرفة. وليس من قبيل الصدفة أن يتحول هذا السهل مع تقاطعاته وبقعه الملونة مادة تشكيلية لأعمال العديد من الرسامين، وخصوصاً أولئك الذين تربطهم بالسهل علاقة المولد والمنشأ والذكريات على أنواعها.
تطور من الحدائق
كنا قد ذكرنا أن هذا النوع من الفن يعود إلى قديم الأزمنة، ومن الطبيعي والمحتم أن يتطور مع مرور الزمن، وأن يشهد تغييرات كثيرة في العصر الروماني، وتحت تأثير الحضارة الإغريقية برز مفهوم sub urbe hortun أي ما معناه حديقة قريبة من المدينة. وتحدث الكاتب الروماني كولوميل في القرن الأول الميلادي، لأول مرة في التاريخ،عن فن الحدائق، ذاكراً بعض الإرشادات في هذا المجال حول طرق الزراعة وتفاصيلها. كما برز أيضاً في ذلك الوقت ما يسمى rus in urbe، أي الريف في المدينة، مما يشير إلى رغبة الرومان في إدخال بعض عناصر الريف إلى المدن الكبرى، وبشكل خاص مدينة روما التي كانت تشكو من زحمة السكان والمباني، مما إستدعى وجود مساحات خضراء ضمن المدينة.
وهكذا تكون مع الوقت مفهوم ال “فيلا”، الذي دل ّ حينذاك على قيام حديقة حول المنزل، أي منزل مع حديقة، وجرى التفريق بين الفيلا المدينية والفيلا الريفية لما لكل منهما من متطلبات وشروط. وقد ترك الرومان مثالاً ساطعاً على النوع الثاني هي فيلا أدريانا في تيفولي في مكان قريب من العاصمة روما. هذه الفيلا ذات المقاسات البشرية، نظراً إلى كون هندستها مختلفة عما بناه الرومان من هياكل ومعابد ذات مقاسات ضخمة، جمعت عناصر كثيرة مميزة للحديقة الرومانية كالماء المتواجد في أحواض مختلفة الأشكال والأحجام، محاطة بأعمدة قليلة الإرتفاع تنتصب قربها تماثيل، أو تقع في ما بينها. وقد اصبح وضع التماثيل في الحدائق تقليداً رومانياً بعدما كان مرفوضاً لفترة من الزمن، إذ كان يعبر، كما رأى الرومان آنذاك، عن مظهر من مظاهر الترف الشرقي، لكنه أصبح مع الوقت أحد العناصر الأساسية في الحديقة الرومانية.
إذا كانت فيلا أدريانا (صورة رقم 6 ) (صورة رقم 7)، مفتوحة على الطبيعة المحيطة بها، فإن حدائق القرون الوسطى، في مجملها، إستعادت السور كحاجز إصطناعي يفصلها عما يحيط بها، لكن هدف هذا التحديد والإنغلاق كان مختلفاً عما ذكر بالنسبة إلى الحدائق القديمة. خلال القرون الوسطى كان هناك ما يسمى “حدائق الأديرة”، الواقعة ضمن الدير كمسكن للرهبان. هذه الحدائق ذات التنظيم البسيط والقاسي لا مكان فيها لضروب الزخرفة، إذ قامت على أساس مخططات مختصرة ضمن مساحات مربعة أو مستطيلة تحيط بها غرف الدير وأماكن العبادة. كما كان الدير يضم، في حالات كثيرة، بستاناً صغير الحجم نسبياً Herbularius ذا طابع منفعي، تزرع فيه أعشاب ونباتات طبية في شكل أساسي، إذ كان إستعمال الأعشاب لأهداف علاجية من الأمور الرائجة في حياة الأديرة.
