ما أن يحل الضيف على صاحب المنزل، إلاّ ويهب مسرعاً إلى إخراج مفتاح "الجِصة" -خزانة الغذاء-، والتي يحتفظ فيها ب"التمور"، وما أن يفتحها إلاّ ويُرى منظر التمر يتلألأ ك"بريق الذهب" ب"دبسه الحلو"، ليقطع "فدرة" -قطعة كبيرة- ويضعها في المطعم -يصنع من خوص النخل كإناء-، ثم تقديمه للضيف مع اللبن إن كان موسراً، أو مع الماء إن كان لا يجد إلاّ ما تيسر.
تحفظ الغذاء من التلف وتُصنع من «الجِص» بعد حرق «التراب الصبخ» المالح
هذا هو الحال مع الأجداد في سنين شظف العيش، حيث شكّل التمر في ذلك الحين أمناً غذائياً للجميع، بل وبات رفيق درب الانسان، وكان طعاماً رئيسياً للكثير، وقد قيل عن التمر سابقاً: "حلوى الغني، وطعام الفقير"، الأمر الذي أرّق بال كثير من الناس وحيّرهم من أجل إيجاد طريقة لحفظه، وخصوصاً في المنطقة الوسطى من المملكة، فهو من الأطعمة التي يمكن ادخارها لمدة عام أو يزيد دون أن يتغير أو يفسد، ولم تطل مدة التفكير، ف"الحاجة أم الاختراع" كما يقال، فقد هداهم تفكيرهم الى ابتكار مخزن محكم البناء لحفظه من التلف، ومن أن تصل إليه القوارض أو الحشرات، أو أيدي ساكني المنزل، فكان "الجِصة" بكسر الجيم، هو الاختراع الآمن للحفاظ على التمر، وجاءت سبب التسمية من المادة الرئيسة لصنعها وهي "الجِص"، الذي يتم صنعه بحرق "التراب الصبخ" -المالح-، ومن ثم البناء به، ليصبح قوياً كالصخر.
زاوية الغرفة
ويختار صاحب المنزل مكاناً قصياً لبناء "الجِصة"، ويحرص أن يكون بارداً وجافاً، ثم اختيار زاوية في الغرفة ليتم عمل أساس لجدرانها، فترتفع بداية أرضيتها ذراعا أو تزيد بمقاييس البناء القديم، وذلك لعدم وجود أدوات قياس كحال البنائين اليوم، فالذراع يماثل نصف المتر تقريباً، ومن ثم تبنى الجدران في الداخل ب"حصى" سماكتها صغيرة تسمى "الفرش"، فيرتفع البناء ما يقارب المتر، فيتم سقف سطحها بالفروش من الحصى، وتبنى الجدران الخارجية باللبن والطين، بحيث يكون باب "الجِصة" معتدل الطول، كطول قامة الانسان، أي عندما يقف من يريد إخراج التمر منها يكون الباب فوق وسطه، ليسهل عليه اخراج التمر بيسر وسهولة، وتقسم أرضية الجصة الى نصفين بفرش من الحجر كبير في منتصفها طولاً، لوضع نوعين من التمر فيها، وقد يعمد البعض الى تقسيمها الى أربعة أقسام، إذا كان يملك أربعة أنواع من التمر وكان من الموسرين، وتكون "الجِصة" المقسمة الى أربعة أقسام كبيرة الحجم بالنسبة إلى التي يتم تقسيمها الى نصفين، حيث يحظى نوع من التمور بأهمية خاصة لدى الناس وهو نوع "الخضري"، الذي يُعد طيب المذاق، فلا يخلط معه شيء حتى لا يفسده، أما الأنواع الأخرى فتخلط ببعضها الآخر في القسم الثاني، ويطلق عليها عامة الناس والمزارعين اسم "الدقل"، أي التي تتشابه مع بعضها في الحجم واللون والطعم، كنوع "المقفزي" و"الحلا" و"الصقعي" و"السلّج" وما شابهها، حيث تكون صغيرة الحجم وأقل اقبالاً عند الأكل، بل وتكاد تخصص لأكل أهل البيت فقط لا للضيوف، بعد ذلك تجصص جوانبها ويوضع في أسفلها ثقب صغير يسمح بخروج "دبس التمر" بعد رصّه، وأخيراً يوضع الباب المصنوع من الخشب بدقة متناهية، وقد يكون مزخرفاً حسب حالة صاحب البناء المادية، ويكون للباب قفل من الخشب؛ لضمان عدم وصول من في المنزل إليه إلاّ عند الحاجة.
