محمود توفيق
June 19th, 2008, 00:05
في العام 1907 ميلادية أبْحرت إحدى السفن المصرية إلى ميناء جدة، تحمل الحجيج.
كانت الرحلة هادئة بلا أيّ مفاجآت، وعلى ظهرها كان الحجيج يمشون في ملابسهم العادية، وبعضهم في ملابس الإحرام في سكينة، لم يَكُنْ ثَمَّة عابث كثير الحركة مهرِّج على ظهرها، إلا ذاك القرد، كما كان عادة بعض أهل البحر في ذاك الزمن من تربية قرود، أو غيرها من حيوانات مستظرفة يلاعبونها فتخفف عنهم سآمة السفر، واضطراد منظر البحر.
وكان أحد الرجال البسطاء من الحجيج الذين يبيتون على سطح السفينة يجلس متكئًا على الصاري، يعد نقودَه الذهبية، ويتشمَّس في تلك الساعة من الظهيرة، وإذا بالقرد اللاعب ينزل مسرعًا من أعلى الصاري، حتى كان فوق رأس الرجل الذي يمدُّ ساقيه وينظر لنقوده الذهبية بينهما، وقبل أن يَنتبه الرَّجُل إليه، قفز القرد على فخذ الرجل فأفزعه، وكسح النقود بكفه مسرعًا وجمعها في الكف الأخرى، وتسلق برشاقة، والرجل الذي أفاق من فزعه يقف مذهولاً يراقب بقلق ما سيفعله القرد الشقي بماله الذي لا يملك غيره، وإذا بالقرد وقد استوى على منصَّة له أعلى الصاري، يهز كفه التي تجمع النقود فتصدر خشخشة يهتز لها قلب الرجل، وهو من تحته ينظر له متمسكنًا حتى ينزل بها، ثم يبسطها ويأخذ منها قطعة ويرميها للبحر وهو يضحك بشفتين منفرجتين، والرجل يتابعها متحسِّرًا، وأعادها مرة ثانية، حتى رمى أربع قطع من قطع النقود العشر، ثم رمى على الرجل القطع الستَّ من أعلى، بينما أخَذَ الرَّجُل يَجمَعُها دامعَ العينَيْنِ وقد تَدَحْرَجَتْ على الأرض الخشبيَّة للسفينة، حتَّى وعاها كلها، وأخذ يضرب كفًّا بكف حزينًا، ويُشيرُ للقرد بالحذاء متوعدًا، والقرد يضع كفه على فمه كأنما يحاول أن يمنع ضحكة.
ابتعد الرَّجُل عن جلسته تَحت الصاري، ووقف هنيهة مستنِدًا إلى سور السفينة يُحَدّق في الماء الذي ابتلع ماله وهو في طريقه للحجاز، وفي نفسه شيء من هذا، وأخذ يصارع نفسه التي تودّ أن تنطق مُستهجِنة ما حدث، ولا تقبله أبدًا.
حتى جلس على الأرضيَّة مستندًا للسور ينظر ذاهلاً مكتئبًا، يوزِّع نظراته بين القرد المستفزِّ، والسحب، والطيور التي تَبْحَثُ عن رِزْقها فيما يرميه أهل السفينة، حتَّى مرَّ من أمامه أحدُ الشُّيوخ فناداه، فأتاه الشَّيخ مُبتسمًا، فأوجز له ما حدَث بنبرةٍ تشي بالسخط.
- ما صِناعتُك؟
- أنا لبَّان.
- اصدُقْني القول إذًا: هل تغشُّ اللبن بالماء؟
- أفعل!
- إذًا ما كان من اللبن أعاده القرد إليك، وما كان من الماء ذهب للماء.
كانت الرحلة هادئة بلا أيّ مفاجآت، وعلى ظهرها كان الحجيج يمشون في ملابسهم العادية، وبعضهم في ملابس الإحرام في سكينة، لم يَكُنْ ثَمَّة عابث كثير الحركة مهرِّج على ظهرها، إلا ذاك القرد، كما كان عادة بعض أهل البحر في ذاك الزمن من تربية قرود، أو غيرها من حيوانات مستظرفة يلاعبونها فتخفف عنهم سآمة السفر، واضطراد منظر البحر.
وكان أحد الرجال البسطاء من الحجيج الذين يبيتون على سطح السفينة يجلس متكئًا على الصاري، يعد نقودَه الذهبية، ويتشمَّس في تلك الساعة من الظهيرة، وإذا بالقرد اللاعب ينزل مسرعًا من أعلى الصاري، حتى كان فوق رأس الرجل الذي يمدُّ ساقيه وينظر لنقوده الذهبية بينهما، وقبل أن يَنتبه الرَّجُل إليه، قفز القرد على فخذ الرجل فأفزعه، وكسح النقود بكفه مسرعًا وجمعها في الكف الأخرى، وتسلق برشاقة، والرجل الذي أفاق من فزعه يقف مذهولاً يراقب بقلق ما سيفعله القرد الشقي بماله الذي لا يملك غيره، وإذا بالقرد وقد استوى على منصَّة له أعلى الصاري، يهز كفه التي تجمع النقود فتصدر خشخشة يهتز لها قلب الرجل، وهو من تحته ينظر له متمسكنًا حتى ينزل بها، ثم يبسطها ويأخذ منها قطعة ويرميها للبحر وهو يضحك بشفتين منفرجتين، والرجل يتابعها متحسِّرًا، وأعادها مرة ثانية، حتى رمى أربع قطع من قطع النقود العشر، ثم رمى على الرجل القطع الستَّ من أعلى، بينما أخَذَ الرَّجُل يَجمَعُها دامعَ العينَيْنِ وقد تَدَحْرَجَتْ على الأرض الخشبيَّة للسفينة، حتَّى وعاها كلها، وأخذ يضرب كفًّا بكف حزينًا، ويُشيرُ للقرد بالحذاء متوعدًا، والقرد يضع كفه على فمه كأنما يحاول أن يمنع ضحكة.
ابتعد الرَّجُل عن جلسته تَحت الصاري، ووقف هنيهة مستنِدًا إلى سور السفينة يُحَدّق في الماء الذي ابتلع ماله وهو في طريقه للحجاز، وفي نفسه شيء من هذا، وأخذ يصارع نفسه التي تودّ أن تنطق مُستهجِنة ما حدث، ولا تقبله أبدًا.
حتى جلس على الأرضيَّة مستندًا للسور ينظر ذاهلاً مكتئبًا، يوزِّع نظراته بين القرد المستفزِّ، والسحب، والطيور التي تَبْحَثُ عن رِزْقها فيما يرميه أهل السفينة، حتَّى مرَّ من أمامه أحدُ الشُّيوخ فناداه، فأتاه الشَّيخ مُبتسمًا، فأوجز له ما حدَث بنبرةٍ تشي بالسخط.
- ما صِناعتُك؟
- أنا لبَّان.
- اصدُقْني القول إذًا: هل تغشُّ اللبن بالماء؟
- أفعل!
- إذًا ما كان من اللبن أعاده القرد إليك، وما كان من الماء ذهب للماء.