أما الأسلوب القاسي الذي ميز، إلى حد ما، حدائق القرون الوسطى في أوروبا يمكن تفسيره إنطلاقاً من الظروف التاريخية الخاصة التي عاشتها أوروبا الواقعة في ذلك الحين ضمن مناخ من المد الديني ذي الطابع المتطرف، الذي أدى إلى إطلاق الحملات الصليبية نحو الشرق لإستعادة الأماكن المقدسة، والذي أدى أيضاً إلى نوع من الإنغلاق والتصلب والزهد تجاه جملة من الأمور. هذا المناخ يقع على طرفي نقيض مع الجو الذي سيطر على بلاد الأندلس التي حكمها العرب، ثم إستعادها الأوروبيون تدريجياً. أما ما بقي في أيدي حكام تلك البلاد العرب حتى القرن الرابع عشر فقامت عليه قصور فائقة الجمال في غرناطة كقصر الحمراء على سبيل المثال، الذي تضمن، مع قصور أخرى، جنائن تعبر عن ذوق رفيع في طريقة هندستها، وفي ما تحويه من أشجار وزهور، وفي ما تحتويه أيضاً من أقنية وجداول ماء وبرك إصطناعية ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، في تعبير واضح عن إحدى المراحل الذهبية التي عاشتها الحضارة العربية منذ سبعة قرون من الزمن.
نظريات الحدائق في عصر النهضة
لا شك في أن فن الحدائق ذو صلة مباشرة بالنظريات المتعلقة به، والتي كانت أساساً ذات طابع فني أكثر منه زراعي، فعلاقتها بالفن أقوى بكثير من علاقتها بالطبيعة الجغرافية وبنوعية التربة، وما إلى ذلك من أمور. لقد حاول مهندسون وفنانون وفلاسفة وعلماء لاهوت ومزارعون برغماتيون صياغة مفاهيم ونظرة معينة إلى الحديقة، بغية الوصول إلى مبادىء محددة حول بعض المسائل مثل : هل من المفترض أن تتخذ الحديقة مظهر جنة أرضية أم مساحة عائلية ؟ هل يجب في البداية تطبيق فكرة ما أو تطبيق مهمة ذات طابع محض زراعي ؟ وهل يمكن جمع المسألتين في حديقة واحدة ؟
كان بعض علماء الأبنية خلال القرنين الرابع والخامس عشر يرون العالم من وجهة نظر مختلفة، متسائلين عن كيفية التوفيق ما بين الإرث القديم ومتطلبات الحياة الجديدة، من أجل الوصول إلى علم جمال حديث لا ترتبط حكماً بالدين، بل وأيضاً بحاجات التوفيق ما بين الإرث القديم ومتطلبات الحياة الجديدة، من أجل الوصول إلى علم جمال حديث لا ترتبط حكماً بالدين، بل وأيضاً بحاجات ومنفعة الإنسان. كان المهندس الإيطالي ليون باتيستا ألبرتي أحد أكبر العاملين على النواحي النظرية في منتصف القرن الخامس عشر، وقد أفرد جزءً من مؤلفه الكبير : عشرة كتب حول الهندسة المعمارية لمسألة الحديقة. إهتم ألبرتي بدراسة الإرث القديم، وحاول إستعمال بعض ذاك الإرث في حدائق عصره، مؤكداً على ضرورة العلاقة بين الحديقة والفيلا أو المنزل المديني، طارحاً فكرة إحداث فتحات كبيرة في جدران المنزل يمكن منها رؤية الحديقة ومضيفاً إمكانية إدخال بعض النباتات إلى المنزل لإضفاء شيئاً من الطبيعة إليه. أما فرنشيسكو كولونا فقد كان أقرب إلى الأمور التطبيقية، ولذا فقد وضع إرشادات معينة تتعلق بطبيعة المساحات الخضراء، مع تركيزه على أهمية وجود مساحة معينة، ضمن الحديقة أو قربها، تصلح كبستان يزرع أشجاراً مثمرة. وقام أيضا بوضع رسوم عديدة تبين الأشكال والأحجام الممكن الحصول عليها من خلال طريقة تقليم الأشجار. ومن العاملين على وضع رسوم لتأليف المساحات العامة للحديقة أو مربعاتها المستحدثة الفرنسيان شارل إتيان وجوهان بيشيل، إضافة إلى مساهمات آخرين لا مجال لذكرهم لضيق المجال.