جفيرة الدبس
وبعد أن ينتهي البناء يتم مسح جدران "الجِصة" ب"الدبس"، حتى تغلق مساماته، فيصبح نظيفاً وذا ملمس ناعم، يسمح باخراج التمر بيسر وسهولة، لتأتي عملية رص التمور التي تسبقها عملية تنظيف في قدور كبيرة، حيث تغسل بالماء البارد، ومن ثم توضع في "زبيل" -مصنوع من خوص النخل-؛ لتجف من الماء، ومن ثم توضع في "الجِصة"، أما الماء الباقي من غسيل التمر، فلا يتم التخلص منه، بل يقدم شراباً للماشية، بعد رص التمر، يوضع عدد من "جريد النخل" وهي خضراء بعد غسلها فوق التمر مباشرة، ويتم إغلاق باب الجِصة كعمل نهائي، وبعد أيام يخرج من الثقب الذي في أسفل الجصة الماء الزائد فيصب في جفرة تسمى "جفرة الدبس"، وهناك من يصغر تسميتها فيسميها "جفيرة الدبس"، ومن هذا المنطلق جاءت تسمية الرجل الذي يملك المال ولا يبديه ولا يظهر عليه بوصف "جفيرة الدبس" كما ورد في الأمثال قديماً، ويكون هذا الدبس خفيفاً غير لزج وغليظ، فيتم جمعه، ومن ثم تفتح الجِصة، ويعاد سكبه على التمر، وقد يتم اعادة هذه الطريقة حتى يغلظ الدبس، ويكون لزجاً صافياً، كأنه العسل، حيث يستفاد من هذا العسل في الأكل والتحلية، كما أن له استخداما آخر وهو عملية "رب القرب" التي تصنع من جلود الحيوانات لحفظ السمن البري، حيث يشكل طبقة عازلة بين الجلد والسمن، ما يجعل السمن يحتفظ بطعمه ولونه دون أن يتغير، وبعد أن تتم عملية التخزين يغلق باب الجصة المصنوع من الخشب جيداً، حتى لا تصله أيدي من في المنزل، ويكون مفتاحها بيد رب الأسرة فقط، وقد يخبر زوجته بمكانه إذا كانت امرأة مدبرة بعيدة عن الاسراف، حيث كان التمر في ذلك الزمن هو الطعام الرئيسي الذي يأكل منه أهل المنزل، ويقدم للضيوف، ومما يدل على ذلك هو قول شاعر التراث "عبدالله بن عبدالعزيز الضويحي" ضمن قصيدة تراثية رائعة:
وباب الجصة مجافا
عقب ما كان بسكاره
عقب وقت مضى يا حول
صعيب فتح مسكاره
قصة البُن
قفل الباب جيداً للحفاظ على الغذاء
وبما أن الجصة كان سقفها يقل ارتفاعاً عن سقف الغرفة التي فيها، فإن بعضاً من الناس يرفع بعض الأغراض التي لا يحتاجها بشكل يومي فوق سطحها، واذا أراد ذلك الشيء صعد على شيء ك"السلم"، حيث كان سطحها يستخدم كمستودع، وفي أحد الأيام حلّ عدد من الضيوف في منزل صديق لهم، وكعادة الناس في الماضي عمد صاحب المنزل الى إعداد القهوة في "وجاره" -مكان إعداد القهوة-، فما أن شب ناره حتى تفقد بهارات دلة القهوة، فلم يجد فيها البُن، ولم يستطع الذهاب إلى الديرة القريبة منه ليحضره منها، فاحتار ماذا يصنع هل يعتذر للضيوف لهذا السبب؟، حيث لن يصدقوه، بل سينعتونه بالبخل، أم يذهب في هذا الليل المظلم ليحضرها؟، معرضاً نفسه للخطر، وقد لا يعود إلاّ مع الفجر، فدخل على زوجته مستنجداً طالباً رأيها، فلما رأت حيرته بددتها بابتسامة الواثق من الحل الذي سينقذ الموقف فقالت له: اصعد الى سطح الجِصة وستجد ما تريد، فلما صعد دهش لوجود صرار من القماش، فلما أنزلها وحل أحدها وجد فيها عدد من حبات البن التي تكفي لطبخة من القهوة، فسر بذلك، وذهب غمه والتفت الى زوجته متسائلاً عن سر وجودها؟، فقالت كنت أعمد إلى وضع جزء يسير من البن في قطعة قماش كلما أحضرت كمية جديدة من البن، فأرمي بها في أعلى سطح الجصة، لعلنا نحتاج إليه في قادم الأيام، وها هي الحاجة حضرت، حيث أنقذت الموقف، ولكن خذ صرة منها ودع الباقي مكانه، وبعد ذهاب الضيوف اذهب وأحضر لنا بنا جديدا، ودع هذه للحالات الطارئة فتم لها ما أرادت.
جفرة الدبس أسفل الجِصة
باب مزخرف للجِصة
أواني تقديم التمر
التمر قبل وضعه في المخزن
البيوت القديمة احتوت على الجِصة كعنصر مهم في البناء
حمود الضويحي
تحفظ الغذاء من التلف وتُصنع من «الجِص» بعد حرق «التراب الصبخ» المالح
هذا هو الحال مع الأجداد في سنين شظف العيش، حيث شكّل التمر في ذلك الحين أمناً غذائياً للجميع، بل وبات رفيق درب الانسان، وكان طعاماً رئيسياً للكثير، وقد قيل عن التمر سابقاً: "حلوى الغني، وطعام الفقير"، الأمر الذي أرّق بال كثير من الناس وحيّرهم من أجل إيجاد طريقة لحفظه، وخصوصاً في المنطقة الوسطى من المملكة، فهو من الأطعمة التي يمكن ادخارها لمدة عام أو يزيد دون أن يتغير أو يفسد، ولم تطل مدة التفكير، ف"الحاجة أم الاختراع" كما يقال، فقد هداهم تفكيرهم الى ابتكار مخزن محكم البناء لحفظه من التلف، ومن أن تصل إليه القوارض أو الحشرات، أو أيدي ساكني المنزل، فكان "الجِصة" بكسر الجيم، هو الاختراع الآمن للحفاظ على التمر، وجاءت سبب التسمية من المادة الرئيسة لصنعها وهي "الجِص"، الذي يتم صنعه بحرق "التراب الصبخ" -المالح-، ومن ثم البناء به، ليصبح قوياً كالصخر.
تُرص التمور داخلها ويسبقها عملية تنظيف بالماء البارد ثم تُغطى ب«جريد النخل»
ويختار صاحب المنزل مكاناً قصياً لبناء "الجِصة"، ويحرص أن يكون بارداً وجافاً، ثم اختيار زاوية في الغرفة ليتم عمل أساس لجدرانها، فترتفع بداية أرضيتها ذراعا أو تزيد بمقاييس البناء القديم، وذلك لعدم وجود أدوات قياس كحال البنائين اليوم، فالذراع يماثل نصف المتر تقريباً، ومن ثم تبنى الجدران في الداخل ب"حصى" سماكتها صغيرة تسمى "الفرش"، فيرتفع البناء ما يقارب المتر، فيتم سقف سطحها بالفروش من الحصى، وتبنى الجدران الخارجية باللبن والطين، بحيث يكون باب "الجِصة" معتدل الطول، كطول قامة الانسان، أي عندما يقف من يريد إخراج التمر منها يكون الباب فوق وسطه، ليسهل عليه اخراج التمر بيسر وسهولة، وتقسم أرضية الجصة الى نصفين بفرش من الحجر كبير في منتصفها طولاً، لوضع نوعين من التمر فيها، وقد يعمد البعض الى تقسيمها الى أربعة أقسام، إذا كان يملك أربعة أنواع من التمر وكان من الموسرين، وتكون "الجِصة" المقسمة الى أربعة أقسام كبيرة الحجم بالنسبة إلى التي يتم تقسيمها الى نصفين، حيث يحظى نوع من التمور بأهمية خاصة لدى الناس وهو نوع "الخضري"، الذي يُعد طيب المذاق، فلا يخلط معه شيء حتى لا يفسده، أما الأنواع الأخرى فتخلط ببعضها الآخر في القسم الثاني، ويطلق عليها عامة الناس والمزارعين اسم "الدقل"، أي التي تتشابه مع بعضها في الحجم واللون والطعم، كنوع "المقفزي" و"الحلا" و"الصقعي" و"السلّج" وما شابهها، حيث تكون صغيرة الحجم وأقل اقبالاً عند الأكل، بل وتكاد تخصص لأكل أهل البيت فقط لا للضيوف، بعد ذلك تجصص جوانبها ويوضع في أسفلها ثقب صغير يسمح بخروج "دبس التمر" بعد رصّه، وأخيراً يوضع الباب المصنوع من الخشب بدقة متناهية، وقد يكون مزخرفاً حسب حالة صاحب البناء المادية، ويكون للباب قفل من الخشب؛ لضمان عدم وصول من في المنزل إليه إلاّ عند الحاجة.