شهد عصر النهضة، والقرن الخامس عشر تحديداً، بناء حدائق ذات مواصفات هندسية وجمالية مميزة. وقد تم الحفاظ على بعضها حتى يومنا هذا، رغم خضوعها لبعض التغييرات التي أملتها الظروف وطاولت في شكل أساسي نوعية المزروعات، من دون أت تغير شيئاً في هندستها. ورغم صعوبة الإختيار من بين ما أورثنا إياه ذاك العصر، فإن آراء الكثيرين تجمع أن حديقة فيلا لانتي (صورة رقم في بانيايا بإيطاليا قد تكون إحدى أجما حدائق أوروبا. ويعود هذا الحكم لكون تلك الحديقة هي من الفئة القليلة التي حافظت بدرجة كبيرة على شكلها الأصلي. وقد ساهم موقعها القريب من غابة طبيعية إلى قيام مزيج فريد ما بين المشهد الطبيعي والمشهد المشغول المنسجم تماماً مع الموقع، والمؤلف من محور أساسي تحيط به مربعات عشبية ذات رسوم كلاسيكية، ونوافير مياه ومنحوتات تكون في مجموعها نمطاً معيناً مهد الطريق نحو حديقة أل “باروك”.
النزعة نحو الزخرفة
لو عدنا إلى كلمة “باروك”، الملتصقة عادة بكلمة “روكوكو”، لوجدنا أن الكلمة الأولى هي من أصل إسباني أو بورتغالي وتعني بالعربية اللؤلؤ، وهناك من يقول أن الكلمة من أصل عربي ومشتقة من كلمة براق. هذا النوع من الفن التمثيلي والزخرفي في آن يعتبره الكثيرون السليل الطبيعي لأسلوب عصر النهضة، كما إعتبر أيضاً كآخر الأساليب الفنية الأوروبية الكبيرة. ومن الصعب تثبيت تاريخ أو زمن محدد جرى خلاله الإنتقال من أسلوب إلى آخر، لكن يمكننا القول أن الأسلوب الجديد ورث الكثير من عناصر الأسلوب الذي سبقه، وفي شكل خاص نوافير المياه التي تحولت، مع نمط الباروك، مشاهد سحرية، كما ورث المساحات الفسيحة المتداخلة مع المشهد الطبيعي، والتنظيم المتوازن symetrique للبقع المزروعة. لكن أسلوب الباروك جعل من هذه العناصر أكثر تعبيرية وغناءً، ليصل مع الحديقة على الطريقة الفرنسية إلى أشكال ضخمة عظيمة المساحة.
وبما أن حدائق الباروك تعود إلى القرن السابع عشر القريب إلينا نسبياً، فمن السهل إيجاد نماذج يمكن معاينتها في وقتنا الحاضر. فيلا غارزوني (صورة رقم 10 ) في كولودي بإيطاليا يمكن تصنيفها ضمن أجمل الحدائق التي تعكس الطراز المذكور، وهي تقع على منحدر منفصل تقريباً عن الفيلا نفسها.يقسم الحديقة محور أساسي يرتفع صعوداً نحو الهضبة، مما أدى إلى بناء مجموعة من الأدراج تصل ما بين المصاطب ذات الإرتفاعات المتفاوتة. في المستوى المنخفض المسطح من الحديقة نرى مساحة منبسطة مؤلفة من أشكال متوازنة من جهتي المحور، تضم بقعاً مزروعة نباتات وزهوراً بحسب تخطيطات الأرضية، وتفوح منها، إضافة إلى روائح الورود، رائحة الزخرفة التي يزيد من حضورها التماثيل الموجودة في أكثر من زاوية.
كنا قد أشرنا سابقاً إلى أن فن الباروك كان قد بلغ أوجه في الحديقة الفرنسية، ولعل أبرز مثال على ذلك هو فرساي. حين نقول فرساي فإننا نقصد القصر والحدائق المحيطة به الواقعة في ضواحي مدينة باريس. قام الرسام بيار باتيل عام 1668 بوضع رسم على شكل منظور يبين الموقع من الجو، أو كما يقال بالفرنسية vol d’oiseau، من خلال هذا الرسم يمكن المشاهد أن يتأمل مشهداً واسعاً ممتداً إلى الأفق البعيد ومنتهياً من الغرب في ضبابية التلال. لكن هذا المنظور، ورغم طابعه البانورامي، يعجز عن عكس الحجم الكبير للحدائق الموزعة بين محيط القصر والأجزاء القريبة منه، مكونة “بارك” عظيم المساحة لو أردنا إحاطته بسور لاٌستلزم ذلك حائطاً طوله 42 كلم، مزوداً 22 مدخلاً تتيح الولوج إلى أقسام المنتزه المختلفة.
لم يكن قصر فرساي والمتنزه الهائل المحيط به الذائع الصيت مجرد مكان لإقامة الحفلات، أو ملجأ لأفراد الحاشية الملكية الباحثين عن زاوية هادئة تبعث الراحة والإسترخاء. لقد كان من شأن هذه المقاربة المختلفة والخاصة لموضوع القصر والحديقة أن تشكل مفهوما جديداً يرمز إلى قوة الدولة وسلطتها الواسعة. شاء لويس الرابع عشر أو “الملك-الشمس”، كما كان يسمى، من خلال بنائه لهذه المجموعة الضخمة، وضع نفسه في موازاة الإله الإغريقي أبولون. ولم يكن الهدف من ذلك الدخول في لعبة ميتولوجية فقط، بل أيضاً، وفي شكل خاص، التعاطي مع المسألة من وجهة نظر سياسية. لقد هدف لويس الرابع عشر، من خلال تماهيه مع أبولون سيد الملهمات وخالق التناغم الكوني، إلى تحقيق هدف سياسي :
تقديم نفسه على أنه الزعيم الجديد للعالم المسيحي، الذي كان يحلم بالسيطرة عليه. على هذا الأساس عكس البارك مبدأ التنظيم الذي على قواعده وإنطلاقاً منه تدار أمور الدولة العظيمة التي تحكم بدورها العالم المتحضر.
عودة إلى الطبيعة
إستمرت “سيطرة” إيطاليا وفرنسا على فن الحدائق حتى العقود الأولى من القرن الثامن عشر، التي شهدت قيام “الثورة” الإنكليزية. تعبير “الثورة” هذا الذي أطلقه الإختصاصيون على “حديقة المشهد الطبيعي” الإنكليزية قد يكون فضفاضاً بعض الشيء، نظراً لأن هذه الحديقة لم تلغ أسلوب الباروك، إذ أن هذا النمط بقي على قيد الحياة لفترة طويلة وكان يحظى بأتباع ومناصرين، مما جعله يتعايش عملياً مع الأسلوب الإنكليزي في بلدان معينة.
حديقة لا حدود واضحة لها تخترقها ممرات متعرجة تمكن المرء من التمتع بالمشهد الطبيعي، من دون إلتزامه حكماً بطرقات محورية تقوم على جنباتها مساحات متوازنة كما كان يتم سابقاً، تلك هي الخطوط العريضة للحديقة الإنكليزية.
في إحدى لوحات جوزف رايت المؤرخة عام 1780، نرى السير الإنكليزي الشاب بروك بوتبي حالماً وحزيناً، متمدداً فوق أعشاب حرش طبيعي من دون قبعة أو حذاء، وكأنه مستلقٍ على كنبة في صالون منزله الريفي. تبين اللوحة أن الطبيعة هي الزاوية أو المكان الأمثل لراحة بوتبي الذاتية، وليس البيت المؤلف من أرضية وجدران وسقف. كما نراه في ذلك الرسم يقلّب صفحات كتاب، فنكتشف وكأن في الأمر صدفة أن ذاك الكتاب ليس سوى أحد مؤلفات جان جاك روسو، الكاتب الفرنسي المولع بالطبيعة واحد أكبر ممثلي المدرسة الرومنطيقية في الأدب.