بعد أيام يخرج من الثقب السفلي «ماء زائد» فيصب في موضع يُسمى «جفرة الدبس»
وبعد أن ينتهي البناء يتم مسح جدران "الجِصة" ب"الدبس"، حتى تغلق مساماته، فيصبح نظيفاً وذا ملمس ناعم، يسمح باخراج التمر بيسر وسهولة، لتأتي عملية رص التمور التي تسبقها عملية تنظيف في قدور كبيرة، حيث تغسل بالماء البارد، ومن ثم توضع في "زبيل" -مصنوع من خوص النخل-؛ لتجف من الماء، ومن ثم توضع في "الجِصة"، أما الماء الباقي من غسيل التمر، فلا يتم التخلص منه، بل يقدم شراباً للماشية، بعد رص التمر، يوضع عدد من "جريد النخل" وهي خضراء بعد غسلها فوق التمر مباشرة، ويتم إغلاق باب الجِصة كعمل نهائي، وبعد أيام يخرج من الثقب الذي في أسفل الجصة الماء الزائد فيصب في جفرة تسمى "جفرة الدبس"، وهناك من يصغر تسميتها فيسميها "جفيرة الدبس"، ومن هذا المنطلق جاءت تسمية الرجل الذي يملك المال ولا يبديه ولا يظهر عليه بوصف "جفيرة الدبس" كما ورد في الأمثال قديماً، ويكون هذا الدبس خفيفاً غير لزج وغليظ، فيتم جمعه، ومن ثم تفتح الجِصة، ويعاد سكبه على التمر، وقد يتم اعادة هذه الطريقة حتى يغلظ الدبس، ويكون لزجاً صافياً، كأنه العسل، حيث يستفاد من هذا العسل في الأكل والتحلية، كما أن له استخداما آخر وهو عملية "رب القرب" التي تصنع من جلود الحيوانات لحفظ السمن البري، حيث يشكل طبقة عازلة بين الجلد والسمن، ما يجعل السمن يحتفظ بطعمه ولونه دون أن يتغير، وبعد أن تتم عملية التخزين يغلق باب الجصة المصنوع من الخشب جيداً، حتى لا تصله أيدي من في المنزل، ويكون مفتاحها بيد رب الأسرة فقط، وقد يخبر زوجته بمكانه إذا كانت امرأة مدبرة بعيدة عن الاسراف، حيث كان التمر في ذلك الزمن هو الطعام الرئيسي الذي يأكل منه أهل المنزل، ويقدم للضيوف، ومما يدل على ذلك هو قول شاعر التراث "عبدالله بن عبدالعزيز الضويحي" ضمن قصيدة تراثية رائعة:
وباب الجصة مجافا
عقب ما كان بسكاره
عقب وقت مضى يا حول
صعيب فتح مسكاره
قصة البُن
قفل الباب جيداً للحفاظ على الغذاء
وبما أن الجصة كان سقفها يقل ارتفاعاً عن سقف الغرفة التي فيها، فإن بعضاً من الناس يرفع بعض الأغراض التي لا يحتاجها بشكل يومي فوق سطحها، واذا أراد ذلك الشيء صعد على شيء ك"السلم"، حيث كان سطحها يستخدم كمستودع، وفي أحد الأيام حلّ عدد من الضيوف في منزل صديق لهم، وكعادة الناس في الماضي عمد صاحب المنزل الى إعداد القهوة في "وجاره" -مكان إعداد القهوة-، فما أن شب ناره حتى تفقد بهارات دلة القهوة، فلم يجد فيها البُن، ولم يستطع الذهاب إلى الديرة القريبة منه ليحضره منها، فاحتار ماذا يصنع هل يعتذر للضيوف لهذا السبب؟، حيث لن يصدقوه، بل سينعتونه بالبخل، أم يذهب في هذا الليل المظلم ليحضرها؟، معرضاً نفسه للخطر، وقد لا يعود إلاّ مع الفجر، فدخل على زوجته مستنجداً طالباً رأيها، فلما رأت حيرته بددتها بابتسامة الواثق من الحل الذي سينقذ الموقف فقالت له: اصعد الى سطح الجِصة وستجد ما تريد، فلما صعد دهش لوجود صرار من القماش، فلما أنزلها وحل أحدها وجد فيها عدد من حبات البن التي تكفي لطبخة من القهوة، فسر بذلك، وذهب غمه والتفت الى زوجته متسائلاً عن سر وجودها؟، فقالت كنت أعمد إلى وضع جزء يسير من البن في قطعة قماش كلما أحضرت كمية جديدة من البن، فأرمي بها في أعلى سطح الجصة، لعلنا نحتاج إليه في قادم الأيام، وها هي الحاجة حضرت، حيث أنقذت الموقف، ولكن خذ صرة منها ودع الباقي مكانه، وبعد ذهاب الضيوف اذهب وأحضر لنا بنا جديدا، ودع هذه للحالات الطارئة فتم لها ما أرادت.
جفرة الدبس أسفل الجِصة
باب مزخرف للجِصة
أواني تقديم التمر
التمر قبل وضعه في المخزن
البيوت القديمة احتوت على الجِصة كعنصر مهم في البناء
حمود الضويحي
المصدر : جريدة الرياض - إعداد - حمود الضويحي