في ذلك الحين كان الكثير من الإنكليز يرون في أسلوب الحديقة الفرنسية محاولة لتخريب الطبيعة، وصنوا لنظام مطلق لم يجد لنفسه من يؤيده في إنكلترا، وخصوصاً بعد حدوث الثورة الإنكليزية الثانية Glorius Revolution عام 1688، وظهور “إعلان الحقوق” في السنة التالية.
هذه الأحداث أرست القواعد لظهور بورجوازية حديثة، وذلك في زمن لم تتأخر إنكلترا عن الإرتفاع إلى مستوى القوى التجارية العظمى والرأسمالية الكبرى في العالم.
في تلك الفترة لم يعد فرساي، أو الحدائق الفرنسية الأخرى، أكثر من “كاتالوغ ” يمكن تصفحه لإختيار عناصر معينة : متاهة Labyrinthe، أجمة أو قطعة خضراء يمكن ترتيبها ووضعها بحرية ضمن إحدى الملكيات. ورغم أن مسألة الإستعارة أو الإقتباس هذه قد تكون إيجابية في الشكل، لكن الإنكليز كانوا ينظرون بإحتقار إلى المضمون الرمزي التوليتاري للحديقة الفرنسية، وإلى الغطرسة السياسية التي تميِّز أصحابها، هذا مع الإشارة إلى أن تقديرهم ل Le Notre (مصمم حديقة فرساي وأحد أكبر رسامي الحدائق الفرنسيين) ولفنه بقي قائماً على الأقل حتى منتصف القرن الثامن عشر. لكن أفكار فناني الحدائق الإنكليز إتخذت وجهة أخرى في طموحها إلى دفع دينامية تفاعل الطبيعة من دون تنظيمها أو هندستها. ومنذ عام 1667 مع صدور ملحمة جون ميلتون “الجنة الضائعة”، صار نموذج الحديقة تجسيداً مثالياً للعالم، على الطريقة الإنكليزية.
كانت بعض مميزات الحديقة الإنكليزية نتيجة عوامل أخرى. لقد فرض موقع إنكلترا التجاري قيام علاقات وثيقة مع أجزاء كثيرة من العالم، مما ساعد على تطوير نزعة تاريخية – ثقافية وشكلاً من أل exotisme.
ولذا فليس من المستغرب أن نجد في تلك الحديقة نموذجاً مصغراً لقصر صيني أو لمعبد إغريقي أو روماني، ولقلعة من طراز القرون الوسطى، محاطة بأشجار ومشرفة على مساحة خضراء فسيحة قد تخترقها طرقات ضيقة متعرجة، وتقع قربها بركة متروكة على طبيعتها، من دون أن تمتد إليها يد الإنسان أو الآلة.
الإنسان الشرقي والحديقة
لقد كانت علاقة الإنسان الشرقي بالحديقة متفاوتة ومختلفة في تجلياتها بين بلد وآخر، وبين منطقة وأخرى ضمن البلد الواحد. ولو شئنا العودة إلى سكان الصحراء خلال الأزمنة الماضية، وحتى خلال زمننا الحاضر، لقلنا أن وجود الحديقة تحت أي شكل من أشكالها كان يشير إلى نوع من الرخاء، وكان يلبي حاجة إنسانية بديهية إلى أماكن خضراء تزيل عن ساكن الصحراء كاهل العيش في مناطق خالية، ذات مناخ معروف بقساوته لا يسمح إلا بنمو أصناف محددة وقليلة من الأشجار والنباتات، نظراً لقلة الماء وإشتداد الحرارة، هذا إذا ما إستثنينا الأمكنة الواقعة قريباً من الأنهر أو من ينابيع الماء.
ولذا فإن تعبير “واحة” كان يتضمن معان كثيرة، أولها وجود الماء ومن ثم وجود الأشجار وبعض أنواع الأعشاب، إضافة إلى المعنى الرمزي لهذا المكان الذي لا يختلف كثيراً عما ذكرناه في بداية هذا البحث.
فالواحة قد تكون شكلاً من أشكال “الجنة” في المعنى الواقعي والدنيوي وبحسب الإستعمال اليومي لهذه الكلمة في الإشارة إلى مكان متميز عن سواه. هذا المكان إفتقده سكان الصحراء المتنقلين من مكان إلى آخر بحثاً عن تلك الزاوية التي يصبح العيش فيها أكثر راحة، وليس من المستغرب أن تكون تلك الواحات سبباً لصراع بين القبائل، كما كانت ينابيع أو آبار الماء القليلة تقع تحت سيطرة القبائل الأقوى والأعلى شأناً ومرتبة.
وإذ ذكرنا أن الحديقة الشرقية كانت إنعكاساً لحالة من الرخاء الإقتصادي والإجتماعي، فإن حدائق الأندلس تقدم البرهان على ذلك، وقد ساعد على قيامها الموقع الجغرافي والمناخي في طبيعة الحال، لتشكل ما يشبه التعويض الرمزي عما كان العرب يفتقدون إليه في المناطق الصحراوية. هذا، ولقد تأثرت حدائق الأندلس بأنماط الحدائق الأوروبية التي جرت الإشارة إليها، وقد إنتقل هذا التأثير ليشمل بلداناً عربية أو شرقية كثيرة.
فالأشكال الكلاسيكية الأوروبية يمكن رؤيتها في حدائقنا ماضياً وحاضراً، وخصوصاً تلك الواقعة ضمن المدن.كما أن الأسلوب الإنكليزي لا يغيب عن تخطيط المنتزهات الكبيرة نسبياً، وهو يصلح، إلى حد بعيد، للتطبيق في الأماكن الريفية حيث تكون المساحات أكثر رحابة، وحين تقع قطعة الأرض على منحدر.
ومن الرائج أن يترافق بناء الفيلات في يومنا هذا مع إستنباط حديقة تحيط بالمنزل، أو تمتد أمامه أو خلفه بحسب ما تسمح حدود الملكية. وفي بعض الحالات يصار إلى إستحداث بستان صغير يلبي بعض الحاجات المنزلية.
وقد يعتبر بناء المنزل في المناطق الريفية من دون حديقة إنتقاصاً من قيمته الجمالية، وهذا ما تفتقر إليه المدن الكبرى التي يعيش سكانها في أبنية عالية ومتلاصقة لا تترك متنفساً لمن يسكن بين جدرانها. وما من شك أن ضعف سياسة التخطيط والإهمال الملحوظ للنواحي البيئية والرؤية المنقوصة للوضع المستقبلي ستؤدي جميعها إلى نتائج وسلبيات لا تحمد عقباها.
في مجمل الأحوال، وللحديث عن الحديقة من ناحية شمولية، يمكن القول أن المفاهيم في القرن العشرين، وبداية القرن الذي نعيش فيه، سلكت إتجاهات مختلفة.
وفي ما عدا بعض الأماكن، في بلادنا أو في أمكنة أخرى، التي جرى تنظيمها بحسب نماذج ذات علاقة بالفانتازيا أو بإتجاهات رومنطقية، يمكن القول أن الوظيفة التي ألصقت بالحديقة في الزمن الماضي صارت الآن في الدرجة الثانية. فهذه الحديقة لم تعد مؤهلة لتحل مكان الطبيعة ذاتها، لكنها وسيلة فنية وجمالية لتقريب الإنسان من تلك الطبيعة. هذا الهدف لا يحقق المنتزه أو الحديقة العامة سوى جزء منه، نظراً لكون الطبيعة الحاضرة فيه لا تصلح إلا لبعض الراحة والتسلية، وهذا أمر ضروري من دون شك، لكن تأهيل حديقة يمثل أكثر من ذلك : التعامل مع أشكال ودينامية الطبيعة. إن طرق الزراعة تستوجب معارف علمية وموهبة فنية، وهذا التداخل بين الفن والعلم والطبيعة الذي يتمظهر في تناغم كامل ضمن الحديقة كان دائماً محركاً أساسياً للحضارة في كل الأزمنة.